29-نوفمبر-2023
المفكر العربي عزمي بشارة

المفكّر العربي عزمي بشارة (المركز العربي)

ألقى المفكّر العربي عزمي بشارة، مساء الثلاثاء، محاضرة في مقر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "الحرب على غزة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي"، تحدّث فيها عن الخلفيات السياسية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وناقش خلالها موقف بعض المثقفين الغربيين من الحرب، إلى جانب القانون الدولي والإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة.

استهل بشارة محاضرته بالتأكيد على أن عملية "طوفان الأقصى" كانت صاعقة بالنسبة للاحتلال والأطراف الدولية والإقليمية التي راهنت على "انحلال" القضية الفلسطينية بدلًا من حلّها، من خلال اتفاقيات سلام عربية إسرائيلية منفصلة. وأشار هنا إلى أن هذه الأجواء أدت إلى حالة من الاسترخاء في "إسرائيل" دفعت قادتها إلى رفض التفاوض حتى مع السلطة الفلسطينية، بل والتحلل كذلك من مسار اتفاقية أوسلو. وقد تزامن ذلك مع تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية، وازدياد وتيرة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، لا سيما في عام 2022.

أكّد بشارة أن عملية "طوفان الأقصى" ورد الفعل الإسرائيلي عليها، ورد فعل الشعوب العربية على الفعل الإسرائيلي، أثبتت أن قضية فلسطين غير قابلة للتجاهل والتهميش

وقال المفكّر العربي إن العملية أدت إلى فقدان الثقة في المجتمع الإسرائيلي لأنها جمعت بين عنصرين هما حجم الضحايا من جهة، وتنفيذ عمليات هجومية واسعة متزامنة في مناطق تقع ضمن حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 من جهة أخرى، وهو ما لم يحدث وفق قوله منذ عام 1948.

وبفعل هذه العملية، يرى بشارة أنه قد اختلط لدى الحكومة الإسرائيلية الغضب الشديد مع الخوف الوجودي لدى الإسرائيليين، مشيرًا هنا إلى أن الأمر لم يقتصر هذه المرة على مجرد دعاية حول مسألة "الخطر الوجودي"، حيث ساد بالفعل شعور إسرائيلي بأنه إذا مرّت هذه العملية دون ردع يمنع تكرارها مستقبلًا، فإن "إسرائيل" سوف تصبح في خطر وجودي فعلًا بسبب تآكل "هيبة الردع" لديها.

ولفت بشارة إلى أن دعم الولايات المتحدة غير المحدود والمشروط لـ"إسرائيل"، والذي وصل إلى حد مشاركتها باستنتاجاتها حول ضرورة التخلص من "حماس" رغم معرفتها بأن هذا يعني تدمير قطاع غزة، وقتل أعداد يصعب حصرها من المدنيين، بل وتوفير غطاء لـ"إسرائيل" لتنفيذ جرائم إبادة جماعية ومخططات تهجير قديمة؛ يرتبط في جزء منه باستراتيجية الرئيس الأمريكي جو بايدن المتعلقة بمواجهة التوسع الصيني وتحجيم روسيا عبر دعم أوكرانيا.

وأوضح بشارة أن هذه الاستراتيجية تشمل ضمان ولاء حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مقابل ترتيب أوضاعهم والتنازل عن توجيه النقد لهم في قضايا حقوق الإنسان لمواجهة احتمالات توسع النفوذين الصيني والروسي في الشرق الأوسط، وذلك إضافةً إلى بناء محور إسرائيلي عربي موالٍ للولايات المتحدة يمكنه ضبط الأمن والاستقرار في المنطقة بصرف النظر عما يعنيه "الأمن والاستقرار" بالنسبة لـ"إسرائيل" وواشنطن.

وأكد المفكّر العربي هنا أن بناء المحور المذكور أعلاه تطلّب تجاهل القضية الفلسطينية وتهميشها تمامًا. ولكن عملية "طوفان الأقصى"، وردة الفعل الإسرائيلي عليها، وكذلك رد فعل الشعوب العربية على الفعل الإسرائيلي، وانشغال الرأي العام العالمي بالحرب، أثبتت أن قضية فلسطين غير قابلة للتجاهل أو التهميش.

وهذا ما يفسّر، كما يوضّح بشارة، غضب الولايات المتحدة وتوافقها مع "إسرائيل" على ضرورة ضرب "حركة حماس" إلى درجة لا تعود بعدها تشكّل قوة مسلحة جدية قادرة على إفساد الترتيبات الإقليمية، وألا تعود قوة قادرة على حكم قطاع غزة وإدارته. ما يعني أن استنتاج بايدن من فشل تهميش القضية الفلسطينية لم يتمثّل وفق قراءة بشارة في ضرورة حل قضية فلسطين حلًا عادلًا، وإنما في ضرورة القضاء على "حركة حماس"، وكل ما يحول دون تهميش القضية الفلسطينية. مشيرًا هنا إلى وجود مزاج صدامي صارم لدى بايدن حول ضرورة مواجهة توسع نفوذ الصين وروسيا حتى لو تطلب الأمر التضحية بجميع سكان غزة.

وقال صاحب ثلاثية "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" إن مجريات الحرب وانفضاح عدد من الأكاذيب الإسرائيلية وتبيّن حجم الكارثة التي تعرّض لها سكان قطاع غزة، إلى جانب حصول تصدعات في جدار الرأي العام الغربي الذي امتثل في البداية للخطاب الأمريكي، قد يغير استنتاجات الإدارة الأمريكية.

تعامل بعض الدول العربية مع فلسطين أداتيًا أفقدها مصداقيتها

وتنقسم الدول العربية، حسب بشارة، إلى دول مشاركة وأخرى غير مشاركة في المحور المذكور سابقًا، والذي أوضح أن الأخيرة غير قادرة على مواجهته أو القيام بخطوات عملية بشأن قضية فلسطين.

وأكد بشارة أن تعامل بعض هذه الدول مع القضية الفلسطينية أداتيًا قد أفقدها مصداقيتها في هذا المجال تحديدًا، ومنها دول منشغلة بصراعات داخلية ارتكبت فيها أنظمة الحكم فيها جرائم تقلل من مصداقيتها عند تناول جرائم الاحتلال الإسرائيلي، داعيًا هنا إلى تخيل حال الإعلام العربي إزاء ما يجري في غزة وفلسطين عمومًا، منذ 7 أكتوبر، لو لم يتوفر المتنفس الذي توفّره قطر.

لم يتمثّل استنتاج بايدن من فشل تهميش القضية الفلسطينية في ضرورة حلها حلًا عادلًا، وإنما في القضاء على "حماس" وكل ما يحول دون تهميش القضية

وقال بشارة إن الدول المطبعة تشاركت الغضب مع "إسرائيل" والولايات المتحدة في البداية، وكانت تأمل أن تقضي الحرب على "حماس"، متحملةً حسب قوله ضرورة تغيير الخطاب السياسي مؤقتًا إلى خطاب تضامني مع قطاع غزة، ولكن مع نقد "حماس" ومواصلة مقاطعتها إلى حين إنهاء "إسرائيل" لعمليتها.

وحول سيطرة "إسرائيل" على أجزاء من قطاع غزة بحيث تواصل تمشيط أو تنفيذ غارات متفرقة على ما تعتبره ملاذات للمقاومة، أوضح بشارة أن ذلك قد يؤدي إلى ضرورة إيجاد تسويات أمنية سياسية لقطاع غزة بدلًا من إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ما يعني استمرار وجود كيانين غير سياديين في الضفة وغزة، ولكن من دون "حماس"، الأمر الذي يمنع نشوء دولة فلسطينية في المستقبل.

وشدّد بشارة على ضرورة إفشال هذا المخطط، معتبرًا أن الأمر مرهون بصمود المقاومة، ورصانة الخطاب السياسي الذي يرافق الصمود، وكذلك الضغط لوقف هذه الحرب، لافتًا هنا إلى تجاوب أوساط واسعة من الرأي العام العربي والعالمي مع ضرورة حل قضية فلسطين حلًا عادلًا.

الانتقام وسيلةً لاستعادة هيبة الردع

أدت العملية العسكرية، وفق بشارة، إلى انغلاق المجتمع الإسرائيلي على نفسه وشعوره بعزلة إقليمية وعودة المقاربات "العسكرتارية". وبدلًا من تحميل مسؤولية ما جرى في السابع من أكتوبر للاحتلال وسياسات "إسرائيل"، جرى التعامل معه بوصفه نتاج إخفاق استخباري وعسكري. وربط البعض ما جرى ذلك اليوم، كما ذكر بشارة، بانشغال حكومة بنيامين نتنياهو بأولويات أخرى غير متطلبات الأمن، وفي مقدّمتها التعديلات القضائية.

وأوضح بشارة أن السلوك الإسرائيلي العام يتخلّص بـ"التلاحم القبلي"، بحثًا عن العزاء والأمن لتبديد الخوف، مؤكدًا أن الانتقام الثأري من الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وسيلة قادة الاحتلال لاستعادة توازن المجتمع وهيبة الردع. ناهيك عن العودة إلى التعامل مع المواطنين العرب في الداخل بوصفهم "أعداءً محتملين" عليهم التزام الصمت والحذر.

وهو ما يبيّن، وفق رؤية عزمي بشارة، أن مواطنة العرب في "إسرائيل" لا تقوم في نظر الأغلبية اليهودية على أساس ديمقراطي وإنما على أساس "تسامح المتفوّق"، ما يعني أنها مواطنة غير صالحة على الإطلاق حين يشعر المجتمع الإسرائيلي بالتهديد.

ولفت مدير عام "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" إلى أن "إسرائيل" قد انضمت إلى قائمة الدول التي قد تؤدي فيها تغريدة إلى الاعتقال، الأمر الذي يجعلها: "منسجمة أكثر مع محيطها".

تنتهي حرية التعبير حيث يبدأ نقد "إسرائيل"

لم يقتصر موقف الحكومات والمؤسسات الإعلامية الغربية وضيوفها من خبراء ومثقفين بشأن ما جرى يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، على الصدمة والفزع وترديد الرواية الإسرائيلية بحذافيرها، بل انتقل كما أوضح عزمي بشارة إلى قرع طبول الحرب مع "إسرائيل" ودعم عمليتها العسكرية وتبني روايتها حولها أيضًا، بما في ذلك الأكاذيب.

وفي هذا السياق، لفت صاحب "ثورة مصر" إلى نشوء أجواء شمولية على مستوى الخطاب تذكّر بلفظ "غلايش شالتون"، وهو مصطلح ألماني يعني توجيه مجمل نشاط مؤسسات الدولة والمجتمع إلى خدمة الهدف نفسه وفق توضيحه، ما يتطلب درجة عالية من السيطرة والتنسيق والانسجام الشعوري والقابلية للانقياد.

وأوضح أن الدول الديمقراطية تتصرف في زمن الحرب، على مستوى الخطاب، كأنها دول شمولية لدرجة أنه حتى المؤسسات التي يُفترض أنها مستقلة عن الدولة، تشارك أيضًا بالتجييش ونشر الشائعات والأكاذيب ضد الخصم وصولًا إلى شيطنته. وفي حالة العملية التي نفّذتها "حماس"، يرى المفكّر العربي أن الدول الغربية تصرفت كأن هناك "نحن" واحدة تضمّها مع "إسرائيل".

شدَّد عزمي بشارة على أن ما يحدِّد "الإبادة الجماعية" ليس عدد القتلى وإنما الهدف من قتلهم، وأن الموقف الأخلاقي هو من يحدِّد المصطلحات وليس العكس

واعتبر بشارة أن تشكيك البعض بقيم الحرية والعدالة والمساواة بسبب ما يجري في قطاع غزة وموقف الغرب منه "خطأ جسيم"، مشدّدًا على ضرورة التمييز بين القيم الأخلاقية التي من المفترض أن تجمع الإنسانية وتشكل أساسًا للحوار والتواصل والحكم على التصرفات وطرح المطالب العادلة، وبين النفاق الأخلاقي الذي يغطّي المصالح والعصبيات.

وتطرّق بشارة هنا إلى موقف كلٍ من يورغن هابرماس وشيلا بن حبيب مما يحدث في قطاع غزة، مبيّنًا أنهما لم يتجاوزا الهوّة الفاصلة بين القيم الكونية في مضمونها من جهة، و"كونيتها" لناحية نطاق سريانها (على من تسري)، من جهة أخرى.

وقدّم بشارة نقدًا أكاديميًا رصينًا لموقف هابرماس الذي عبّر عنه في بيان أصدره برفقة عددٍ من زملائه قبل أيام، والذي لم يشغله فيه كما أوضح المفكّر العربي سوى سؤال ما إذا كان ما تقوم به "إسرائيل" في قطاع غزة "إبادة جماعية" أم لا، وذلك دون أن يتخذ موقفًا واضحًا منه بغض النظر عن تحديد المصطلح.

ورأى بشارة أن هابرماس يلج إلى حلبة السجال المستعر في الفضاء العام الغربي، كي يجري عملية إزاحة إلى حلبة أخرى وهمية هي حلبة الصراع مع اللاسامية، مؤكدًا أن هذا هو أيضًا حال المثقفين والسياسيين والإعلاميين الذين تظاهروا في فرنسا ضد اللاسامية في الوقت الذي ترتكب فيه "إسرائيل" مجازر في غزة.

وقال إن هؤلاء لا يتظاهرون ضد شيء محدّد، وإنما احتجاجًا ضد من يتكلّم عما يجري في غزة من جهة، ولمحاولة فتح معركة أخرى للتغطية على المجازر التي تركبها "إسرائيل" في القطاع من جهة أخرى. ناهيك طبعًا، ووفق بشارة، عن إعادة رسم حدود حرية التعبير، بحيث تنتهي حيث يبدأ نقد "إسرائيل".

وأكد بشارة أن بيان يورغن هابرماس منافق ومعيب أخلاقيًا، وأنه تطوّع للإعلان عن موقفه من باب "النفاق الأخلاقي" بإصراره على رفض إطلاق وصف "إبادة جماعية" على القصف الممنهج والشامل الذي يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة، ورفض إدانته أو نقده على الأقل حتى لو لم يتفق على وصفه بـ"الإبادة الجماعية".

أما عن شيلا بن حبيب فقال إنها لا تدرك أهمية الكفاح المسلح في منح الشرعية للقوّة التي تمارسه تحت الاحتلال، في إشارة إلى "حماس" التي قالت بن حبيب إنه يجب ألا تنتصر في هذه الحرب. وبيّن بشارة أن انجرار الأخيرة وراء العداء للإسلاميين دفعها إلى رفض الحق في مقاومة الاحتلال إذا كان الإسلاميون هم من يمارسونه.

وبخصوص مسألة توظيف "الهولوكوست" ومعاداة السامية في الدعاية الإسرائيلية حول الحرب من جهة، ولتبرير جرائم "إسرائيل" من جهة أخرى، أوضح المفكّر العربي أن معاداة السامية ليست السبب الرئيسي لـ"الهولوكوست" وإن كانت عنصرًا رئيسيًا، مؤكدًا أنه لا يوجد مجال لتفسير "الهولوكوست" من دون الدولة الشمولية، والعقلانية الأداتية الحديثة غير المعنية بالغايات، وتوافر آليات تحييد الحكم الأخلاقي لدى البيروقراطية، وغيرها من المظاهر الأخرى التي أكد أنها أوروبية.

كما شدَّد عزمي بشارة على عدم وجود أي علاقة للفلسطينيين والعرب بـ"الهولوكوست" وخلفياتها الفكرية والأيديولوجية، لافتًا إلى أن الأوروبيين يتعاملون مع الفلسطينيين الذين تضرّروا من "الهولوكوست" بوصفهم أضرارًا جانبية في سياق حل المسألة اليهودية في أوروبا من خلال إقامة دولة يهودية خارجها، أي في فلسطين.

أكد المفكّر العربي أن مبدأ الدفاع عن النفس الذي يُبرِّر الغرب جرائم "إسرائيل" من خلاله، لا ينطبق على الاحتلال وإنما على الشعب الرازح تحت الاحتلال

وأكد مؤلف "مسألة الدولة" أن مبدأ الدفاع عن النفس الذي يُبرِّر الغرب جرائم "إسرائيل" عبره، لا ينطبق على الاحتلال وإنما على الشعب الرازح تحت الاحتلال، ذلك أن حق المقاومة، كما أوضح المفكّر العربي، هو حق الدفاع عن النفس ضد عنف متواصل يمارسه العدوان المتمثل بالاحتلال، وهذا هو التبرير الأخلاقي للمقاومة.

أما بشأن رفض البعض، بمن فيهم يورغن هابرماس، وصف ما تقوم به "إسرائيل" بحق الفلسطينيين في قطاع غزة بأنه "إبادة جماعية"، قال بشارة إن مصطلح "الإبادة الجماعية" لم يُنحت، وخلافًا لما يُعتقد، بناءً على الهولوكوست، وإنما على تصرفات القوات الألمانية في عموم الدول الأوربية، أي لوصف جرائم أقل من المحرقة.

واختتم المفكر العربي محاضرته بالتأكيد على أن ما يحدِّد "الإبادة الجماعية" ليس عدد القتلى وإنما الهدف من قتلهم. فإذا كان الهدف هو تدمير جماعة معيّنة، فإنه لا يمكن التعامل مع الأمر إلا بوصفه "إبادة جماعية". مشدِّدًا مرة أخرى على أن الموقف الأخلاقي هو من يحدِّد المصطلحات وليس العكس، وأن تبرير جرائم "إسرائيل" باعتبار حربها "دفاعًا عن النفس" هو انحطاط أخلاقي.

دلالات: