17-مايو-2023
مجلات قديمة

من المجلات القديمة

يستطيع قراء الصحافة الورقية اليومية ـ بعد أن ينجحوا في ابتلاع خيبتهم ويفرغوا من التفجع النوستالجي ـ أن يجدوا عزاء كافيًا في عالم الإنترنت الشاسع. فهنا ثمة الكثير من المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت أن تنوب عن ورق الجرائد وتضطلع بالكثير من وظائفه، وبكفاءة أكبر في أغلب الأحيان..

أخبار على مدار الساعة، عاجل كل لحظة، صور غزيرة، فيديوهات حية مباشرة، إمكانية كبيرة للتصويب والتحديث..

وسط العالم الصاخب (والعالم كان صاخبًا دائمًا حتى قبل الإنترنت)، كانت المجلات السياسية الأسبوعية تتقدم على مهل، بلا لهاث، لتغربل الأحداث وتلتقط أبرزها، معيدة النظر ومدققة الرأي، ومقدمة قراءة أكثر هدوءًا.. أكثر عمقًا

ربما يظل هؤلاء القراء يكابدون الحنين إلى ملمس الورق ورائحة المطبعة، ولكن وكما الأمر إزاء كل حنين، فهم يستطيعون تحويله إلى ذكرى جميلة ومادة لحديث رومانسي يثير الشجن الشفاف دون أن يتسبب في إحساس بالفجيعة..

وليس هذا هو حال عشاق المجلات الورقية، فهم لم يعثروا بعد على ضالتهم في دنيا الإعلام الجديد.. لا المواقع الالكترونية، ولا منصات التواصل، قادرة على سد الفراغ الذي خلفته عشرات المجلات الورقية المنتحرة.

بين الستينات وأواسط التسعينات من القرن الماضي، كثرت المجلات السياسية الأسبوعية، وازدهرت المجلات والدوريات الثقافية. في السياسة كان هناك، على سبيل المثال والتذكير: "المستقبل"، "الحوادث"، "الحرية"، "الشراع"، "الأسبوع العربي"، "الكفاح العربي"، "الحدث"، "الوطن العربي".. وغيرها الكثير. وكنا ننقسم حولها ونتحزب تحت عناوينها، ومع ذلك فقد كنا نحرص على مطالعة أكبر عدد منها، إذ كان هذا من علامات الاهتمام بالعالم والانخراط في شؤونه..

أما في الثقافة فتكفي جولة سريعة على "أرشيف الشارخ" الالكتروني لنعرف أي عالم غني كانت تصنعه لنا المجلات الأدبية والفكرية المنتشرة في مختلف البلدان العربية: "الآداب"، "إبداع"، "الكاتب"، "أدب"، "أدب ونقد"، "أقلام"، "الأديب"، "القاهرة"، "الوحدة"...

وسط العالم الصاخب (والعالم كان صاخبًا دائمًا حتى قبل الإنترنت)، كانت المجلات السياسية الأسبوعية تتقدم على مهل، بلا لهاث، لتغربل الأحداث وتلتقط أبرزها، معيدة النظر ومدققة الرأي، ومقدمة قراءة أكثر هدوءًا.. أكثر عمقًا. 

وهذه، مع المجلات الثقافية (الأسبوعية والشهرية)، كانت تشبع رغبة شرائح واسعة ومختلفة من القراء، فإضافة إلى المثقفين المتخصصين، كانت تستطيع مخاطبة قراء ممن ينتمون إلى الصنف الذي نسميه عادة "القارئ العادي"، أو "القارئ المتوسط"، (أسماه توماس جفرسون "الرجل من العامة")، أولئك الذين يمتلكون الفضول والرغبة بالمشاركة المعرفية ولكنهم ينفرون من لغة الاختصاص المتعالية، لا يتحلون بالجلد على قراءة "الكتب السميكة"، وبالمقابل فهم ملوا اللهاث وراء مستجدات الإذاعة والتلفزيون وتحليلات كتاب الأعمدة الصحفية اليومية.

والواقع أن أزمة المجلات بدأت قبل بضعة عقود، فراحت، منذ نهاية التسعينات، تنسحب تدريجيًا إلى أن اكتمل غيابها اليوم، وكان الإنترنت هو من أغلق الباب خلفها قاطعًا عليها طريق الرجعة.

أزمة المجلات بدأت قبل بضعة عقود، فراحت، منذ نهاية التسعينات، تنسحب تدريجيًا إلى أن اكتمل غيابها اليوم، وكان الإنترنت هو من أغلق الباب خلفها قاطعًا عليها طريق الرجعة

وإذا كانت الشبكة العنكبوتية قد نجحت في احتواء الصحافة اليومية وأداء دورها، فإنها لم تنجح (أو لم ترغب) في لعب دور المجلات. فهذا المكان المهجوس بالسرعة، اللاهث وراء عقرب الثواني، لا يميل كثيرًا إلى استيعاب من يطيل الحديث ويتباطأ في حسم المسائل، ويستمتع في تقليب الآراء ووجهات النظر، ويريد أن يطبخ على نار هادئة.. حتى المنصات التي ترغب في أن تكون هادئة ورزينة ومتمهلة، سرعان ما تراها وقد أصابتها العدوى، فتأخذ بالتململ وتظهر عليها علامات النزق والتعجل..

يوجد استثناءات بالطبع ولكنها لا تزال قليلة، وحالها لا يبشر بالاستمرار، فضلًا عن التكاثر.

قال صديقي، عندما شكوت أمامه افتقادي للمجلات الورقية: "ألا تخجل أن يكون هذا الترف هو همك في بلاد تفتقد الكهرباء والماء النظيف.. وربما، غدًا، الغذاء؟".

قلت: "كلما ضجرت من غياب الكهرباء وكلما آلمتني أمعائي من المياه الملوثة، وكلما خفت من الجوع الوشيك.. فإن أكثر ما أشعر بالحاجة إليه هو مجلة تفسر لماذا يحدث كل هذا لنا".