29-يونيو-2019

تواجه إسطنبول تحديات اقتصادية عديدة (Getty)

يعكس هذا المقال المترجم عن صحيفة فورين بوليسي الأمريكية، أحد الآراء التي تقال في تفسير فوز إمام أوغلو في انتخابات إسطنبول، وخسارة حزب الرئيس التركي للمدينة لأول مرة منذ فترة طويلة. وهو فوز كما يوضح المقال سابق الذكر، لا يبدو كافيًا من أجل إنقاذ الوضع في إسطنبول.

تعكس حقيقة انتخاب أهل إسطنبول لقيادة جديدة للمرة الثانية هذا العام، رغبتهم في مدينة أكثر حيوية تستخدم فيها الموارد لخدمة السكان بدلًا من الأفراد والمؤسسات المقربة من الحكومة

في المناظرة المتلفزة التي أقيمت قبيل انتخابات بلدية إسطنبول، قال بن علي يلدرم مرشح حزب العدالة والتنمية الذي خسر الانتخابات مرتين هذا العام، إن عدد سكان إسطنبول تقلص للمرة الأولى في تاريخها، وذلك بسبب تطوير حزبه للبنى التحتية في جميع أنحاء الأناضول، فبدأ الناس يعودون إلى مدنهم وقراهم.  

اقرأ/ي أيضًا: عن أيامٍ عربيةٍ جميلة في إسطنبول

تعارض الأرقام الرسمية مزاعم يلدرم. ورغم أن عددًا كبيرًا بلغ 595 ألف شخص غادروا المدينة العام الماضي بالفعل، إلا أن عدد سكان إسطنبول زاد في الحقيقة زيادة طفيفة في عامي 2018-2017، بفضل الهجرة المحلية والزيادة الطبيعية في عدد السكان. لكنه محق في أن عددًا كبيرًا من الناس، أكبر من أي وقت مضى، يغادرون المدينة سعيًا وراء الكلأ. لكن تبريره لهذا الأمر أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالفوضى والزحف العمراني الخانق والانكماش الاقتصادي يدفعهم للهروب، أكثر مما تجذبهم البنية التحتية في أماكن أخرى.

يقول تيمور كوران، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة دوك، إن "المحرك الأساسي لهجرة السكان من المدينة هو الركود العميق الذي أصاب تركيا. يعود العاطلون عن العمل من ذوي الأصول الأناضولية إلى قراهم حيث أصدقاؤهم وعائلاتهم مستعدون لمساعدتهم. ففي زمن الفاقة، يصبح أسهل على المرء أن يحصل على المساعدة في البيئة التي ترعرع فيها".

ليس من قبيل الصدفة إذًا أن يحقق مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو فوزًا مبهرًا في الانتخابات خلال فترة الهجرة خارج المدينة. وسيكون بذلك أول عمدة لإسطنبول من خارج حزب العدالة والتنمية منذ ربع قرن. اتسم حكم الحزب خلال تلك الفترة بالهدر في الإنفاق وتخصيص 100 مليون دولار لصالح منظمات دينية مقربة من حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة. والأدهى من ذلك أن تكلفة الحياة في إسطنبول صارت باهظة للغاية في ظل تراجع الليرة التركية. وارتفعت أسعار إيجارات المنازل فيها أكثر من أي منطقة حضرية أخرى في البلاد، وحرم التضخم ملايين من سكانها من الحصول على السلع الأساسية.

كانت معاناة المدينة بادية للعيان في الأسابيع التي سبقت الجولة الأولى من الانتخابات البلدية في آذار/مارس الماضي، وذلك حين نصبت عشرات الأكشاك في جميع أنحاء المدينة لبيع الخضروات المدعومة من قبل الحكومة المحلية التابعة لحزب العدالة والتنمية. ثم فككت هذه الأكشاك التي لاقت إقبالًا من ذوي الدخل المنخفض، مباشرة بعد فوز إمام أوغلو في تلك الجولة. ألغيت نتائج تلك الجولة التي فاز فيها إمام أوغلو بفارق طفيف، لينفتح الطريق أمام هزيمة الحزب النكراء في انتخابات الإعادة. كانت الإحصائيات صادمة للغاية، فاز إمام أوغلو بـ 28 من أحياء إسطنبول الـ 39، من بينها بعض الأحياء المحافظة التي كانت أميل للتصويت لحزب العدالة والتنمية فيما مضى. ورغم أنه فاز بهامش ضئيل بلغ 13 ألف صوت في الجولة الأولى، إلا أنه في الجولة الثانية حقق نصرًا كاسحًا بفارق 800 ألف صوت. صحيح أن مئات الآلاف من السكان غادروا المدينة، لكن من بقوا فيها قرروا أن مدينتهم بحاجة لدماء جديدة.

يوافق كوران هذا الرأي قائلًا: "إسطنبول هي محرك الاقتصاد التركي. فهي تأوي نسبة كبيرة من أغنى سكان البلاد وأفضلهم تعليمًا. يقدّر مثل هؤلاء الناس الاستقرار السياسي وكذلك الحرية السياسية. وهم يحوزون أيضًا مهارات مهنية قابلة للانتقال. فالباحث الأكاديمي أو الطبيب يستطيع العمل في مكان آخر. وكذلك رواد الأعمال المبدعين بإمكانهم تطبيق ابتكاراتهم في أماكن أخرى.

بالفعل غادرت أفواج من الموظفين المهنيين وأصحاب المهن الحرة والمتقاعدين مبكرًا المدينة إلى المناطق الساحلية، خصوصًا مدينة إزمير والمناطق المحيطة بها. وفي خضم حملة القمع الشاملة التي أعقبت انقلاب 2016 الفاشل، غادرت أعداد متزايدة من الطلاب وأساتذة الجامعات والموظفين المدنيين ومعارضين آخرين، المدينة والبلاد، بعضهم قطعوا تذاكر طيران دون عودة وآخرون خرجوا عبر طرق التهريب غير القانونية. وبتدفق المال والمواهب خارج المدينة، سيكون للأمر تأثيرات مدمرة على مستقبلها لم تتكشف بعد.

ظلت إسطنبول الحديثة مدينة للمهاجرين منذ بدأت أفواج الأناضوليين بالوصول إليها في خمسينات القرن العشرين. وتضاعف عدد سكان المدينة من 1 مليون نسمة في ذلك الوقت إلى 10 ملايين نسمة عام 2000. في عام 2018 قارب عدد سكانها الـ 15 مليون نسمة. تحولت المدينة إلى فسيفساء مذهلة من الثقافات واللهجات والمطابخ من جميع أنحاء البلاد. بنى المهاجرون أحياء عشوائية  غير رسمية متوسعة في كل ركن من أركان المدينة، تطور العديد منها إلى أحياء عريقة تضم مجمعات سكنية وشققية رسمية. ودمر بعضها لصالح إنشاء مشروعات كبرى، وناطحات سحاب ومشاريع إسكان فاخرة في جميع أرجاء المدينة، تحت قيادة أردوغان وحزب العدالة والتنمية.

اقرأ/ي أيضًا: أجمل 7 أغانٍ تصف مدينة إسطنبول

استفاد المقاولون المتحالفون مع حزب العدالة والتنمية من طفرة الإنشاءات، لكن بحسب كوران "فإن الإنشاءات الخرسانية الكثيرة سلبت المدينة سحرها. لم تعد هذه إسطنبول الساحرة والجميلة. هي تظل بالتأكيد واحدة من أجمل مدن الدنيا. لكن بالنسبة للأتراك الذين عرفوا المدينة قبل 20 أو 30 أو 40 سنة مضت أصبحت هذه الإنشاءات باعثًا لمقتهم وكراهيتهم. ومصدرًا لألم عظيم وغضب. وزادت من رغبة الناس للهجرة من المدينة بحثًا عن مدن أكثر اخضرارًا ومساحات مفتوحة أكثر.

استفاد المقاولون المتحالفون مع حزب العدالة والتنمية من طفرة الإنشاءات، غير أن تلك الإنشاءات الخرسانية الكثيرة سلبت المدينة سحرها. لم تعد هذه إسطنبول الساحرة والجميلة

تعكس حقيقة انتخاب أهل إسطنبول لقيادة جديدة للمرة الثانية هذا العام، رغبتهم في مدينة أكثر حيوية تستخدم فيها الموارد لخدمة السكان بدلًا من الأفراد والمؤسسات المقربة من الحكومة. فاز أكرم أوغلو بقلوب الناخبين بفضل طبعه الدافئ ومحياه المقبول للجميع، واستراتيجية حملته القائمة على طرح حلول للمشاكل الواقعية، وتعهده بأن يصير عمدة لكل الإسطنبوليين. لكن بحسب كوران، فمن المبكر القول بأن فوز إمام أغلو سيعكس حركة الهجرة من أكبر مدينة في تركيا، لكنه مع ذلك تطور حسن لمدينة استنزفت حتى آخر رمق فيها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هوامش الانتخابات التركية

لماذا يتجدد العنف بين الدولة والأكراد في تركيا؟