20-يوليو-2023
الشاعر السوري أدونيس (Getty)

الشاعر السوري أدونيس (Getty)

في أواخر آذار/ مارس الفائت، زار الشاعر السوري أدونيس المملكة العربية السعودية بدعوة من "أكاديمية الشعر العربي"، حيث حظي باستقبال حافل رافقه جدل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي حول مواقفه من السعودية، التي سبق أن انتقد تديّنها وثقافتها ونظامها السياسي.

من الذي تغيّر، أدونيس أم السعودية؟ كان هذا هو السؤال الذي رافق الزيارة في مواقع التواصل الاجتماعي، فاستعاد روّادها مواقف أدونيس من المملكة التي اعتبرها في وقت سابق دكتاتورية دينية، واعتبر في مناسبات أخرى أنها ضد العقل والعقلانية.

أساء أدونيس للسعودية عندما انتقدها بصورة نمطية استشراقية، وها هو يسيء إليها وإلى نسائها وإن بقصد المديح

ولأن تأثير الزيارة الأخيرة لم يتجاوز مواقع التواصل، مضت أيام أدونيس في المملكة بهدوء لناحية عدم حدوث ما قد يؤجج الجدل الذي رافقها، وليخفت كل شيء بعد مغادرته. وباستثناء ما قاله خلال زيارته، لم يتحدث أدونيس عن السعودية بعد أن غادرها. ولكنه قبل أيام قليلة، فاجأ السعوديين بما لم يتوقعوه، حيث تحدث خلال مشاركته في "مهرجان تويزا" بمدينة طنجة المغربية عن زيارته للسعودية من زاوية مختلفة تتعلق بالمرأة السعودية التي "تفاجأ" بأنها لم تعد "محجبة". إذ لم يصادف، حسب قوله، نساءً محجبات لا في المطاعم ولا في الفنادق ولا حتى في الشوارع. وحين حدث وصادف بعضهن، أخبرنه بأنهن لسن راغبات بارتداء الحجاب، وأنهن لا يفعلن ذلك إلا احترامًا لآبائهن.

لم يتحدث أدونيس عن الحياة الثقافية والإبداعية في السعودية، أو عن تغيرات في نظام الحكم تستدعي تغيرًا في آرائه، ولم يصادف في زيارته ما يثير اهتمامه وذهوله سوى غياب المحجبات، الذي اعتبره حدثًا تاريخيًا مدهشًا، تمامًا كما لو أن الحجاب كان المشكلة الوحيدة في السعودية التي لا يوجد فيها ما يستدعي الذهول سوى غيابه.

والمفاجئ أو المثير للانتباه في ما قاله أدونيس حول الحجاب هو قوله بأن المحجبات اللواتي صادفهن وأخبرنه بأنهن يضعن الحجاب احترامًا لآبائهن، فعلن ذلك بنوع من الاعتذار؛ صيغة فيها من الذكورة المفرطة ما يثير الأسى والضحك. ولأن أدونيس يرى أن الحجاب - بصيغة استشراقية صارت قديمة حتى بالنسبة للمستشرقين أنفسهم - هو المشكلة، كان لا بد له أن يرى غيابه حلًا، أما ما بين ذلك من استبداد ونضال ضده، ومطالبات حقوقية كلفت الناشطات السعوديات في كثير من الأحيان سنوات من أعمارهن، فلا يحمل كثيرًا من القيمة بالنسبة للشاعر "التنويري".

لا يتجاوز هذا الحديث عن تغيير تاريخي مجرد مبرر بالنسبة لأدونيس للذهاب إلى دولة انتقدها بحق وبغير حق كثيرًا، لكنه أراد لهذه الزيارة أن تبدو فتحًا شخصيًا، فيه ما فيه من امتلاء بالذات. فعدا عن مسألة الحجاب، قال إنه حين أراد زيارة السعودية، أخبره موظفو سفارتها في باريس بأن هناك فتوى لقتله أصدرها ابن باز، المفتي السابق للمملكة، وأن الشخص الذي اتصل به من أجل دعوته لزيارة السعودية، مؤخرًا، قال له إنه لم يكن يجرؤ على التلفظ باسمه.

قابل سعوديون ما سبق بالسخرية أحيانًا، والاستهجان في أحيانٍ أخرى، بالإضافة إلى التشكيك في ما قاله عن الحجاب وعن فتوى ابن باز، التي لم يسمع بها أحد من قبل سواه. كما تساءل كثيرون عن السبب الذي دفعه لتجاهل الجوانب الثقافية والفكرية والتركيز فقط على الحجاب بعد كل ما حظي به من حفاوة.

خلاصة ما جاء به أدونيس أن نزع الحجاب بوصفه "حدثًا تاريخيًا مدهشًا" هو، دون غيره، أكثر ما يدل على انفتاح المملكة العربية السعودية التي يرى أنها كانت من قبل "مقبرة". وهو هنا لا يكلّف نفسه عناء الحديث أو حتى الإشارة إلى واقع الحريات في المملكة، أو الواقع المركب للمرأة السعودية نفسها. وقد سبق للرجل أن تجاهل ما ارتكبه نظام الأسد "الشرعي" حسب رأيه بحق شعبه الذي لم يؤيد ثورته لأنها خرجت من المساجد.

أساء أدونيس للسعودية عندما انتقدها، بصورة نمطية استشراقية، وها هو يسيء إليها وإلى نسائها وإن بقصد المديح. وما بين وجهي الإساءة، تاريخ طويل من الأفكار النمطية حول الدين والثورة والحجاب والثقافة والحداثة. غير أن المفارقة هي أن صاحب "الثابت والمتحول" لا يستطيع حتى مواكبة الخطاب الاستشراقي الذي يتبناه، وفهم المتحول فيه، فهذا الخطاب لم يعد بعد عقود من الكتابات النقدية التي ساهمت فيها نسويات مسلمات ومنهن سعوديات، سوى بلاغة يمينية فجة. هذا هو سياق ما قاله أدونيس، وهنا اختار "الشاعر الحداثي" أن يكون.