15-مايو-2023
جزء من لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور

جزء من لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور

يحكم السياق الزمني الذي يُقرأ فيه العمل الأدبي طريقة ونوعية قراءته. والسياق الذي نُعيد فيه الآن قراءة قصائد شعراء فلسطينيين عايشوا النكبةوما سبقها وتبعها أيضًا، عنوانه الأبرز محاولات إنكار النكبة ذاتها عبر ترويج خطاباتٍ تتعامل معها بوصفها حدثًا متخيلًا. وهي خطاباتٌ يسعى مروِّجوها، من بين أهداف أخرى كثيرة، إلى إشاعة النسيان الذي توظِّفه دولة الاحتلال في محاولاتها لطمس ماضيها القائم على ممارسة العنف والتطهير العرقي اللذين شكّلا أحد أساساته.

تُحدِّد ثنائية الذاكرة والنسيان طريقة قراءة تلك القصائد التي تدور حول النكبة بمختلف مراحلها، وتُعيد أيضًا، في الوقت نفسه، صياغة شكل عملية تلقّيها وتفاعل القارئ معها، ذلك أنها عملية خاضعة لظروف اللحظة الراهنة التي تُظهِر تلك القصائد بوصفها وثائق تاريخية لا تكتفي بالتأريخ للحدث المعني فقط، وإنما لمواقف مؤلفيها منه وطبيعة قراءتهم لسياقاته ومآلاته كذلك.

يمكن التعامل مع هذه قصائد النكبة باعتبارها وثائق تاريخية توثِّق ما حدث من جهة، وتُطلعنا على مواقف مؤلفيها تجاهه من جهةٍ أخرى

لا نحاول هنا قول أي جديدٍ في هذا السياق، ولا نسعى أيضًا إلى تقديم قراءاتٍ جديدة للقصائد المعنية، وإنما إلى استعادتها والإضاءة على الظروف التي ظهرت فيها وبفعلها، وكذا الإشارة إلى مدى تقاطعها مع الظروف الراهنة، حيث المحاولات المستمرة لمحو ذاكرة الفلسطينيين وتحريف ماضيهم الذي تشكِّل قصائد إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، وحسن البحيري، وهارون هاشم رشيد، إلخ.. أحد أساساته.

تمثِّل قصائد هؤلاء الشعراء نصوصًا ثابتة المعنى، تقريبًا، في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. ورغم أن قراءة النص تتغير، مع مرور الزمن، إلا أن المعاني التي تستخلصها القراءات المتعددة، على اختلاف أشكالها وغاياتها، تكاد تكون ثابتة، ذلك أن السياق الذي تستعاد وتُقرأ فيه، ثابتٌ بدوره: الاحتلال وجرائمه المستمرة بحق الفلسطينيين الذين يقاومونه ويدافعون عن أرضهم.

وضمن السياق ذاته، تُستعاد هذه القصائد بوصفها نصوصًا "تُلهب" المشاعر و"تؤجج" الحماس، وذلك بفعل الطابع العاطفي أو الانفعالي اللذين تتسم بهما. وهما طابعان قُرأت من خلالهما مرارًا وتكرارًا، خاصةً أن الانفعالات هي أساس مبدأ التماهي الذي يُعتبر محركًا جوهريًا لقراءة النص والتفاعل معه(1). ورغم ذلك، وبالنسبة إلى جيلنا على الأقل، جيل القرن الحادي والعشرين، وفي ظل راهن القضية الفلسطينية؛ يمكن التعامل مع هذه القصائد باعتبارها وثائق تاريخية توثِّق ما حدث من جهة، وتُطلعنا على مواقف وأفكار ووعي مؤلفيها تجاهه من جهةٍ أخرى.

يُصادفنا الوصف أعلاه، وثيقة تاريخية، عند قراءة قصائد إبراهيم طوقان (1905 – 1941) اليوم. ومع أنه لم يكتب بهدف التأريخ فقط، إلا أن هذا لا ينزع عن قصائده هذه الصفة التي اكتسبتها بمرور الزمن. فما كتبه قبل نحو تسعة عقود تقريبًا، يُقرأ اليوم باعتباره محاولات للإحاطة بما حدث خلال الانتداب، أو المرحلة التي سبقت النكبة، عبر أقل ما يمكن من الكلمات، واستنادًا إلى أساليب متعددة من بينها السخرية التي اتسمت بها قصيدة "أيها الأقوياء"، التي سخِرَ فيها من الانتداب ووعد بلفور.

يقول في القصيدة ساخرًا: "قد شهدنا لعهدكم (بالعدالهْ)/ وختمنا لجندكم بالبسالَه!/ وعرفنا بكم صديقًا وفيًّا/ كيف ننسى انتدابَه واحتلالَهْ/ وخجلنا من (لطفكم) يوم قلتم/ وعدُ بلفور نافذٌ لا محالَه/ كلُّ (أفضالكم) على الرأس والعين/ وليست في حاجة لدلالَه!/ ولئن ساء حالُنا فكفانا/ أنكم عندنا بأحسن حالَه/ غير أن الطريق طالت علينا/ وعليكم، فما لنا والإطالَه؟!/ أجلاءٌ عن البلاد تريدون فنجلو/ أم مَحْقنا والإزالَه؟"(2).

تُقرأ قصيدة إبراهيم طوقان انطلاقًا من عدة مداخل. فهي لا تكتفي بالسخرية، بمرارة، من الانتداب ووعد بلفور فقط، بل تُطلعنا أيضًا على قراءة طوقان للحدث، وتُعبِّر عن مخاوفه من مآلاته التي تحققت بالفعل، ما يجعل منها لا مجرد كلماتٍ نُظمت تحت تأثير حادثةٍ ما، بل خلاصة قراءته لأبعادها ومآلاتها المحتملة. أي أنها تؤرخ للحادثة وتوثق موقفه منها عبر أسلوبٍ زواج بين الخوف والسخرية التي دعَّمها بمفرداتٍ شعبية، مثل "على الرأس والعين"، "من لطفكم"، وغيرها، مما جعل منها، بحسب لأحمد دحبور، مأثورة شعبية(3).

تنطوي قصائد هؤلاء الشعراء على نظرة استشرافية وقراءات دقيقة للواقع الفلسطيني ومآلاته قبل النكبة

نَظمَ إبراهيم طوقان قصيدته هذه عام 1935. وفي العام ذاته، كَتب عبد الرحيم محمود (1913 – 1948) قصيدة تناولت الموضوع ذاته تحت عنوان "وعد بلفور"، رسم فيها مسارًا تقريبيًا للواقعة منذ التحالف البريطاني العربي: "وأتى الحليفُ وقام في أعتابنا/ مُتَحيّرًا، إنّا هُدى المُتَحَيّر/ واستنصرَ العربَ الكرامَ، وإنهمْ/ غوثُ الطريد، ونصرةُ المستنصر/ وإذا عتاقُ العرب تُورْي في الدجى/ قدحًا وتصهل تحت كل غضنفر"(4)، وحتى غدر الإنجليز بالعرب: "غدر الحليف وأي وعدٍ صانهُ/ يومًا، وأيةَ ذمّةٍ لم يَخفُر/ لما قضى وَطَرًا بفضل سيوفنا/ نسي اليد البيضا، ولم يتذكر/ وإذا الدمُ المهراقُ لا بمُراقِهِ/ جدوى، ولا بنجيعه المتحدر/ ياذا الحليفُ: سيوفُنا ورماحُنا/ لم تُنْثَلِمْ فاعلم، ولم تتكسَّر"(5).

تتلاقى قصيدة طوقان ومحمود في تناولهما/ تأريخهما، بقصدٍ أو بدونه، لحدثٍ فارقٍ في التاريخ الفلسطيني، ولكنهما تختلفان في كيفية تناوله. فبينما توسلت الأولى السخرية والتحذير المبطن من تبعاته، ذهبت الثانية إلى الإحاطة بسياقاته وإبراز غدر الإنجليز ومسؤوليتهم عما سيترتب عليه، إضافةً إلى الدعوة لمقاومته وقتاله.

ولكن قصيدة عبد الرحيم محمود لم تكن تخلو، رغم طابعها الانفعالي، من نظرةٍ استشرافية إن جاز التعبير، حيث يقول في قصيدته "المسجد الأقصى" مُخاطِبًا الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود أثناء زيارته للمدينة في آب/ أغسطس عام 1935: "يا ذا الأمير، أمام عينك شاعر/ ضمّتْ على الشكوى المريرة أضلعُهْ/ المسجد الأقصى، أجئتَ تزوره/ أم جئتَ من قبل الضياع تودعُه؟"(6).

أشار محمود في قصيدته إلى مصيرٍ لطالما حذَّر منه طوقان، الذي كَتب في العام نفسه يقول في "مناهج": "أمامك أيُّها العربيُّ يومٌ/ تشيبُ لهولهِ سودُ النواصي"(7)، وقال في "فلسطين مهد الشهداء" مشيرًا إلى خطورة بيع الأراضي لليهود: "هيهات ذلكَ إنَّ في/ بَيْعِ الثَّرى فَقْد الثَّراء/ فيه الرحيلُ عن الربوع/ غدًا إلى وادي الفناءِ/ فاليوم أمرحُ كاسيًا/ وغدًا سأُنبذُ بالعراء"(8).

ليس الأمر هنا مجرد توقعات بقدر ما هو قراءات دقيقة للواقع ومآلاته، لا سيما السياسي منه، حيث نزاع الزعامات والقوى الوطنية الفلسطينية وانقسامها الذي صوَّره طوقان في أكثر من قصيدة، منها "يا قوم" التي سخر فيها من تنافس تلك الزعامات وصراعها أثناء الانتخابات البلدية: "بَلِيَتْ قضيتكم فصارت هيكلًا يتهدَّم/ ضَمَرتْ إلى بلديِّةٍ/ فيها العداء تتحكَّم/ أوضاعُها مجهولةٌ/ ومصيرها لا يُعلمُ"(9)، ويضيف: "يا قوم ليس عدوُّكم/ ممَّن يلين ويرحمُ/ يا قوم ليس أمامكم إلَّا الجلاء فحزِّموا"(10).

نستعيد قصائد هؤلاء الشعراء الذين عايشوا النكبة وما سبقها وتبعها أيضًا في ظل محاولات مستمرة لإنكار النكبة وعدِّها حدثًا متخيلًا

صوَّرت قصائد إبراهيم طوقان خلافات الزعامات الوطنية الفلسطينية بقدرٍ كبيرٍ من السخرية، لا سيما بين الحاج أمين الحسيني وراغب باشا النشاشيبي. يقول في قصيدة "1000": "بني وطني، هل يقظةٌ بعد رقدةٍ/ وهل من شعاع بين تلك الغياهب/ فوالله ما أدرى، ولليأس هبَّةً/ أُنادي (أمينًا) أم أهيب (براغب)"(11). ويقول في "أنتم": "أنتمُ (المخلصون) للوطنيَّهْ/ أنتمُ الحاملون عبء القضيَّهْ!!/ أنتم العاملون من غير قولٍ!!/ بارك الله في الزنود القويَّهْ!!/ (وبيانٌ) منكم يعادل جيشًا/ بمعدَّات زحفه الحربيَّه/ (واجتماعٌ) منكم يَرُدُّ علينا/ غابرَ المجدِ من فتوح أُميَّهْ/ وخَلاصُ البلاد صار على الباب؛ وجاءت أعيادهُ الورديَّهْ/ ما جَحَدنا (أفضالكم)، غير أنَّا/ لم تزل في نفوسنا أُمنيَّهْ:/ في يديْنا بقيَّةٌ من بلادٍ/ فاستريحوا كيلا تطير البقيَّهْ"(12).

لم يبتعد عبد الرحيم محمود في قصائده عن نقد أداء القيادات السياسية، ولكنه توجَّه أكثر نحو الثورة والعمل الفدائي والدعوة إليهما، وهو ما نراه في قصائد عديدة، مثل "شعب فلسطين"، و"بطل شهيد"، و"أنشودة التحرير"، وغيرها. غير أن أشهر قصائده ضمن هذا السياق، هي "الشهيد": "سَأحملُ روحي على رَاحَتي/ وأُلقي بها في مَهَاوي الرَّدى/ فإمَّا حَيَاةٌ تَسُرُّ الصديقَ/ وإما مَمَاتٌ، يُغيطُ العِدى"(13)، ويضيف في القصيدة ذاتها: "لَعَمْرُكَ إني أرى مَصْرعي/ ولكن أغُذُّ إليه الخُطى"(14)، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشاعر استُشهِد في الثالث عشر من تموز/ يوليو عام 1948.

لم ينصرف إبراهيم طوقان، بدوره، عن الثورة والعمل الفدائي. بل إن أكثر قصائده شهرةً وتداولًا هي تلك التي كُتبت عنهما، ومنها: "الفدائي"، و"الثلاثاء الحمراء"، و"الشهيد"، وغيرها. وهي قصائد تُقرأ بوصفها وثائق تاريخية، شأنها شأن جميع قصائده التي تسرد أحوال فلسطين، السياسية والاجتماعية، قبل النكبة التي وقعت بعد نحو سبع سنواتٍ من وفاته.

المناخ العام الذي عنونَ مرحلة ما قبل النكبة، شعريًا، شكَّلته محاولات شعراءها للإحاطة بالأحداث الكبرى التي تصدَّرها وعد بلفور، وما ترتب عليه من فتح باب الهجرة للصهاينة، ودعم الاستعمار البريطاني لميليشياتهم، بالإضافة إلى تصوير آثار الأخير وممارساته، وصولًا إلى الأوضاع السياسية وانقسام الأحزاب الفلسطينية وخلافاتها، وغيرها من الأمور التي شغلت شعراء تلك المرحلة.

تغيَّر هذا المناخ بعد النكبة، حيث انشغل الشعراء الفلسطينيون حينها بمقاربة ما ترتب عليها من فقدٍ وبؤسٍ وتشرُّد، وذلك في محاولةٍ لتأريخ المرحلة التي تلت النكبة مباشرةً، بوصفها لحظة شديدة القسوة تتطلب مفردات وأساليب جديدة قادرة على مقاربة النكبة وتداعياتها على الشعب الفلسطيني.

ظهرت في تلك المرحلة قصائد لعددٍ من الشعراء الذين عايشوا النكبة، ولكن قصائدهم أخذت منحىً مختلفًا بعدها، مثل عبد الكريم الكرمي "أبي سلمى"، وهارون هاشم رشيد، وحسن البحيري، وغيرهم ممن انشغل بتوثيق المأساة ثم العودة. يقول أبو سلمى في قصيدة "سنعود": "غدًا سنعودُ والأجيالُ تصغي/ إلى وقع الخُطى عِندَ الإياب/ نعودُ مع العواصف داوياتٍ/ مع البرق المقدَّسِ والشهاب/ مع الأمل المجنَّح والأغاني/ مع النسر المحلِّق والعقاب/ مع الفجر الضحوك على الصحاري/ نعودُ مع الصَّباح على العباب"(15).

قدَّم هؤلاء الشعراء في قصائدهم نوعًا من الوثيقة التاريخية التي ساهمت في تأسيس الذاكرة الجمعية الفلسطينية والدفاع عنها

وإلى جانب العودة، قدَّم الكرمي عدة قصائد صوَّرت أحوال الفلسطيني اللاجئ والمتشرِّد. يقول في "النازحون": "أيُّها النازحون! ماذا لَقيتُم غير دُنيا الآلامِ والأتراحِ/ وحَمَلتم ذُلَ السؤالِ ثقيلًا/ بعد تاريخِ ثورةٍ وكفاحِ/ قُل لمن يدَّعي المروءة أقصر/ امسح اليوم دمعة التمساح"(16).

قدَّم هؤلاء الشعراء في قصائدهم نوعًا من الوثيقة التاريخية التي ساهمت في تأسيس الذاكرة الجمعية الفلسطينية والدفاع عنها، سواءً شعراء ما قبل النكبة أو بعدها، إذ إننا سنجد، في كلا الحالتين، شكلًا من أشكال التأريخ الأدبي، ضمن مسارٍ زمني شاملٍ يحيط بأغلب تفاصيل هاتين المرحلتين، ويُطلعنا على مواقف مؤلفيها تجاهها، وطبيعة قراءتهم لأبعادها ومآلاتها.


(1) فانسون جوف، القراءة، ترجمة محمد آيت لعميم وشكير نصر الدين (القاهرة: رؤيا للنشر والتوزيع، 2016)، ص 25.

(2) إبراهيم طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012)، ص 219.

(3) أحمد دحبور، مقدمة في دراسة الشعر الفلسطيني 1، مجلة الكرمل، عدد 44، 1992. ص 31.

(4) عبد الرحيم محمود، الأعمال الكاملة، القصائد والمقالات (دمشق: دار الجليل، 1988)، ص 47.

(5) المرجع نفسه، ص 48.

(6) المرجع نفسه، ص 61.

(7) إبراهيم طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 229.

(8) المرجع نفسه، ص 205.

(9) المرجع نفسه، ص 211.

(10) المرجع نفسه، ص 211.

(11) المرجع نفسه، ص 222.

(12) المرجع نفسه، ص 231.

(13) عبد الرحيم محمود، الأعمال الكاملة ص 31.

(14) المرجع نفسه، ص 31.

(15) عبد الكريم الكرمي، ديوان أبي سلمى (بيروت: دار العودة، 1978)، ص 172.