09-نوفمبر-2022
غرافيتي لـ بانكسي

غرافيتي لـ بانكسي

في كتابها "انظر إلى الأضواء يا حبيبي" الصادر عام 2014 تؤرخ الفرنسية آني أرنو لمركز تسوق في أوشان الفرنسية. ثمة فجوات زمنية بين تواريخ النصوص التي تتوالى على مدى صفحات الكتاب. بين الزيارة والزيارة، لا تقول أرنو شيئًا. زياراتها إلى مركز التسوق الضخم هو ما يستحث الكلام ويستحق أن يُحكى عنه. بين زيارتين، يمكنها أن تنام وتعشق وتضجر وتأكل وتشرب قهوتها، وتمارس كل هذه النشاطات التي لم تعد تعرّفها، ولم تعد تستحث الكلام.

تكتب آني أرنو في ملاحظة المسالك التي يتبعها الناس في هذه المراكز. وتكتب أيضًا في التغيرات التي تطرأ على هذه المساحة المشتركة كل حين. وفي وسعنا أن نلاحظ أن تغيير القوانين في المركز التجاري، وتحديد ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به

نظلم أرنو إن حسبنا أن كل هذه الحالات لم تعد تحرك فيها الرغبة بالكلام والحديث عنها. لكن الكتاب، حين نعامله ككائن يتنفس يفصح بلا التباس، بأن العالم الذي ما زال قابلًا للتأمل والتفكر فيه هو العالم الذي يدبر شؤونه مركز التسوق هذا أو أي مركز تسوق آخر.

تكتب آني أرنو في ملاحظة المسالك التي يتبعها الناس في هذه المراكز. وتكتب أيضًا في التغيرات التي تطرأ على هذه المساحة المشتركة كل حين. وفي وسعنا أن نلاحظ أن تغيير القوانين في المركز التجاري، وتحديد ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به، يتم بيسر وسهولة ومن دون عودة إلى الزبائن وهم روح المكان ومسكته وكل أسباب بقائه مضاء. تقرر الإدارة لسبب يجهله الزبائن، أنه من الأفضل أن تقام زاوية الكتب في هذه الطبقة من المبنى دون الأخرى، وعلى الزبائن أن يكتشفوا مكانها الجديد، وأن يخضعوا طبعًا للقوانين التي تفرضها طبيعة المكان الجديد، وحدوده وأثاثه. مع ذلك، تلاحظ أرنو أن الناس لا تثور على تلك القوانين. المفارقة اللامعة تقع هنا بالضبط. تلاحظ أرنو أن العلاقات التي تنشأ في المركز التجاري هي علاقات اجتماع بامتياز. وأن كل ما يجري هناك يقرر بعض سلوكات الناس وأفكارهم ويحدد حاجاتهم، أو يؤطرها على نحو تقرره الوفرة والسعر والمناسبة، وتشرف على تقريره وتظهيره إدارة المركز. لكن زبائن المركز يستمرون، على نحو ما، في اعتبار وقت التسوق وقتًا مهملًا، ولا يجدر بهم إدراكه أو عقله، وتاليًا النظر في شأنه وتقرير ما إن كان يجدر بهم الثورة على قوانينه أو الاعتراض على متغيراته. لهذا، ولأنهم يحسبون أن كل الوقت الذي يمضونه في هذا المركز هو وقت غير معرّف، يتعاملون مع التغييرات بخضوع لا مثيل له. (لن تجد الصابون اليوم في مكانه المعتاد وعليك أن تفتش على مكانه الجديد، لكنك لن تعترض ولن تقاطع).

ما يميز الزبون عن المواطن في هذا المقام، يتعلق برغبة الزبون في تبرير جنوح إدارة المركز التجاري إلى تغيير القوانين. على الزبون نفسه أن يفكر في الأسباب التي دعت بإدارة المركز إلى إزالة الأثاث من قسم بيع الصحف والمجلات والكتب ويبررها، وعليه أيضًا أن يفكر في الأسباب التي دعت الإدارة إلى الإكثار من عمليات تفتيش الزبائن عند خروجهم من المركز. وسيتسامح الزبون طبعًا مع خلل في بعض الوظائف التي يؤمنها المركز. كأن يجد طابورًا طويلًا أمام صندوق الدفع السريع، أو أن يلاحظ أن معظم صناديق الدفع الآلية معطلة.

الزبون بهذا المعنى، ورغم أنه يموّل أرباح المركز التجاري الفائضة، لا يثور على قوانينه التي يبدو بعضها تعسفيًّا حقًا. لكنه حين ينهي تسوقه ويعود إلى صفته كمواطن، لا يعود متسامحًا مع أي أحد أو شيء. تغضبه أحوال السائقين ومسالكهم، ويوقع عرائض ضد هذا القانون أو ذاك، ويبدي رغبة حارة في التهرب من دفع الضرائب إن أمكنه. كما لو أن المواطن الحديث لم يعد يرى للدولة السيدة أي وظيفة على الإطلاق غير إزعاجه، في حين أنه يخضع عن طيب خاطر إلى كل القوانين التي تسنها المراكز التجارية وتفرضها عليه. ذلك أن المواطن في حقيقة الأمر يتشارك في مواطنيته مع من يعتبرهم أقل من مواطنين، لكنهم يتمتعون الحقوق نفسها التي يتمتع بها، في حين أن كل قوانين المراكز التجارية تبدو له وكأنها وضعت لحماية تميزه وإبراز تفرده واستحقاقه. ذلك أن تلك القوانين لا تعبأ بالمساواة بين الأفراد بوصفهم أفراد، ولا تريد منهم سوى إثبات حقيقة أنهم قادرون على الدفع والامتثال. وعليه تطرد المراكز التجارية من كنفها المشاغبين والثوريين والمعوزين والمعتلين، وتبقي فقط على الأصحاء والممتثلين والمتمكنين والملتزمين بالأنظمة والقوانين.