02-يونيو-2019

برهان غليون وكتابه

لم يكن أمرًا سهلًا ولا اعتياديًا أن يجد أكاديمي ومثقّف يعيش في الغربة منذ أكثر من أربعين عامًا نفسه، بين ليلة وضحاها، في قلب الصراعات السياسية السورية والإقليمية والدولية، مدفوعًا لتنسيق أعمال واحدة من أكبر الثورات الشعبية وأكثرها من بين ثورات الربيع العربيّ تراجيدية وتضحية وإثارة للجدل في الوقت نفسه. هكذا يبدأ المفكّر السوريّ برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوريّ السابق، كتابه الجديد "عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل/ سورية 2011-2012" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر).

من علاقة المثقّف بالعمل السياسي، وموقعه من التحوّلات الكبيرة التي تتطلّب مواقف واضحة، يبدأ برهان غليون فصول مراجعة الذات وتجارب المعارضة السياسية قبل الثورة وبعدها

المناصب السياسية وكذلك العمل السياسي بصورةٍ عامّة يُصادران حريّة واستقلالية المثقّف، ذلك أنّها ستضعه بصورةٍ مستمرّة في خضمّ الصراعات على مواقع السلطة والنفوذ. لهذا السبب، يقول غليون إنّ على المثقّف إن أراد البقاء بعيدًا عن هذه الصراعات، وأن يظلّ صوته مسموعًا كذلك، وله مصداقية عند الناس في هذه الفترة المضطّربة تحديدًا؛ ألّا يقبل بأي منصبٍ يُضيّق من دائرة حريّته، ويقوّض من استقلاليته، يخلّق فجوة بينه وبين الشعب.

اقرأ/ي أيضًا:برهان غليون يقدم سيرة شخصية لـ"وقائع ثورة لم تكتمل"

من هذه المسألة الإشكالية والشائكة بطبيعة الحال، أي من علاقة المثقّف بالعمل السياسي، وموقعه من التحوّلات الكبيرة التي تتطلّب مواقف واضحة، يبدأ غليون فصول مراجعة الذات وتجارب المعارضة السياسية قبل الثورة وبعدها. ويبيّن لنا هنا بأنّ الانتفاضة السورية كانت لها جدليتها الخاصّة التي ألغت الفوارق بين السياسة والفكر، وبين السياسيّ والمفكّر، حيث وضعت الجميع أمام مسؤوليات وجودية يتبدّى فيها المصير الجمعي والتاريخي على المصير المهني والفردي، دون التزاماتٍ تُذكر بذلك من جانب قادة وكوادر المعارضة السورية.

هكذا، تُصبح أي ممارسة سياسية منفصلة عن الالتزامات الأخلاقية والشعور العميق بهموم ومصائر الناس أوّلًا، والفكر ثانيًا، أي الثقافة الإنسانية؛ فساد مُطلق يجعل المنصب، أي منصب، لا يوحي لمن يشغله بأي معنى من معاني المسؤولية والالتزام، بقدر ما يتحوّل إلى مصدرٍ للثراء والارتزاق فقط.

المعارضة والحياة السياسية قبل الثورة

يقول برهان غليون إنّه عدا عن الخيبة الكبيرة التي صابت النخب المعارضة بعد فترة ربيع دمشق التي تلت موت حافظ الأسد، وانتقال السلطة إلى الأسد الابن، وكذلك سياسة القمع والدكتاتورية التي عادت لتتكرّس في عهد الأسد الابن سريعًا، تكرّست كذلك في تلك الفترة نزاعات وانقسامات أحزاب المعارضة السياسية التي نصبت بين بعضها البعض حواجز وعوائق تمنع وتحول دون التوصّل إلى أي اتفاقٍ فيما بينها. هكذا، تحوّلت المهمّة الرئيسية من العمل لإيجاد حلول تتعلّق بكيفية التعامل مع النظام، إلى تشجيع الأحزاب والقوى السياسية والناشطين على الخروج من السريّة لأجل فرض فكرة وجود معارضة. ولكن، قبل ذلك، مساعدة هذه الأحزاب على تجاوز خلافاتها وتذليل العقبات التي تحول دون تشكيل قطب ديمقراطي من شأنه أن يضمّ الجميع تحت جناحه.

يقول غليون في هذا السياق إنّ جهده آنذاك كان منصبًّا على التقريب شخصيتين كان لهما التأثير الأكبر والمسؤولية المُطلقة في الانقسام الذي أصاب المعارضة. أي رياض الترك، وحسن عبد العظيم. يصف الأوّل بأنّه كان رجلًا شجاعًا وجاهزًا دائمًا للعراك والسير على حافة الهاوية. ولكنّه في الوقت نفسه، وفي العمق، كان رجلًا قاسيًا لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه، أوتوقراطيًا نموذجيًا، ووسواسيًا مسكونًا بالظنون، لا يطمئن لأحد.

كان رياض الترك وحسن عبد العظيم قُطبي المعارضة السياسية في سوريا، ومشكلتها في الوقت نفسه

الطرف أو الرجل الثاني، أي حسن عبد العظيم الذي احتلّ منصب الأمين العام لحزب الاتّحاد الاشتراكي مكان جمال الأتاسي، يقول غليون إنّه كان رجلًا متأنيًا بطيء الحركة، ويكره المخاطرة، يفضّل السير بمحاذاة الجدار. وإصلاحيًا يكره العنف والمواجهة، ويبحث عن الحلول الوسط، أو تحت الوسط، كي يضمن الاستمرار في العمل السياسي في كلّ الظروف. أما الصفة المشتركة بين الطرفين، فهي التمسّك بالسلطة والقيادة وعدم الاستعداد للتنازل عنها بأي ثمن ولأي أحد. هكذا، اصطفّ خلف رياض الترك الراديكاليون والباحثون عن التميّز في تحدّي السلطة، ويقول غليون إنّهم كانوا غالبًا أحزابًا ذات اتّجاهات يمينية إسلامية وليبرالية. بينما اصطّف خلف عبد العظيم أصحاب التوجّهات القومية واليسارية والإسلامية، ممن يهابون المواجهة.

اقرأ/ي أيضًا: برهان غليون: الرهان دائمًا على الشعب

لا يتوانى من قدّم "المحنة العربية: الدولة ضدّ الأمّة" عن إظهار دهشته لجهة أنّ رياض الترك الشيوعي، على الأقل في الأصل والتكوين الفكري والسياسي، بدا كأنّه طلّق اليسار من أجل التحالف مع الليبراليين والإخوان المسلمين كذلك، بروح براغماتية صرفة. ولم يكن مستعدًّا للتعاون مع من لا يشاطره الرأي لجهة العلاقة مع النظام، ولهذا كان يشعر أنّ الإسلاميين أقرب إليه سياسيًا من اليساريين. بدوره، مثّل حسن عبد العظيم القوى القومية الشعبوية من أصحاب التوجّهات الإسلامية والمحافظة. بالإضافة إلى أصحاب التوجّهات اليسارية، والشخصيات الماركسية التي تردّدت في الانخراط في الحركة الشعبية خوفًا من أن يُساهم ذلك في مساعدة التيّارات الإسلامية على نيل الشرعية. إذًا، وكما يقول غليون، كان هذان الرجلان قُطبي المعارضة السياسية، ومشكلتها في الوقت نفسه.

ظلّت الخلافات بين قطبي المعارضة السورية، تكتل إعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطني، قائمةً حتّى بعد انطلاق الثورة التي أدرك الجميع حاجتها لقيادة سياسية تحوّل ما يحدث على أرض الواقع إلى إنجازات سياسية. وتؤمّن الاعتراف بها كانتفاضة شعبية بمطالب محقّة. يقول برهان غليون إنّ الرهان كان معقود على تكتل إعلان دمشق لجهة تشكيل قيادة سياسية للانتفاضة. ولكن الخلافات حول مسألة القيادة تحديدًا حالت دون التوصّل إلى اتفاق سياسي بين الأحزاب والقوى والتجمعات والشخصيات الناشطة في الداخل. هكذا، أعلنت المعارضة السياسية مبكّرًا إفلاسها، وخرجت بتكريس انقسام قصم ظهر الثورة بحسب تعبيره، وجعل من صراع المعارضة فيما بينها، أقوى من صراعها مع خصومها.

المعارضة السياسية السورية بعد الثورة

الخلافات بين المعارضة وارتفاع حدّتها كانت تُقابل بالأمل في إحداث أي تغييرات تجمعها معًا في صفٍّ واحد وإن لوقتٍ قصير. وبرهان غليون، كما يُخبرنا في هذا الكتاب، كان واحدًا من أشدّ المصابين بالأمل. ولهذا السبب، عمل طويلًا على مبادرات مشتركة مع ناشطين سوريين لتوحيد المعارضة، أبرزها اللقاء التشاوري الذي شارك فيه إعلان دمشق وهيئة التنسيق والتيار الإسلامي المستقل ومجموعة العمل الوطني.

يذكر المؤلف أنّ هناك اتفاقًا حصل بين المجتمعين ينصّ على إصدار بيان يعلن ائتلاف وطني سوريّ يجمع شتات المعارضة، باستثناء مجموعة العمل الوطني التي رفض ممثّلوها التوقيع وانسحبوا من اللقاء متمسكّين بمشروعهم الخاص لتشكيل مجلسٍ وطني. كان اللقاء الحدث الأوّل الذي يتّفق فيه إعلان دمشق وهيئة التنسيق على بيان مشترك منذ سنواتٍ طويلة، برفقة الإخوان المسلمين أيضًا.

الخلافات بين المعارضة وارتفاع حدّتها كانت تُقابل بالأمل في إحداث أي تغييرات تجمعها معًا في صفٍّ واحد وإن لوقتٍ قصير

البيان الذي وقّع عليه المجتمعون بشيء من السهولة، تنصّلوا منه جميعًا بعد أيام قليلة فقط بسهولة أكبر، تحت ذريعة عدم اقتناع الأطراف الموقّعة بجديّة بضعها البعض. مثّل الأمر ضربة كبيرة لبرهان غليون الذي أدرك من جديد حالة انعدام ثقة المعارضة ببعضها البعض، وخوفها من التعاون، وسعي كلّ طرف للانفراد بقيادة العمل بدلًا من الآخر.

اقرأ/ي أيضًا: برهان غليون: ابتعدنا كثيرًا عن حلم الديمقراطيّة

ليس الأمل وحده المسؤول عن دفع الناشطين لإطلاق مبادراتٍ جديدة للجمع بين أحزاب وتيّارات المعارضة، وليس الأمل نفسه ما كان يدفع برهان غليون للقبول بها، والعمل لأجلها، وإنّما الإدراك العميق بأهمية وجود قيادة سياسية للانتفاضة الشعبية. هكذا طُرحت مبادرة المجلس الوطني السوري، وقبل بها غليون على أمل أن تخرج بالإعلان عن تأسيس المجلس فعلًا.

وضع غليون قبل العمل ثلاثة شروط؛ تمثيل جميع القوى والتيّارات السياسية المعارضة، والحفاظ على التوازن في التمثيل بحيث لا يهيمن طرف على آخر، واعتبار ما نتج عن الاجتماع للمجلس إعلانًا لمجلس وطنيّ سوريّ جديد، لا عملية توسيع أو إصلاح للمجلس القديم الذي شكّلته مجموعة العمل الوطني. ضمن برهان غليون من خلال هذه الشروط ألّا يهيمن لون واحد على المجلس، أي اللون الإسلامي بمختلف تظاهراته، خصوصًا في ظلّ مسعى مجموعة العمل الوطني لاعتبار أنّ المجلس الجديد عملية توسعة للمجلس السابق، لعلّها بذلك تتمكّن من الحفاظ علي هيمنها عليه.

تحت ضغط الناشطين والجمهور معًا لتذليل روح المناورة والتلاعب والمكابرة لدى نخب يقول غليون إنّها لم تمارس السياسة إلّا كنزاعات على سلطة ونفوذ وهميين داخل تجمّعات وأحزاب تعيش هي نفسها في عزلة عن الشعب والجمهور، وتصطّف إلى جانب بعضها كالفقاعات، وتفتات من سم المؤامرات التي يكيلها كلّ طرفٍ للآخر؛ عُقد أخيرًا الاجتماع التأسيسي للمجلس الوطني السوري إسطنبول نهاية أيلول/سبتمبر 2011، ودُعي إليه تجمّع إعلان دمشق، وممثّلون عن لجان التنسيق المحلّية، وهيئة التنسيق الوطنية، والهيئة العامة للثورة، ومجموعة العمل الوطني، والمنظّمة الآثورية.

ويؤكّد صاحب "ما بعد الخليج أو عصر المواجهات الكبرى" أنّ الاجتماع لم يخلوا من مناورات بعض الأطراف لانتزاع حصّة الأسد من المقاعد ومراكز النفوذ. هكذا، خرج يومها بانطباع أنّ لا أحد من المشاركين يريد فعلًا العمل مع الآخرين. وأنّ أغلب الأطراف قبلت التوقيع على الاتفاق من باب الحسابات الخاصّة فقط، وتقوية نفسها ماديًا وسياسيًا.

كان المجلس الوطني السوري زواجًا قبلته الأحزاب المعارضة بالإكراه لتجنّب خروج الأمور عن السيطرة، بحسب برهان غليون

بهذا المعنى، كان المجلس زواجًا قبلته الأحزاب المعارضة بالإكراه لتجنّب خروج الأمور عن السيطرة، بحسب برهان غليون الذي قد رأى بأن الإنجازات قد تساعد على تجاوز الخلافات وتعزيز وحدة المعارضة. ولكنّ الإنجازات نفسها لم تستطع أن تُخفي حقيقة أنّ المجلس فاقد للانسجام الداخلي، عدا عن أنّه ساحة عراك كبيرة لتقاسم إرث النظام قبل أن يسقط. أمّا الأمر شديد الأهمية التي يؤكّد عليه غليون، فهو أنّ المجلس تأسّس بفعل جهود سورية خالصة، دون أن يكون لأيّ دولةٍ أو قوّة أجنبية دورًا في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: "الدولة ضد الأمة".. خراب العالم العربي

المُلفت والمُدهش بحسب صاحب "النظام السياسي في الإسلام" هو خسارة المعارضة السياسية لكلّ الإنجازات والمكاسب التي حقّقها المجلس الوطني، وذلك بفعل سوء الإدارة أوّلًا، وتقلّب القيادات ثانيًا، وغياب الاهتمام بالعمل الطويل والجاد، والاعتقاد بحتمية التدخّل الدولي واقتراب ساعة انهيار النظام. وأعطى كلّ ما سبق للأعضاء انطباعًا بأنّ الهدف، أي إسقاط النظام، بات قاب قوسين أو أدنى. ما يعني أنّ الوقت قد حان لتقاسم المغانم التي فجّرت تناقضات المجلس الداخلية وأخرجتها إلى العلن.

بعد تأسيس المجلس، انتقلت نزاعات المعارضة من كونها نزاعاتٍ وصراعاتٍ بعيدة من حيث المسافة بين كلّ طرفٍ وآخر، إلى نزاعاتٍ قريبة، وجهًا لوجه، وتحت سقف المجلس الوطني، والهدف واحد كذلك، أي القيادة والنفوذ. وعدا عن ذلك، يذكر غليون أنّ نشاط بعض الأطراف والتيّارات السياسية داخل المجلس ركّزت نشاطها على تقويض شرعية المجلس في الساحتين الغربية والعربية. ناهيك عن مهاجمة الرئيس، أي غليون، بصورةٍ مستمرّة، ولأهداف واضحة.

امتلك تكتّل إعلان دمشق النفوذ الأكبر داخل المجلس، باعتباره أوّلًا ينوب عن القوى الديمقراطية في مقابل الكتلتين الإسلاميتين. وكذلك، بحكم تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين القريبة منه سياسيًا. برهان غليون كان يرى أنّ وجود التكتّل داخل المجلس بمثابة ضمانٍ رئيسيّ للحفاظ على الخطّ الديمقراطي والوطني للثورة، ومصدرًا للخبرات النضالية التي لا شكّ في أنّ المجلس كان بحاجة إليها. غير أنّ سلوكه وتصرّفات أعضائه دفعت غليون للاعتراف بخطئه، واكتشاف أنّ إعلان دمشق، وبعد انسحاب أحزاب هيئة التنسيق الوطني منه عام 2007، فقد معظم قوّته السياسية والماديّة.

الإسلاميون بصورةٍ عامّة، والإخوان بصورةٍ خاصّة، ظهروا داخل المجلس الوطني السوري كما لو كانوا طيفًا لا مستقلًّا فقط، وإنما نافرًا كذلك

التكتّل ببساطة واختصار شديد، وكما جاء في كلام برهان غليون، كان داخل المجلس الوطني قوّة نابذة في لحظة سياسية تستدعي التجمّع والتكتّل مع القوى والشخصيات المعارضة الأخرى. وكان كذلك مصرًّا على اعتبار نفسه القائد الفعلي للمجلس، ويريد منه أن يطبّق كلّ ما يمليه عليه. وظهر هذا النزوع نحو القيادة من خلال موضوع مدّة ولاية رئيس المجلس، حيث اقترح ممثّل الإعلان أن تكون الرئاسية تداولية، وألّا تتجاوز مدّة الولاية أكثر من شهرٍ واحد. الهدف من ذلك بحسب غليون هو عدم السماح بتكوين مركز قيادة حقيقي للمجلس، وتحويل مركز الرئاسة إلى وظيفة رمزية خالية من المضمون، ما يعني الغائها.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة مختلفة للثورة السورية في 3 كتب

بعيدًا عن تكتل إعلان دمشق، يذهب غليون نحو نقد دور القوّة الثانية المؤثّرة داخل المجلس، أي جماعة الإخوان المسلمين الذي يؤكّد غليون أنّهم لم يطمحوا لأن ينتزعوا قيادة المجلس، ذلك أنّ المجلس نفسه لم يكن يعني لهم الكثير، ولم يتعاملوا معه إلّا باعتباره غطاءً سياسيًا يضمن لهم متابعة نشاطهم الخاص والمستقل عن بقية التيّارات داخل المجلس. وتعود هذ الرغبة الدائمة بالعمل المستقل إلى انعدام ثقة الجماعة بالتنظيمات الأخرى، العلمانية منها تحديدًا. وكذلك، اعتمادهم خلال السنوات الطويلة الماضية على العمل المنفرد.

الإسلاميون بصورةٍ عامّة، والإخوان بصورةٍ خاصّة، ظهروا داخل المجلس كما لو كانوا طيفًا لا مستقلًّا فقط، وإنما نافرًا كذلك. وهذا الأمر لا ينطبق على المجلس الوطني وحده، وإنّما على كلّ الأطر الائتلافية التي يشاركون فيها. فالإخوان تحديدًا لا مانع لديهم من الانتماء في الوقت نفسه إلى أكثر من ائتلاف، والهدف أن يظلّوا في صورة ما يحدث فقط، دون التخلّي عن الاستقلالية. هكذا، تكون مشكلة الإخوان كما يوضّح لنا برهان غليون لا في براغماتيتهم السياسية، وإنّما في تقبّلهم للتبعية نتيجة حاجتهم إلى الحماية التي افتقدوا إليها. وكان للجماعة كذلك دور كبير في تشتيت القوى المسلّحة التابعة للجيش الحر، من خلال تأسيس "هيئة حماية المدنيين" أوّلًا، ومن خلال محاولاتها شراء ولاءات بعض العشائر من أجل تشكيل جيش تابع لهم مباشرة، بعيدًا عن مسعى المجلس ككل لخلق قيادة موحدّة للفصائل، تكون على أسس وطنية، لا عقائدية.

من جهتها، تعاملت مجموعة العمل الوطني مع المجلس باعتباره كذلك ملكًا شخصيًا، ومشروعًا مسجلًّا باسمهم قبل أن يُنتزع منهم. لذلك، كان وجودهم داخل المجلس سبيلًا للسعي بجميع الوسائل، شرعية وغير شرعية، لاستعادة قيادته، من خلال سياسية احتلال أكبر عددٍ من المراكز والمواقع القيادية داخله، وفرض نفسها داخل المجلس وخارجه كقوّة سياسية صاعدة. والحقيقة أنّ المجموعة بحسب غليون كانت تتحمّس لكلّ القرارات التي تخدم مصالحها، بينما لا تتردّد إطلاقًا في رفض أو تعطيل أي مشروعٍ لا يعود عليهم بالفائدة.

كلّ ذلك جعل من المجموعة أقرب إلى مجموعة ضغطٍ، لوبي، أكثر منها شريكًا ضمن إطار وطني جامع بأهداف واضحة وصريحة. ومن الجيد ذكر أنّ غالبية أعضاء المجموعة كانوا من شباب الإخوان المسلمين الذين فقدوا الثقة بقيادتهم التاريخية التي فرضت عليهم وعلى نفسلها عزلةً طويلة الأمد، وخياراتٍ وآفق محدودة كذلك، وعلاقات متوتّرة مع التنظيمات والتيّارات السياسية الأخرى. الهدف من المجموعة كما يبيّن لنا غليون هو تجاوز قيادة الإخوان، والتخفّف من الأيديولوجية الإخوانية، مما جعل من علاقتها مع التنظيم الأم داخل المجلس علاقة ملتبسة. وعلى غرار التنظيم الأم أيضًا، لعبت مجموعة العمل الوطني دورًا سلبيًا في العلاقة مع الضبّاط المنشقّين وقيادة الجيش الحر.

بالإضافة إلى التوترات الموجودة داخل المجلس الوطني السوري، كانت هناك توتّرات أخرى بين المجلس ككل وقيادة الجيش السوريّ الحر في الداخل

عدا عن التوتّرات الحاصلة داخل المجلس، والمسؤولة بشكلٍ أو بآخر عمّا آلت إليه الثورة، بفعل التردّد والنزاعات والصراعات على الغنائم قبل أن تكون متاحة حتّى، كانت هناك توتّرات أخرى بين المجلس ككل وقيادة الجيش السوريّ الحر في الداخل. والسبب القيادة مجدّدًا. فبينما سعى المجلس لتنظيم الضبّاط المنشقّين والمقاتلين المدنيين كذلك، كان العقيد رياض الأسعد ينظر بعين الريبة إلى نشاط المجلس، ويتعامل معه على أنّه منافس له على قيادة الثورة والجيش الحر. ورغم انصياعه لقرار السوريين الذين أعلنوا ثقتهم بالمجلس، وفتحه كذلك حوارًا مع قيادته، إلّا أن موقف الأسعد ظلّ ثابتًا، متّبعًا سياسة المناورة لتحقيق أعلى قدر من المكاسب، دون أن يبذل أي جهدٍ حقيقي برفقة المجلس لتنظيم العمل العسكري وضبط عمل الكتائب المسلّحة ضمن قيادة مركزية هرمية كان الأسعد مقتنعًا أنّها لن تظلّ بيده إن حدث وانشقّ ضابطًا برتبة أعلى من رتبته.

اقرأ/ي أيضًا: معضلات النُخب.. مداخل للتحليل

انصبّ جهد رياض الأسعد إذًا، كما كتل المجلس الوطني، على القيادة فقط، والانفراد بقرار الثورة. وكجزءٍ من مسعاه هذا، طالب رئيس المجلس الوطني بترقيته إلى رتبة لواء، بحيث يستبق انشقاق أيّ ضابطٍ برتبةٍ أعلى منه، ويكون بطبيعة الحال الأحق والأجدر بقيادة الجيش الحر الذي تعامل معه الأسعد على أنّه ماركة مسجّلة باسمه حصريًا، ومن إبداعاته الشخصية. ولكنّ لرفض طلب ترقية الأسعد كان له نتائج سلبية بحسب غليون، ليس فقط على علاقة المجلس المتوتّرة من الأساس بقيادة الجيش الحر، وإنّما على مسار الجيش كذلك، وقدرته على التماسك والتوحّد تحت غطاء قيادة مشتركة. ومنذ رفض الطلب، لم يتوان الأسعد عن مهاجمة المجلس بين عناصره وفي وسائل الإعلام. ويعتقد غليون بأنّ إصراره على أن يكون قائدًا نهائيًا للجيش الحر، دفعه لمنع وإفشال كل المشاريع التنظيمية التي طرحها المجلس. والنتيجة في نهاية المطاف أن تفكّكت وتمزّقت الفصائل، وحلّت مكان القيادة الوطنية قيادة خارجية وأجنبية أخضعتها لإشراف الدول الأجنبية التي تحكمّت وحدها بتسليحه وتمويله ورسم أجنداته، مما حرمها من أي رؤية وطنية توجّه عملها، وتركها فريسة سهلة للقوى الإسلامية السلفية.

ليس "عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل" مذكّرات سياسية لكاتبها فقط، وإنّما مراجعة دقيقة للثورة، وأداء المعارضة السياسية السورية، وتبيين أسباب فشلها في الاتفاق فيما بينها على تشكيل جبهة وقيادة للانتفاضة الشعبية. ذلك أنّ المجلس الوطني جمع أحزاب وتيّارات المعارضة شكليًا فقط، دون رغبة من جميع الأطراف بالعمل الجاد والتعاون مع الطرف الآخر. ووضّح غليون في هذا الكتاب أيضًا آثار المعارك والصراعات والنزاعات داخل المجلس لا على مسار الثورة فقط، وإنّما على كيفية تعاطي وتعامل المجتمعين الدولي والعربيّ مع الانتفاضة أوّلًا والمجلس ثانيًا. وكذلك على أداء العمل العسكري المسلّح في الداخل، ومساهمة كلّ من المجلس وقيادة الجيش السوريّ الحر بشكلٍ غير مباشر في صعود الفصائل الإسلامية السفلية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المركز العربي يبحث في مآلات الثورة السورية بعد سبع سنوات على انطلاقها

الفكر السياسي على خلفية الثورة السورية