28-أكتوبر-2022
 اليونان القديمة

رسوم على آنية إعريقية

"يركض لاهثًا على شفير الهاوية، في جانبٍ تنتظره سنوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار".

  • إدواردو غاليانو في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل"

 

 

يُلاحظ قارئ سيَر القدماء مِن الشعراء الذين وصلتنا إبداعات قرائحهم، العلاقة الوثيقة بين إنشاد الشعر وممارسة الرياضة كتمرين حياتي معاش وغير منفصل عن باقي المشاغل اليومية لدى طائفة مهمة من الشعراء الأفذاذ، وعلى وجه الخصوص لدى الشعراء الصعاليك، هذا عندما يُمعن القارئ النظر في سيرهم الذاتية إلى جانب قراءة أشعارهم، وبالأخص منهم الشعراء الذين إلى جانب إجادة فن تأليف الشعر وإلقائه كانوا أقوياء في سرعة الجري والعَدوِ، حيث تذكر المرويات أن الكثير منهم كان يُحسن ركوب الخيل والإغارة عليها ليلًا نهارًا، كما عُرفوا بالبأس الشديد وخفة التنقل والرشاقة الفائقة؛ حتى اشتهروا بين الناس بمسمى العدائين الأوائل، وقد ضُربت الأمثال بهم في قوة الجري حيث يُقال مثلًا: "أعدى من السليك" أي من الشاعر الجاهلي السليك بن السلكة الذي لُقب بالرِّئبال أو بالذِّئب الجريء لأنه اتصف بالجرأة والفتك، و"أعدى من الشنفرى" أي من الشاعر ثابت بن أواس الأزدي.

كانت العلاقة وثيقة بين إنشاد الشعر وممارسة الرياضة كتمرين حياتي معاش وغير منفصل عن باقي المشاغل اليومية لدى طائفة مهمة من الشعراء الأفذاذ

كما أن توفر الخصلتين في شخص واحد كان دارجًا في تلك الأيام، وعلى سبيل المثال فعنترة بن شدّاد وفق المسرودات عنه كان إلى جانب تأليف الشعر فارسًا، حيث عُرف بالشجاعة والإقدام، حتى صارت شهرته تبلغ القاصي والداني وأضحى قائدًا لكتائب بني قومه عبس، يصد المهاجمين ببسالة، ويقاوم المغيرين على مضارب ذويه، ويدافع عن معاقل عشيرته ويغزو ديار أعدائها، وإلى جانب شعره فالذي جعل سيرته على الألسن هو بسالته في حرب داحس والغبراء الشهيرة، حيث أثبت فيها لقومه بل للقبائل ككل أنه الفارس الذي يتحدى بسيفه حلكة الليل وأنياب الأسود.

وفي عصرنا الحالي ثمّة صورة جميلة للشعراء العدائين الذين اجتمعت لديهم الخصلتان معًا، أي الصحة البدنية كأناس رياضيين وأصحاب أجسادٍ رشيقة والشاعرية والتحليق عاليًا على بساط التخيلات، فنقرأ في رواية الأديب السوري سليم بركات كهوف هايدراهوداهوس: "حلقات سباق الهوداهوس الشعراء يلقون أشعارهم وهم يركضون إلى أن يستنفد أحدهم الهواء من رئتيه فيسقط سريعًا من الإرهاق فيخسر".

كما هنالك علاقة وثيقة بين صحة جسد المرء وعقل صاحبه؛ وحيث قيل قديمًا بأن العقل السليم في الجسم السليم، وفي هذا الجانب نقرأ في سير الفلاسفة أن أفلاطون إلى جانب اتقاده الذهني كان قوي البنية وصحيح الجسم، وذلك بخلاف الكثير من أهل المنتجات العقلية  في زمننا الراهن الذين يهملون الصحة البدنية لصالح الصحة العقلية لاعتقادهم بأنهم بغنى عن الجانب العضلي فيهم، بما أن رأسمالهم في قمة البدن أي الرأس وليس في أطراف الجسد؛ وبالمقابل يحصر بعض الرياضيين جل اهتمامهم في عضلاتهم ناسين بأن رياضة العقل أيضًا مهمة لئلا يطاله الضمور، وأن العقل بحاجة ماسة إلى بعض التمارين كما هو حال أطرافه.

ومن كل بد أن الصحة الجسدية ليست مهمة فقط ليعيش المرء على الأقل نصف عمره بعيدًا عن المشافي والأمراض وغرف العناية المركزة، وهي ليست مهمة لإطالة العمر والعيش مع الجسد بدون منغصات وعلل يومية فحسب، أو من أجل أن يُحصِّل المرء لقمة العيش بكده وعرق جبينه بناءً على صحته التي تساعده على العمل يوميًا لساعاتٍ طوال، إنما الجسد الصحيح قد يُخلص المرءَ من عددٍ كبيرٍ من المواقف المحرجة في الحياة خاصةً في الدول المفتقرة للأمان والعدل والقانون.

 كما أن الجسم السليم قد يكون سببًا رئيسيًا لإنقاذ المرء من الموت المؤكد مثلما كان الحال مع الدكتور فيكتور فرانكل في "بحث الإنسان عن المعنى" الذي يذكر في قسم السيرة الذاتية أن صحته الشخصية وقوته البدنية كانت من الأسباب الرئيسية التي أنقذته من الرمي في أفران الغاز على غرار أقرانه من بني دينه اليهود، وذلك لأنه كان قادرًا على القيام بالأعمال الشاقة إبان اعتقاله من قِبل النازيين، بما أنهم كانوا يتخلصون من الكثير ممن غدوا وبالًا على إدارة المعتقل، إذ كان الذي لا قدرة له على العمل والإنتاج أكثر الناس عُرضة للتخلص منه بشكل سريع ورميه في فرن الغاز طالما أنهم لن يستفيدوا من طاقته، بل وحسب تصور النازيين آنذاك ووفق مسرود الكتاب الآنف الذكر أن مَن كان ضعيف البنية ظل وجوده يُشكل عبئًا عليهم، لذا لم يجدوا الحرج في تصفيته في الفرن، وهذا الأمر ينبهنا لأهمية الصحة الجسدية للمرء وحيث أنها قد تنقذه من الهلاك الحتمي.

عمومًا مع ذكر كل ما تقدم من الجوانب الإيجابية فليس هذا كل ما خطر ببالي حين البدء بكتابة هذه السطور، إنما الذي خطر ببالي وبقوة أكبر ربما هو الجانب السلبي المشترك بين بعض لاعبي رياضة كمال الأجسام وبعض الذين لا يرون أنفسهم إلاّ كمنتمين لعالم الخلق والإبداع، مع أن بعض القراء الذين سيصلون إلى هذا السطر قد تظهر على محياهم علامات الاستغراب جراء هذه المقاربة؛ خصوصًا وأن الكثير من المنتمين لدنيا الخلق على خلافٍ جذري مع لاعبي كمال الأجسام المشغولين طوال اليوم بعضلاتهم بخلاف الفريق الآخر الذي رأسماله الفكر وفضاء التخيل والتخمينات، والذي ينظر للمهووس بعضله على أنه شخص غير سوي من الناحية النفسية، ولكننا نقول لهم مهلًا يا اخوان: فلا يغرنكم مشهد التنافر الظاهر بين الفريقين والذي قفز بسرعة البرق إلى أذهانكم فبقيتم واقفين عند التصور ذاك، لذا لم يخطر على بالكم بالسرعة المتوقعة جوانب أُخرى تجمع بشدة بين الطرفين المذكورين.

يؤكد فيكتور فرانكل في "بحث الإنسان عن المعنى" أن صحته الشخصية وقوته البدنية كانت من الأسباب الرئيسية التي أنقذته من الرمي في أفران الغاز النازية

ومنها على سبيل الذكر أن بعض مَن نعرفهم ومَن سمعنا بهم مِن المشتغلين بالجوانب الخلقية راح واحدهم يبيع مصاغ الوالدة أو خرفان الأهل لكي يطبع بثمن النِعاج ديوانه أو مجموعته القصصية أو روايته، هذا من دون أي مراعاةٍ لظروف الأهل، ومن دون أي شعورٍ بالأسفِ على ما تسبب به من الضرر لعائلته التي كانت تستفيد من الخرفان، وطبعًا من دون حصوله على أيّ ضمانة على أن منتجه المعرفي سيعوِّض العائلة معنويًا بما هو أعظم من تلك الماديات المهدورة، أو أنه هو شخصيًا بعد صعوده للأعالي سيعوضها لاحقًا بعد عرض وتسويق بضاعته بقطيعٍ من الخرفان، بل ومنهم مَن تعاظمت مغامرته وباع الحقل الذي يؤمن الكفاف لعائلته بغية مشروعة الفني أو الأدبي الذي قد يكون الفشل حليفة منذ البدء، ورغم ذلك يُضحي بمصادر قوت العائلة برمتها كرمى ممارسة هوايته.

والأمر نفسه يتكرر مع بعض لاعبي كمال الأجسام الذين يضحون بالغالي والنفيس لدى الأهل من أجل تضخيم العضلات أو من أجل الفوز ببطولةٍ ما وهي عمليًا لن تقدم لهم على الأغلب 10% من النقود التي صرفها اللاعب على جسده قبيل تقديم البطولة، ومن هؤلاء كنتُ أعرف شخصًا في مدينة حلب السورية كانت عائلته تمتلك بقالية تعيش من ورائها، إلاّ أن هوَس ابنهم برياضة كمال الأجسام كان السبب بأن تضطر العائلة إلى بيع الدكان بربع القيمة لإدراكهم أن ابنهم يأكل يوميًا من علب التونا والسردين والمرتديلا والبيض أضعاف ما تدر البقالية  عليهم من أموال.

وعن مهووسي تلك الرياضة يُحذر اللاعب والمدرب في رياضة كمال الأجسام محمد شعبان أحمد، المعروف باسم "جانتي شعبان"، الرياضيين الشباب من ترك حياتهم وأعمالهم وأهاليهم كرمى المشاركة في بطولات كمال الأجسام، قائلًا لهم: لو فعلًا فيها خير وتفيد البطل من الناحية المادية فمستعد هو شخصيًا أن يدعم الشباب للمشاركة في تلك البطولات؛ لا أن يستلف اللاعب النقود من هنا وهناك ويتسول من هذا وذاك من أجل شراء الهرمونات والبروتين، وفي الأخير إن حصل على البطولة يعطونه شهادة هي عبارة عن ورقة أو ميدالية وعلبة بروتين وكلها لا تسوي 5% من النقود التي صرفها ذلك الشخص على عضلاته كرمى الحصول على اللقب الذي لن يفيده بشيء، إلاَّ اللهم قد تساعده في المشي كالديك الرومي في الشارع أو التباهي بين أقرانه بعضلاته أو بالميدالية التي حصل عليها على حساب كل أفراد أسرته.

والرياضي الذي نحن بصدد الحديث عنه مستعد أن يحرم كل أفراد عائلته من الغذاء اليومي الذي يحتاجون إليه لقاء حصوله لوحده على كل جرعاتهم الغذائية لتضخيم عضلاته حتى ولو كان تضخيمها سيكون مقابل هزالة وضمور وشحوب كل  أفراد الأسرة!

وبخصوص أنانية النموذجين المذكورين فثمة محطات غير سارة تفضي إليها تصورات فريق من المبدعين كالشعراء والفنانين وفريق من رياضيي ألعاب القِوى وخاصة رياضة كمال الأجسام، منها تضخم الذات والانهماك بها إلى الدرجة التي بلغها نرسيس، والاعتقاد بأنهم غدوا في مقام الطليعيين والمنقذين في مجتمعاتهم، حالهم كحال الرسل والأنبياء والقادة العظام المنشغلين بتقدم وتحرير وخلاص مجتمعاتهم، بينما اخواننا المشار إليهم في الأعلى من المنتمين لفيالق الرياضيين والمبدعين فكل دوراناتهم الإبداعية هي في الحقيقة حائمة في فلك أناهم، وطوافهم ليس لتحريك القطارات أو العربات أو المعامل، ولا انفجاراتهم الداخلية هي لأجل تشغيل المحركات، أو إيصال الضوء للماكثين في العتمات، أو نشر المغذيات الضرورية لمن كانت الفاقة تضرب مضاربهم، إنما جل نشاطهم وكفاحهم هو من أجل تألق الأنا وانتصار الذات وليس تقدم الذوات أو نهضتها كما يزعمون.