26-يناير-2023
كاريكاتير لـ فاروق سويارات/ تركيا

كاريكاتير لـ فاروق سويارات/ تركيا

"عُثر على الصحافي الإذاعي الكاميروني الشهير مارتينيز زوغو ميتًا بعد اختفائه، في أعقاب ما وصف بـ"الاختطاف". وكان اختفاء الصحافي قد أثار مواقع التواصل الاجتماعي، وأدانت منظمة "مراسلون بلا حدود" ما أسمته "الاختطاف الوحشي" لصحافي، وطالبت السلطات بـ "بذل قصارى جهدها للعثور عليه".

ويبدو أن الذنب الذي ارتكبه الصحافي الكاميروني، ومن أجله لقي هذا المصير المأساوي، هو كشفه مؤخرًا عن "اختلاس في الحكومة، ساردًا المبالغ وأسماء بعض كبار المسؤولين".

أليس هذا غريبًا: فيما مهنة الصحافة تموت فإن الصحافيين لا يزالون يموتون من أجلها؟!

 

وكانت المنظمة غير الحكومية "مراسلون بلا حدود" قد ذكرت، في تقرير لها أواخر الشهر المنصرم، أن 1668 صحافيًا قتلوا في العالم بين عامي 2003 و2022، أي بمعدل 80 صحافيًا سنويًا.

وإذا كان متوقعًا أن تفسر النزاعات المسلحة هذا العدد المرتفع من الضحايا بين الصحافيين في الأعوام العشرين الماضية، فإن التقرير يفاجئنا بهذه الملاحظة: "إن عدد الصحافيين الذين قتلوا في مناطق سلام أكبر من الذين سقطوا في مناطق حرب، بسبب تحقيقاتهم في الجريمة المنظمة والفساد".

أليس هذا غريبًا: فيما مهنة الصحافة تموت فإن الصحافيين لا يزالون يموتون من أجلها؟!

على الأرجح هي لا تزال بعيدة عن الموت، ليس فقط لأنها تجد من يضحي بحياته في سبيلها، بل أيضًا لأنها الوحيدة القادرة على الدخول إلى هذه الميادين الخطرة. يصعب أن نتصور شخصًا يذهب إلى أوكرانيا لتغطية الحرب الدائرة هناك لمصلحة حسابه على الفيسبوك، كما يصعب أن نتصور مغردًا يتفرغ بضعة أشهر لملاحقة ملف فساد في الكاميرون، ثم يقتل جراء ذلك!

الصحافي وحده من يستطيع فعل هذا، وبالتالي فالصحافة تستحق أن تحيا.. أيضًا وأيضًا.

*

كتب جان بول مارا، عقب الثورة الفرنسية سنة 1789، يقول: "أضحت مهنة الصحفي أمرًا يدعو للسخرية بيننا في هذه الأيام، فكل من لاك أبياتا ركيكة أو سوَّد مقالًا غثًا في "لاجازيت" ثم حار في اختيار عمل يمتهنه، جرب حظه في إنشاء إحدى الصحف، وغالبًا ما يكون شخصًا فارغ العقل تافه المعلومات لا فكر عنده ولا رأي"..

وفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، كتب طه حسين مقالًا ساخطًا عن الصحافة في زمنه، ناعيًا فيه الصحف الرزينة ومستهجنًا ما تفعله الصحف الأخرى والتي تريد أن "تهبط إلى القراء"، عوضًا عن الارتفاع بهم "من الجهل إلى المعرفة، ومن السخف إلى الجد"، مؤكدًا أن الصحف يجب أن تكون "أدوات رقي في البيئة الاجتماعية، وليست أدوات انحطاط". واصفًا بعض الصحفيين بأنهم "يبحثون عن كلام يملأ الصحف، ويريح المحررين من الجهد والعناء ليملأوا صفحاتهم.. يحببون إلى القراء راحة الجهل، ويشفقون عليهم من مشقة المعرفة".

وفي كتابه "قبل أن تبهت الألوان"، (1991)، كتب رياض الريس: "كنت أعرف أنني رجل له طموحات مثالية وأن مثالية طموحاتي تصل إلى حد السذاجة في أحيان كثيرة.. وكنت أعرف أيضًا ــ بحكم أني رجل واقعي وعملي على الرغم من مثاليتي ــ أن مهنتي، مهنة الصحافة العربية، وقد مارستها محترفًا ثلث قرن حتى الآن، قد وصلت إلى مستوى من السقوط ربما لم تعرفه في كل تاريخها، وأن تراجعها في مثالياتها وقواعدها وأسلوبها وممارستها، قد فاق تراجعها في حرياتها وكراماتها واستباحة الأنظمة والناس لها..".

سلامة موسى: "إن كل إنسان متمدن، يحيا في مجتمع متمدن، يجب أن يشتبك في شؤون هذا المجتمع. والصحفي أولى الناس بهذا الاشتباك".

 

ما الحكاية؟! هل الصحافة فعلًا في انحطاط مستمر منذ نهاية القرن الثامن عشر وإلى اليوم؟ على الأرجح لا، وإلا لكنا قد وصلنا إلى قاع ليس تحته قاع، وبما أننا نتلفت حولنا فلا نجد صحفًا موبوءة إلى هذه الدرجة ولا صحفيين أشرارًا إلى هذا الحد، فإن الأمر إذًا ينطوي على مبالغة مزمنة.

ولكن لم؟ لماذا نجد وفي كل الأزمنة صحفيين يميلون إلى المبالغة بالتشاؤم فيما يخص مهنتهم؟

لعل السبب يكمن في المفارقة التي صاغها سلامة موسى عنوانًا لكتاب شهير له: "الصحافة حرفة ورسالة". من هنا هذا الالتباس الذي يعيشه الصحفيون دومًا: يمارسون حرفة محملة برسالة، ويحملون رسالة مقيدة بحدود حرفة.. كأي حرفة. يغضبهم أن يكدحوا لأكل لقمة العيش وهم تحت ضغط المثال، كما يغضبهم أن يغرقوا المثال في أوحال الواقع.. هذا ربما.. ربما ما يجعلهم ساخطين دومًا.

*

سلامة موسى: "إن كل إنسان متمدن، يحيا في مجتمع متمدن، يجب أن يشتبك في شؤون هذا المجتمع. والصحفي أولى الناس بهذا الاشتباك. وأنا هنا أنظر إلى أخلاقه قبل أن أنظر إلى حرفته. إذ هو قد ينجح النجاح المالي إذا بقي متفرجًا محايدًا لحوادث بلاده والعالم. ولكنه لن ينجح النجاح الإنساني، النجاح الشريف الذي يجب أن يهدف إليه كل صحفي، إلا إذا اشترك مع مجتمعه في كفاح للخير والشرف والإنسانية والعدل والاستقلال".