كتب سانت بيف في مقال له بمجلة العالمين، في 21 كانون الأول/ ديسمبر سنة 1839، يقول: "ينبغي أن يُكتب تاريخ الصحف؛ فقد حان الوقت لتدوين هذا التاريخ، بل لقد أصبح الوقت متأخرًا ويُخشى ألا يمكن إنجازه فيما بعد. إذ أن الفترة التي انهارت فيها قوة الصحافة قد حلت..".
ولقد صادقت الأيام على الشطر الأول من كلام بيف، فمنذ السنة التي نشر فيها مقاله هذا وإلى اليوم، تمت كتابة نسخ كثيرة من تاريخ الصحف، في أمكنة مختلفة وبأيدي الكثير من المؤرخين المحترفين والهواة.. أما الشطر الثاني، والذي ينطوي على نعي لمهنة الصحافة، فقد تبين أنه مجرد نبوءة كاذبة، أو على الأقل: تحذير مبالغ به. ذلك أن العام 1839 لم يكن بداية النهاية للصحف، بل على العكس كان مقدمة لعصور ذهبية حلقت فيها الصحافة من ذروة إلى ذروة.. واليوم فقط تبدو الإشارات جدية على نهاية وشيكة، وبالتالي يبدو النعي مبررًا أكثر، ولكن من يدري؟ فربما يأتي بعد مئة وخمسين عامًا من الآن من يسخر من إشاراتنا ونعينا ويعتبرها نبوءة كاذبة أخرى!
يتسم كتاب "تاريخ الصحافة" بالإيجاز والتكثيف، حيث نجد أن مسيرة الصحافة الفرنسية والغربية في أربعمئة عام قد تم ضغطها وتعليبها في 180 صفحة من القطع المتوسط
ينفض المؤرخ الفرنسي إميل بوافان الغبار عن دعوة سانت بيف القديمة، وينخرط في تدوين تاريخه الخاص للصحف، قاصرًا اهتمامه على الصحافة الفرنسية، مع إشارات سريعة إلى الصحافة في أوروبا والولايات المتحدة.
وكتاب بوافان "تاريخ الصحافة" (ترجمه إلى العربية محمد إسماعيل، وصدر عن وكالة الصحافة العربية، ط 2018)، يتسم بالإيجاز والتكثيف، حيث نجد أن مسيرة الصحافة الفرنسية والغربية في أربعمئة عام قد تم ضغطها وتعليبها في 180 صفحة من القطع المتوسط. ولكن الإيجاز والتكثيف لا يقللان من جرعتي المتعة والمعرفة، والكاتب يقول لنا صراحة إنه يريد إعفاءنا من القوائم الطويلة والسرد الممل لكل الأسماء والعناوين والتواريخ، وهو، عوضًا عن ذلك، يتنقل برشاقة بين المحطات الأساسية والتواريخ المفصلية ونقاط التحول المؤثرة..
وبين العام 1631 عندما أسس ليتوفراست رينودو جريدة "لاجازيت"، والعام 1958 حيث انتهت الجمهورية الفرنسية الرابعة، جرى الكثير الكثير من المياه.. الكثير من الحبر والكثير من الصفحات المسودة بأخبار وتعليقات وآراء ورسوم.. وبالطبع فالمسافة شاسعة بين الجريدة البدائية لحظة الانطلاق وأي من جرائد اليوم المتطورة: "لوموند"، "الفيغارو"، "نيويورك تايمز".. ولكن، مع ذلك، فثمة ما هو ثابت: المعارك التي خاضتها وتخوضها الصحافة على جبهات السياسة والمال والرأي العام، والأهم: حربها الأهلية حيث يقف الصحفيون الشغوفون الجادون في مواجهة المنتسبين المستهترين وغير الأكفاء.
كتب جان بول مارا، عقب الثورة الفرنسية سنة 1789، يقول: "أضحت مهنة الصحفي أمرًا يدعو للسخرية بيننا في هذه الأيام، فكل من لاك أبياتا ركيكة أو سوَّد مقالًا غثًا في "لاجازيت" ثم حار في اختيار عمل يمتهنه، جرب حظه في إنشاء إحدى الصحف، وغالبًا ما يكون شخصًا فارغ العقل تافه المعلومات لا فكر عنده ولا رأي".. ألا تلاحظون أننا نكرر هذا الكلام حرفيًا اليوم؟!
يستعرض الكتاب المحطات الرئيسية في مسيرة الصحافة في فرنسا والعالم: النشأة في القرن السابع عشر؛ الصحافة في القرن الثامن عشر؛ الصحافة بين ثورتي 1789 و1848؛ الصحافة بين عامي 1848 و1871؛ الصحافة الحديثة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ فترة الحرب العالمية الأولى؛ فترة ما بين الحربين؛ الحرب العالمية الثانية؛ الصحافة في الجمهورية الرابعة..
يفرد المؤرخ حيزًا لمنتقدي الصحافة:
ديدرو: "إن هذه الأوراق زاد الجاهلين ومادة الذين يرغبون في الكلام وفي الحكم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة، وهي وباء ومصدر اشمئزاز للذين يعملون".
جان جاك روسو: "ما هي الدوريات؟ عمل زائل لا رواء فيه ولا نفع منه، يعزف عن قراءتها أهل الأدب ويترفعون عنها، ولا تصلح إلا في تشجيع النساء والحمقى على ادعاء العلم والغرور دون ثقافة، ومصيرها المحتوم، بعد أن تكون قد تلألأت في الصباح، هو أن توضع على طاولات الزينة، وأن تموت في الليل بعد أن توضع في الصوانات".
فولتير: "إن الدوريات معرض عام للمناقب والمثالب.. وإن الأدب بها قد تردى في مهاوٍ سحيقة".
ديدرو: "إن هذه الأوراق زاد الجاهلين ومادة الذين يرغبون في الكلام وفي الحكم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة، وهي وباء ومصدر اشمئزاز للذين يعملون"
غير أن أيًا من هؤلاء، وسواهم من المنتقدين، لم يفلح في إثبات عدم اكتراثه بالصحافة. ويلاحظ المؤلف أن الوقت لم يطل حتى لم يبق اسم بارز في فرنسا إلا وانخرط في العمل الصحفي بشكل أو بآخر. ومن بين الأكثر اكتراثًا يبرز اسم نابليون بونابرت. فعندما كان ضابطًا اعتاد أن يراسل، وتحت أسماء مستعارة، العديد من الصحف والمجلات، وبعد أن أصبح قنصلًا ثم إمبراطورًا أسس الكثير من الصحف، ولم يكتف بأن يكون مالكها، إذ عمل بها مراسلًا ومحررًا ومنقحًا ورقيبًا ورئيس تحرير!
وتبقى العبارة الأكثر تعبيرًا عن صعود الصحافة وألقها هي التي قالها لويس لوبلان إثر قيام الثورة الفرنسية سنة 1789: "حينما تضطرم أفكار الناس وتدق القلوب بشدة وتهتز كل الشفاه فتعبر عن العواطف الثائرة بكلمات من نار، وحينما يحس الذين يتدافعون في سبيل الحياة أن يومهم قد قضى على أمسهم.. عندئذ ينقضي بالنسبة إليهم عهد الكتب ويبدأ عهد الصحف".