11-مارس-2023
getty

عزمي بشارة خلال افتتاح مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية (المركز العربي)

افتتح المفكر العربي والمدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزمي بشارة، اليوم السبت، أعمال الدورة التاسعة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان "مفهوم الثقافة السياسية والثقافات السياسية في العالم العربي". وقدم بشارة المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر تحت عنوان "ملاحظات عامة حول الثقافة السياسية".

وانطلق بشارة في محاضرته من استكشاف بداية نشوء مفهوم الثقافة السياسية المعاصر، وقدم مراجعةً للأدبيات حول الثقافة السياسية المعاصرة، منطلقًا من أعمال غابرييل ألموند وسيدني فيربا، حيث استعرض تعريف فيربا للثقافة السياسية باعتبارها "منظومة المعتقدات والرموز التعبيرية والقيم التي يجري في ظلها النظام السياسي أو تشكل خلفية له"، وأشار بشارة إلى أفكار ألموند التي جاء فيها أن "كل نظام سياسي محتضن في نمط معين من التوجهات للفعل السياسي". 

ويشير المفكر العربي إلى كتاب ألموند وفيربا "الثقافة المواطنية"، الذي منذ صدوره اتفق على تعريف الثقافة السياسية باعتبارها "تلك القيم والمواقف والتوجهات التي تعزز نظامًا سياسيًا ومنظومة معينة من المؤسسات السياسية أو تضعفها، ويهتم الباحثون فيها بتعزيز أنماط معينة من التوجهات السياسية- السلوك تجاه النظام السياسي ومركباته المتعددة، والموقف من دور الفرد أو المواطن في هذا النظام". ويضيف أن فيربا اعتبر لاحقًا أن دراسته مع ألموند لا تشكل نظرية بل محاولة لطرح معادلات وتأسيس علاقات يعتبرها مهمةً بين معتقدات الأفراد وقيمهم مواقفهم تجاه نظام سياسي من جهة، وثبات هذا النظام واستقراره من جهة أخرى.

ويتابع بشارة محاضرته بالإشارة إلى أنه "تكاد لا توجد مدرسة في الفلسفة منذ القدم، أو في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس حديثًا، إلّا ومنحت القيم والتوجهات الإنسانية السلوكية اهتمامها، وإن كان ذلك بتعبيرات ومصطلحات مختلفة، وعمومًا كانت الثقافة تحدد بتشخيص الأعراف والمؤسسات والأخلاق الاجتماعية، التي تؤثر على سلوك الأفراد، من دون أن يفكروا فيه انعكاسيًا"، مشيرًا إلى أنه من هذه الأفكار اشتق لاحقًا مفهوم "الهابيتوس" عند بيار بورديو، والذي هو مجمل الأمور التي تؤثر على التصرفات دون التفكير فيها انعكاسيًا.

.

أمّا الجديد الذي برز في البحث في الثقافة السياسية وهو ما يتناوله مؤتمر المركز العربي، فهو عندما تأسس البحث في هذه المجالات بمنهج علمي وضعي، توضح فيه المفاهيم، لكي تبنى فرضيات يمكن فحصها بالتجربة، انطلاقًا من وقائع مثل الأفراد وتوجهاتهم، لا انطلاقًا من ثقافة مسبقة للشعب كله، ولا من موجودات يعدها المنهج الوضعي ميتافيزيقية. ويشرح بشارة أن التقاء النظرية السلوكية مع البنيوية الوظيفية، في علم السياسية والاجتماع والسلوكية في علم النفس الاجتماعي، هو ما شق هذا الطريق، وكان هذا المنهج - الذي انطلق من تعريف للثقافة السياسية وأنواعها، ومن ثم تشغيل هذه المفاهيم، من خلال بناء فرضيات قابلة للإثبات والدحض إمبريقيًا - ثمرة تبني علم السياسة للسلوكية، وموضوع البحث القابل للفحص الإمبريقي، هو علاقة الأفراد بالأشياء السياسية.

وبموجب هذا المنهج وفرضيات أصحابه، فإن الثقافة السياسية تتألف من توجهات الأفراد للأشياء السياسية، وهي توجهات من ثلاث مكونات، الإدراكي والشعوري أو الانفعالي والتقييمي، ويعلق بشارة على هذا التقسيم والفصل بأنه غير مطلق، وهو تقسيم إجرائي، حيث إن هذه المكونات لا توجد منفصلة في المواقع. أما الأشياء السياسية، فهي النظام السياسي، والأدوار والبنى، وشاغلو المناصب، والسياسات الحكومية. وبحسب ما سبق، صنفت توجهات الأفراد إلى ثلاثة أنماط هي، الثقافة المحلوية التقليدية (أي الاهتمام بالجماعة المحلية)، والرعية (المحكوم، رعية الحاكم، وهي مناسبة للنظام السلطوي)، والمشاركة وهي الثقافة المدنية المواطنية، الأكثر ملائمة للنظام الديمقراطي، بحسب المنهج السابق. ويعلق بشارة على ما سبق، بالقول إنه قريب من التفكير الجمهوراني، وليس اكتشافًا جديدًا.

وهناك عشرة مميزات للثقافة المدنية المذكورة أعلاه، وهي الموقف تجاه النظام القائم بالمعنى السياسي والحكومي، والشعور بالفخر بالانتماء للأمة، وتوقع تعامل منصف من السلطات الحكومية، والقدرة على الحديث في السياسة بحرية وتواتر، والمشاركة الشعورية أو العاطفية بالانتخابات، والتسامح تجاه أحزاب المعارضة، وتقدير أو إعلاء شأن المشاركة في أنشطة السلطات المحلية والاتحادات المدنية، والثقة بالأهلية السياسية للمشاركة السياسية، والتعاون والثقة بين المواطنين، والعضوية في المنظمات السياسية.

ويقول عزمي بشارة إن هذه المميزات لا يمكن أن تقوم في ظل نظام سلطوي، وتتطلب نظامًا ديمقراطيًا حتى تظهر، وهذه ليست ثقافة تشكل شرطًا للديمقراطية أو سابقة عليه، بل تنشأ في النظام الديمقراطي نفسه. وعن التوجه السابق، يشير إلى نشوء مسوح استطلاعية تهدف إلى استخلاص المواقف من المستجيبين مصاغة كلاميًا، وغالبًا ما يقوم الباحثون بصياغتها لهم مسبقًا، وبعد تجميع المعلومات يجري فرزها إلى فئات تمثل أنماطًا من التوجهات. وبناءً على ما سبق ينتقد استنتاجات فيربا وألموند، من كتابهم حول الثقافة السياسية الذي فحص خمسة بلدان وهي إيطاليا وألمانيا والمكسكيك وبريطانيا والولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن نظرتهم جاءت من زاوية النظرية الوظيفية البنائية، التي تبحث في أي وظيفة اجتماعية من منطلق دورها في حفظ توازن المنظومة كاملة.

ويضيف أن الثقافة السياسية السائدة تتألف من المعايير الاجتماعية بشأن القضايا العمومية، ومعارف الناس وآرائهم عن الدولة والسلطة والتراتبية الاجتماعية والسياسية، والولاء والحقوق والواجبات وغيرها، ويمكن استقراء ذلك من استطلاع مواقف البشر، سواء من استمارة أو ربما حاليًا ومستقبلًا من سبر مواقع التواصل الاجتماعي، كل هذا من دون افتراض علاقة سببية بين القيم والتوجهات من جهة والممارسة السياسية من جهة أخرى، وهما بعدا الثقافة السياسية.

الثقافة والانتقال من المواقف إلى السلوك السياسي

ويقول بشارة في سياق محاضرته، إن فكرة الثقافة السياسية السائدة تستند إلى سياقات وعلاقات يطلق عليها في مجتمعاتنا تسميات مختلفة، مثل عادات الشعب وأعرافه ومعتقداته الرائجة، وتتضمن المستحسن والمقبول والمكروه اجتماعيًا، والحلال والحرام الاجتماعي الذي قد يتقاطع مع الدين، وقيم الحرية والولاء للجماعة وقيم المساواة والموقف الرائج من الاستقلالية الفردية ومدى رواج الشعور بالواجب تجاه الأفراد والجماعة والوطن، وهو كله ما سماه أليكسس دو توكفيل بـ"عادات القلوب والعقول". ويتابع أنها الأعراف السائدة وأساسها القيمي في الأخلاق العمومية المتميزة عن الأخلاق الفردية، وليست هذه الثقافة السياسية وإنما مجمل الثقافة، وتؤثر جوانب منها في التوجهات السياسية للأفراد. ووفق الكثير من المحللين يمكن أن تؤثر الثقافة السائدة -ثقافة شعب بأكمله- في تكريس النظم السياسية السلطوية، وهو التصور الإشكالي والاستشراقي الذي يعطي سمعة سيئة عن نظريات الثقافة.

عزمي بشارة: ربط طبيعة نظام الحكم بالثقافة تفسيري محض ومن الصعب إثبات وجود علاقة سببية بينهما

ولا يتفق بشارة مع الطرح السابق، لخمسة أسباب، وهي، أولًا: لا يحمل شعب بأكمله ثقافة سياسية واحدة متجانسة؛ ثانيًا: أن ربط طبيعة نظام الحكم بالثقافة تفسيري محض ومن الصعب إثبات وجود علاقة سببية بينهما، وما يجري عادةً هو ربط الباحث نظام حكم قائم بثقافة مستقرأة من المسوح والاستطلاعات أو التحليل التأويلي للثقافة السائدة؛ ثالثًا: قد يضمر هذا التفسير من دون أن يفصح مشاركةً ما للشعب في السياسة، غير أنه غالبًا ما يقصي الشعب الذي يعيش تحت وطأة السلطوية عن السياسة أصلًا؛ رابعًا: تنظم القيم والعادات الاجتماعية علاقات الناس ضمن الجماعة أو المجتمع عمومًا كحد أقصى، أمّا طبيعة علاقة الفرد والجماعة بالدولة الحديثة غالبًا ما تفرضها الدولة وتحدد قواعدها إذا حصل تلاقٍ مباشر بينهما، مع تسجيل تحفظ مفاده أن الدولة الحديثة - في حالة ضعفها في مقابل قوة المؤسسات الاجتماعية والتقليدية - تتأثر بهذه المؤسسات بشدة؛ خامسًا: لا يمكن فهم تأثير قيم وأعراف اجتماعية تعد عناصر مكونة في السلوك السياسي إلّا من خلال فهم تفاعلها مع الظروف والمصالح، وثمة علاقة متبادلة بين الأخلاق الاجتماعية والأعراف والمؤسسات الاجتماعية، إذ تؤثر المؤسسات أيضًا على الأخلاق والمؤسسات العمومية وتسهم في إعادة تشكيلها، والعلاقة السببية في حالة الظواهر الاجتماعية المركبة ليست علاقة سبب ونتيجة، بل هي عبارة عن عملية تفاعل يتغير فيها السبب والنتيجة ويتبادلان الأدوار باستمرار. ويضيف بشارة: "يصح أن نرفض فكرة جوهر ثابت لثقافة أي شعب رفضًا قاطعًا، وأن ندحض أي فكرة مفادها أن الثقافة كلٌ عضوي واحد يتمثل في جميع أجزائه، بحيث يمكن استخلاص الكل من معاينة الجزء"، أي رفض النظر للثقافة ككائن عضوي.

ومن ناحية أخرى، يؤكد أنه "لا يصح أن ننكر وجود ثقافة لمجتمع ما في مكان وزمان محددين والتسليم بوجود ثقافة كهذه في مركزها لغة معينة وربما دين واحد وحولهما تراث مكتوب وآخر شفوي، وأرموزات كثيفة المعاني وفنون عمارة وأساليب حياة وغير ذلك، ولكن هذا لا يعني أن في قلب هذه الثقافة جوهر أخلاقي واحد ولا أنها وحدة متجانسة في الحاضر أو ثابتة عبر التاريخ، ولا أنها هي نفسها موزعة بين الفئات الاجتماعية المختلفة". ويتابع أنه "من نافل القول أن ثقافة أي شعب ليست متجانسة ولا خالية من الصراعات والتناقضات والتوترات القيمية، وربما يمكن أن نفرع إجرائيًا من هذه الثقافة ولغرض البحث، ثقافة سياسية، ولكن الثقافة السياسية لا تتولد من جوهر ثقافي ما، بل من أن الناس بثقافاتهم المتنوعة ضمن نفس الثقافة يتفاعلون بطرق مختلفة مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة، ويستحيل أن ينجم عن ذلك ثقافة سياسية واحدة متجانسة".

ويضيف بشارة: "وحتى حينما تستنتج ثقافة سياسية من نوع محدد، وذلك بتحديدها بناءً على تعريف مسبق للثقافة السياسية يضعه الباحث، وتصنيف الثقافات السياسية بناءً على معايير محددة سلفًا، بوصفها مساندة أو معيقة للديمقراطية أو مساندة أو معيقة للسلطوية، وثم التحقق من وجودها لدى شعب معين أو فئة سكانية محددة، بالتحليل الكمي الاستقصائي أو بالتأويل النصي والسيميائي، أو بتحليل التوجهات الرائجة على وسائل التواصل (بافتراض تخطي الصعوبات المنهجية في بحث هذه الوسائل)، أقول: حتى حينما نستنتج انتشار ثقافة سياسية ما من نوع معين، فإننا لا نستطيع إثبات علاقة ما بين مجمل أفعال الناس وثقافتهم السياسية هذه، ولاسيما في الحياة اليومية، وهذه عقبة كبيرة أمام الباحثين، فسلوك الناس في حياتهم اليومية ليس حصيلة توجهاتهم المصنفة ضمن ثقافة سياسية محددة بل هو محصلة أمور كثيرة، مثل العادة وتأمين وسائل العيش، والخوف على النفس والعائلة، وحساب المصالح، والاهتمام بالطقوس الاجتماعية التي تضمن الانتماء للجماعة، والرغبة في إرضاء الآخرين وكسب الاعتراف وتحسين المكانة الاجتماعية والحب والانتماء، وغالبيتها أمور غير مرتبطة بثقافة محددة لشعب من الشعوب، ونجدها في كل الثقافات".

ويتابع بشارة في هذه الجزئية، "لا أنفي تأثر السلوك السياسي لفئات من السكان بالتوجهات السياسية، تلك التي يمكن جمعها وفرزها في استطلاع، ولكن سلوك هذه الفئات السياسي يؤثر أيضًا في مواقفها ويعدلها، فليست العلاقة سببية باتجاه واحد. ومن ناحية أخرى لا تنقسم توجهات الناس بين متحمسة للنظام السياسي القائم أو امتثالية طائعة له أو مقاومة ضده، إذ يمكن أن تكون مجرد متكيفة مع المحيط". 

ويتابع المفكر العربي في هذا السياق: "الموقف القائل إن الإنسان حر الإرادة ومخير لا مسير، وإن قراراته الأخلاقية وممارساته ناجمة عن إرادة حرة، في مواجهة خيارات متعددة ويصنع خياراته الأخلاقية، هذا بحد ذاته ليس مجرد تحليل فلسفي لماهية الإنسان، بوصفه كائن حر الإرادة وباعتبار الحرية شرط الأخلاق، بل يتضمن حكمًا أخلاقيًا لما يجب أن يكون عليه الإنسان"، ويضيف "إذ يرمي إلى التقاء الإنسان الفرد في مجتمعنا مع مفهومنا عن الإنسان، وتختلط هنا أفعال ينبغي ويجب مع أفعال مثل يوجد ويكون، والحرية هي مكون رئيس في مفهوم الإنسان إلى جانب الوعي والأخلاق، ولكنها كامنة في الواقع كإمكانية في نفوس الأفراد، وتتحول من الإمكانية إلى الفعل في وعي حرية الإرادة وممارستها بتفاعل مع ظروف اجتماعية وثقافية ووفق مستويات مختلفة من تطور الحس الأخلاقي، وحبذا لو ننتبه لاختلاط هذه العناصر في فهمنا للإنسان؛ الحرية جوهر الإنسان كما يقول الفلاسفة، ولكن كامنٌ فيه، ليس بالضرورة أن يخرج من الكمون إلى الفعل، إلّا بوعي حرية الإرادة وبمستوى معين من الأخلاقية، الإنسان ليس حرًا في حياته اليومية، بل حرٌ بالإمكانية إذا وعى هذه الإمكانية".

ويكمل "بعد دحض اشتقاق الثقافة السياسية من الثقافة عمومًا، واستنتاج الممارسة السياسية من الثقافة السياسية، أشير إلى أن النقاش عن مفهوم الثقافة السياسية قد يشغلنا عن جوانب مهمة في الثقافة القائمة تؤثر في حياة الناس مثل تأثير الثقافة السياسية، وهي تعود وتؤثر في السياسة أيضًا، وأقصد بذلك الأخلاق العمومية المتعلقة بمعايير السلوك في الفضاء العمومي، إلى درجة أنني أعتقد أحيانًا أن الحكم السلطوي في الدولة الحديثة لا يتسبب في تشويه الثقافة السياسية فحسب، بل يتسبب بأزمة في الأخلاق العمومية، تشمل نخبه السياسية وتعيق بناء النظام الديمقراطي لاحقًا".

الثقافة السياسية لتبرير الديكتاتورية

يشير عزمي بشارة إلى أنه في ظروف الحرب الباردة، برز في الإعلام والأوساط الأكاديمية غير المتخصصة، التشديد على الثقافة الملائمة بوصفها شرطا للديمقراطية، وذلك حين برر صناع القرار والخبراء في الغرب دعم الديكتاتوريات المنضوية خلف المحور الأمريكي ضد المحور السوفيتي، بأن ثقافة شعوب تلك الدول لا تتلاءم مع الديمقراطية. ويوضح أنه في ذلك السياق ازدهر ربط الديمقراطية بالثقافة، ومن هنا خرج الصيت السيئ، وعاد مؤخرًا هذا الطرح في هيئة لازمة يكررها ديكتاتوريون معاصرون في العالم العربي، حين يخاطبون الجمهور الغربي، مؤكدين أن معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تناسب ثقافة شعبوهم، ويرفض بشارة هذه الفكرة، بنفي وجود ثقافة سياسية ديمقراطية قبل أن تأتي الديمقراطية في أي بلد.

عزمي بشارة: برر صناع القرار والخبراء في الغرب دعم الديكتاتوريات المنضوية خلف المحور الأمريكي ضد المحور السوفيتي، بأن ثقافة شعوب تلك الدول لا تتلاءم مع الديمقراطية

ويستكمل القول: "إن سَوق عدم توافر ثقافة مواتية للديمقراطية في بلدان العالم الثالث، تفسيرًا لغياب الديمقراطية، والذي يقوم على مسلمة مفادها أن هذا النظام في الغرب قد قام على ثقافة مساندة لها، يقلب التعاقب التاريخي، فهو يعد الثقافة الديمقراطية في الغرب سابقة على وجود النظام". مشيرا أن هناك أشخاصًا مثل برنارد لويس وصاموئيل هنتنغتون قد ربطوا هذه الديمقراطية بمزايا الشعوب الشمالية (north atlantic people) بدءًا بمجالس قبائلهم ما قبل المسيحية أو بالفلسفة اليونانية أو الثقافة اليهودية المسيحية. ويدحض بشارة هذه الأفكار، بالإشارة إلى أن مجالس القبائل ليست أمورًا خاصةً في القبائل الجرمانية، كما أن التراث اليهودي المسيحي -إن كان موجودًا والذي اخترع على نحو يتعدى آليات استثناء الهولوكست من تاريخ العلاقات اليهودية المسيحية- قد افترض بعد تأسس الديمقراطيات. والحقيقة أن التراث اليهودي والمسيحي يشتمل على عناصر مناهضة للديمقراطية تفوق بكثير ما يشتمله من عناصر مساندة للديمقراطية، وعادةً تنسب إليه هذه الأخيرة -أي مساندة الديمقراطية- على نحو ارتجاعي. وأكد بشارة على نشوء الديمقراطية بشكل تدريجي وعلى مراحل استمرت لأكثر من قرن في الغرب.

الثقافة للهروب من المعركة على طبيعة نظام الحكم

اختتم بشارة محاضرته بالحديث عن استخدام موضوع الثقافة للهروب من المعركة على طبيعة نظام الحكم والديمقراطية، مشيرًا إلى نقاد الثقافة العرب والمستشرقين، الذين يحولون الثقافة المساندة للديمقراطية إلى شرط مسبق على الديمقراطية، وهذا لم يحصل في أي بلد بالعالم.

بشارة: المطلوب في عصرنا حد أدنى من الثقافة الديمقراطية لدى النخب الجاهزة لتبني النظام الديمقراطي الجاهز في عالمنا، والالتزام بالديمقراطية رغم الخلافات الحزبية، وعدم تبكير الصراعات على السلطة قبل استقرار النظام

وأوضح بشارة أن المطلوب في عصرنا، حد أدنى من الثقافة الديمقراطية لدى النخب الجاهزة لتبني النظام الديمقراطي الجاهز في عالمنا، والالتزام بالديمقراطية رغم الخلافات الحزبية، وعدم تبكير الصراعات على السلطة قبل استقرار النظام، لأن ثقافة الشعب لا تتقبل الصراعات الحزبية المبكرة والصراعات على السلطة، التي تظهر وكأن النظام الديمقراطي نظام من الفوضى والسياسيين يتبعون المصالح ولا أحد يهتم بالقضايا السياسية.

وأكد المفكر العربي أن "نقد الثقافة وخوض الصراع الثقافي مهم، ولكن لا تستطيع خوض صراع ثقافي إذا كنت تعتقد أن الثقافة جوهر، تستطيع خوض الصراع الثقافي إذا آمنت أن الثقافات تتغير والقيم تتغير ونظم الحكم تتغير والنخب كذلك".