29-مارس-2023
كتاب الصحافي العالمي

كتاب الصحافي العالمي

لا تحظى الكتب التي تزعم أنها تعطي دروسًا في مهنة ما بسمعة طيبة، بل إن صيغة "كيف تتعلم الـ... بدون معلم" صارت كليشة نموذجية للسخرية. غير أن كتاب ديفيد راندال "الصحافي العالمي"، (العبيكان، ترجمة معين الإمام)، ليس من بين هذه الكتب، على الرغم من أنه يتصدى هو الآخر لإعطاء دروس في مهنة الصحافة، مكررًا كلمات: "افعل" و"لا تفعل" و"عليك.. انتبه إلى.. لا يجوز أبدًا.."، وغيرها من المفردات التعليمية التي تقترب من حدود التلقين، الشيء الذي يبدو أنه لا ينسجم مع مهنة ذات خصوصية كالصحافة.

وما الذي يجعل كتاب راندال هذا ينجو من الانتماء إلى هذا الصنف غير الموقر من الكتب؟

يبدأ راندال من الدفاع عن الصحافة، وخاصة المراسلين، مؤكدًا أن هؤلاء يعانون من مثالب وعيوب. سمعتهم سيئة مقارنة بالآخرين، نظرًا لالتجاء عدد كبير منهم بشكل روتيني إلى تضخيم وتبسيط وتشويه الحقيقة

عمل راندال أكثر من عشرين عامًا في الصحافة، مر فيها على مختلف الاختصاصات والقطاعات، حتى استقر به المقام في منصب كبير محرري الأخبار في صحيفة الإندبندنت البريطانية الشهيرة، وعلى حد تعبيره، فقد حقق في هذه المسيرة الطويلة مزيدًا من الانتصارات، كما أنه أصيب بكثير من الإخفاقات وارتكب عددًا كبيرًا من الحماقات، وهو يزعم أنه تعلم من هذه الإخفاقات وهذه الحماقات أكثر بكثير مما تعلم من الانتصارات، وربما يكون هذا التواضع هو أول أسباب نجاح كتابه، وثمة سبب آخر هو أن راندال يبتعد عن الأستذة فيبدو في كلامه وكأنه الصحفي العتيق المجرب الذي يتحدث إلى زملائه الجدد وينصحهم أن يستفيدوا من تجربته ولا يكرروا أخطاءه، وكذلك، وهذا هو السبب الأهم، فهو يصوغ كل ذلك على شكل حكايات ممتعة لا تخلو من طرافة، وخلف كل حكاية تأتي العبرة سلسة رشيقة خالية من أي فجاجة.

يقول فال وليامز من مؤسسة تومسون عن الكتاب: "أعجبتني قابلية أفكاره للتطبيق العملي اعتمادًا على المنطق السليم، وإيمانه الراسخ بالتقرير الصحفي الصادق والنزيه، والتزامه بالجودة.. أسلوب ديفيد راندال السلس الرشيق، والمجموعة الضخمة من الأمثلة والنماذج، تجعلان قراءة الكتاب متعة. وعلى كل من يرغب بأن يصبح صحفيًا أن يقرأه مرارًا وتكرارًا".

يبدأ راندال من الدفاع عن الصحافة، وخاصة المراسلين، مؤكدًا أن هؤلاء يعانون من مثالب وعيوب. سمعتهم سيئة مقارنة بالآخرين، نظرًا لالتجاء عدد كبير منهم بشكل روتيني إلى تضخيم وتبسيط وتشويه الحقيقة، بما يكفي لجعل أجزاء من المهنة مرادفة للخداع المتعمد والتضليل المقصود. وليس من قبيل الصدفة أن يختار كتاب السيناريو والمسرح بانتظام، عند بحثهم عمن يجسد الشرير الزري، مراسل صحف الإثارة فهذا يوفر عليهم الجهد والوقت، إذ لا يضطرون لكتابة صفحات عديدة تصف شخصية تفتقد الأخلاق، فبمجرد إعلان مهنة الشخصية يكفي لكي يفهم النظارة أنها سوف تمارس التملق والخداع. ثم هنالك الكسالى، أولئك الذين يختارون التلقين والسطحية والمعلومات التي يستحيل مناقشتها بدلًا من العمل الدؤوب والاجتهاد والجد والكد والسعي للحصول على المعلومات الصحيحة قدر المستطاع. ومن المؤكد وجود الكثير من الحقد الخبيث المتعمد والبراعة والحرفية في تاريخ الصحافة.

لكن الجانب المشرق أكثر اتساعًا حسب رأي المؤلف.. هناك العديد من الأعمال البطولية تزيد كثيرا عما تعتقده غالبية المذاهب النقدية والمدارس الصحفية:

جون تياس مراسل التايمز فضح الأعمال الوحشية التي ارتكبها البريطانيون ضد المتظاهرين في مانشستر عام 1819. وليم هوارد رسل وصف حماقات الجيش البريطاني الخرقاء في القرم. وليم لينك كشف في "شيفلد تلغراف" الفساد والعنف في تلك المدينة. اميلي كروفورد خاطرت بحياتها بكل عناد لنقل ما يحدث في كومونة باريس 1871 إلى صحيفة "ديلي نيوز"، ثم فاجأت العالم بالسبق الصحفي حول مؤتمر فرساي لاحقًا. نيللي بلاي ادعت أنها تعاني من مرض عقلي لتدخل مصحة للأمراض العقلية وتكتب تحقيقًا لصحيفة "نيويورك وورلد"، وصفت فيه الرعب والإرهاب والوحشية هناك مما أدى إلى تحسين ظروف المرضى داخل المصحات.

و. تي. ستيد فضح دعارة الأطفال في "بول مول غازيت". إيدا تاربل وثقت في مقالاتها لصحيفة "مكلور" ممارسات الفساد والتخويف والتهديد في شركة ستاندارد أويل 1902 ـ 1904 وعبدت الطريق لحل الشركة فيما بعد... وجون ريد الذي روى ما حدث خلال الثورة الروسية. ولا ننسى التقارير التي أرسلها جون هيرسي وولفريد بيركت من هيروشيما ودحضت الكذبة الرسمية التي تزعم عدم وجود شيء اسمه المرض الإشعاعي. أما سيمور هيرش ففضح مذبحة ماي لاي المرعبة عام 1968.. وصولًا إلى تحقيق كارل برنستاين وبوب وودورد في قضية "ووترغيت" في صحيفة "واشنطن بوست" الذي أطاح برئيس الولايات المتحد نيكسون..

جون تياس مراسل التايمز فضح الأعمال الوحشية التي ارتكبها البريطانيون ضد المتظاهرين في مانشستر عام 1819. وليم هوارد رسل وصف حماقات الجيش البريطاني الخرقاء في القرم

بعد ذلك يخوض راندال في التفاصيل المهنية، فيعرض للمواصفات التي يجب توفرها في مهنة المراسل، ويعرف الخبر الصحفي مقدمًا أفضل السبل لكتابته، ويجيب على تساؤل: "من أين تأتي القصص الإخبارية الجيدة؟"، كما يتطرق لأساليب البحث لاسيما في كتابة التقارير والتحقيقات الاستقصائية، ويقدم نصائح ثمينة في كيفية التعامل مع المصادر (تحكم بالمصادر ولا تدعها تتحكم بك)، ويفرد فصلًا لكتابة التقارير التي تتضمن الأرقام والإحصائيات، وفصلًا آخر للبحث على الإنترنت.. إضافة إلى فصول عن المقدمات التمهيدية، البناء والوصف، التعامل مع الشواهد، أساليب مختلفة لرواية القصة الإخبارية، التعليق، الصحافة الالكترونية..

يركز المؤلف على المبادئ الأخلاقية، ليس في الفصل الذي أفرده لذلك وحسب، بل وفي معظم الفصول، مكررًا عبرة مفادها أن الصحفي بإمكانه أن يتحاذق مرة ويكسب قراء من قصة ملفقة وكاذبة ولكن متقنة، ولكنه على المدى البعيد يقامر بمصداقيته التي هي جوهر الصحافة..

وهو ينبه إلى الحدود التي يجب على الصحفي الالتزام بها حتى في الأساليب المشروعة، كالتخفي مثلًا، مستشهدا بقصة طريفة:

سرت إشاعة أن هناك تجارًا متخفين يبيعون اليورانيوم في السوق، فقام أحد الصحفيين المتحمسين بالتنكر على هيئة رجل راغب في الشراء، وبالفعل تعرف على واحد من هؤلاء التجار أعلن رغبته في البيع، ولكن ما هي إلا أيام حتى اكتشف الصحفي هوية البائع: صحفي من جريدة منافسة تخفى هو الآخر بهدف التحري عن الموضوع! ثم اكتشف الاثنان أن العشرات من زملائهما تنكروا أيضًا، منهم على هيئة بائعين ومنهم على هيئة شارين، مما جعلهم يصطدمون ببعضهم، ما حولهم إلى مهرجين، وجعل من القصة برمتها مجرد نكتة!