16-ديسمبر-2021

الشعراء الإخوة: أحمد وكمال وراشد حسين

فكر واحد.. ثلاثة توجهات

سنقوم عبر هذه المقالة بإلقاء نظرة خاطفة على حياة ثلاثة من شعراء فلسطين، ثلاثة إخوة، تقاطعت قصصهم ونصوصهم حينًا، واختلفت أحيانًا كثيرة. ثلاثة إخوة ولدوا وترعرعوا في عائلة واحدة، وتطورت توجهاتهم كل في طريق. تربطهم أواصر الشعر والأدب. تتقاطع طرقهم أحيانًا، وتنفصل أحيانًا أخرى.

نشأ راشد حسين في قرية مصمص التي كتب عنها: "هي قرية صلبت على صدر المثلث دورها.. لا يستحي أن ينتمي لحقولها عصفورها"

يمكن متابعة السيرة الذاتية عبر موقع ويكيبيديا لـ راشد حسين وأحمد حسين. أما كمال حسين فولد في 1 شباط/فبراير 1951، في قرية مصمص حيث يسكن. حصل على الماجستير عام 1986 في موضوع "الأدب المقارن"، وعمل في تدريس اللغة العربية حتى تقاعده عام 2016. صدر له في الشعر: "أراجيز على الطريقة النوّاسية"، "مزامير إسراطينيّة". وفي النثر: "عطر الظرابين"، وهو مجموعة كتابات نشرت على الفيسبوك. بالإضافة إلى ثلاثة كتب تدريسية، هي: "الموجّه في تدريس المنهاج"، و"الموجّه في تدريس التعبير"، و"الموجّه في تدريس مهارات الفهم ودلالات الألفاظ".

اقرأ/ي أيضًا: من ديوان القدس

راشد حسين.. كان بسيطًا كعشاء الفقراء

لا شك أنّ الشاعر الذي حظي بالحصّة الأكبر من الشهرة هو الشاعر راشد حسين، رغم أنه توفيّ بسنّ مبكرة وله من الشعر ثلاثة دواوين فقط، هي: "مع الفجر"، و"صواريخ"، و"أنا الأرض لا تحرميني المطر". وربما كان ذلك جزءًا من الهالة التي خلقت من حوله.

نشأ راشد حسين في قرية مصمص التي كتب عنها: "هي قرية صلبت على صدر المثلث دورها.. لا يستحي أن ينتمي لحقولها عصفورها".

بدأ حسين بكتابة الشعر في سنّ مبكرة، وتميّز شعره في أحيانٍ كثيرة بالمباشرة، أو الطرح المباشر للهمّ الوطني. ربما يبدو ذلك بمعايير آنية نوعًا من الابتذال، لكن هذا الشعر تحديدًا، وفي الفترة الزمنية التي كُتب بها، حيث الحكم العسكري وممارساته لإسكات كل صوت يغرد خارج السرب جعل منه صوتًا جديدًا، متفردًا، ومخيفًا للنظام الذي مارس ضده شتى أنواع الترهيب. صوتٌ دخل إلى قلوب الجماهير المتعطشة لكل صوت مخالف. يقول في قصيدته "هي وبلادي": "قالت: سألتكُ بالغرامِ الأول، ِأجميع قلبك لي، وكلّ هواك لي؟/ فأجبتها: خطًأ ظننت فموطني هو من فؤادي في المكان الأوّل". ويضيف في القصيدته ذاتها: "أحببت فيك الكبرياء لأنّها مأخوذة من كبرياء الكرملِ".

ويقول في قصيدته "الغلّة الحمراء"، التي كتبها في رثاء الأطفال الذين انفجرت فيهم قنبلة من مخلفات الحرب في صندلة: "مرج ابن عامر هل لديك سنابل؟/ أم فيك من زرع الحروب قنابل؟/ أم حينما عزّ النبات صنعت من لحم الطفولة غلّة تتمايل؟".

رغم أن أشعار راشد كانت الأكثر مباشرة في قرع جدران الخزان، لكنه، مما يبدو من سيرته الذاتية، كان الأكثر تقبلًا لفكرة التحاور – الندّي دون تنازل – مع "العدو" الذي خاطبه مباشرةً في قصيدته "حب في الغيتو"، يستنكر استثمار المحرقة في تحويل يافا إلى غيتو: "في المئةِ والشعرين.. يشوي الحب في فرنِ الكراهية"، ويضيف: "يا شرطيَّ الله.. هل سلختَ ساعدي؟/ لترفعَ السواعدَ التي مزقها سواي؟/ يا شرطيَّ الله.. هل قتل كواكبي/ سيشعلُ الكواكب التي أطفأها سواي؟".

تزوج من ماري آن اليهودية الإسرائيلية سابقًا في الولايات المتحدة، وتعاون في البدايات مع تيارات على هامش اليسار الصهيوني لربما في سياق موقفه الصارم جدًا تجاه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهو تعاون توقف لاحقًا كما وصفته "حركة أبناء البلد" في تأبينه، حيث قالت: "لقد أُغلقت في وجهه كل المنابر النضالية (المفبركة) التي حاولت استغلاله (وفبركته) فإاذا به (يفبركها) هو ويحولها إلى منابر نضال حقيقي من أجل القضية".

رغم أن أشعار راشد حسين كانت الأكثر مباشرة في قرع جدران الخزان، لكنه، مما يبدو من سيرته الذاتية، كان الأكثر تقبلًا لفكرة التحاور الندي مع "العدو" 

ولربما تشي هذه القصيدة بأفكاره وتوجهاته: "ضدَ أن يُصبِحَ طفلٌ بطلًا في العاشرة/ ضدَ أن يُثمِرَ ألغامًا فؤادُ الشجرة/ ضدَ أن تُصبِحَ أغصانُ بساتيني مشانقْ/ ضدَ تحويل حياض الوردِ في أرضي مَشانقْ/ ضد ما شئتُم.. ولكنْ/ بعدَ احراق بلادي/ ورفاقي/ وشبابي/ كيفَ لا تُصبِحُ أشعاري بنادقْ؟".

اقرأ/ي أيضًا: "أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار

رغم اختياره للمواضيع الشائكة والسابقة لأوانها، لكنه كان ملتزمًا شعريًا، حيث كتب الشعر الكلاسيكي: "سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر/ إنّ الشعوب إذا هبّت ستنتصر/ ولو قضيتم على الثوار كلهم/ تمرد الشيخ والعكاز والحجر". وذلك قبل أن ينتقل بدوره إلى شعر التفعيلة في ديوانه الأخير الذي كتبه في المهجر "أنا الأرض لا تحرميني المطر". يقول فيه: "هذه البنت الصغيرة/ ولدت في القدس/ والمولود في القدس/ سيضحي قنبلة/ صدّقوا.. المولود في ظلّ القنابل سوف يضحي قنبلة".

راشد حسين مع عروسته ماري آن في أوهايو 1967

ولم يأبه راشد حسين بذبح البقرات المقدسة، لا سيما في قصيدته "الله أصبح لاجئًا يا سيّدي". أو بازدرائه للمتدينين الذين يعتبرون الدين كتلًا من معادلات الثواب والعقاب: "يا أخي هل تصوم في الصوم حبًا/ أم ترى فيه منقذًا من جهنم؟/ وترى فيه للجنان سبيلًا/ حاسبًا في سلوكه كل مغنم!".

لقد مرّ راشد حسين بعدة مراحل كان لها تأثيرها على شعره، فبداياته كانت تحت الحكم العسكري، وحكم المخاتير، والتحكم التام بمصيره، حيث أقيل من وظيفته في التدريس، وخضع لمحاولات تدجين حثيثة تحت الحكم العسكري، إلى جانب ضغوط متعددة، منها حظر حركة الأرض التي كان من مؤسسيها حين حاولت دخول انتخابات الكنيست الإسرائيلي، وملاحقة العديد من مؤسيسها وسجنهم، وفصل من سلك التعليم، وذلك ردًا على محاولاته لإيجاد أرضية تُبنى فلسطين التي يحلم بها. كما كانت له القدرة على مد الجسور مع يهود يساريين مثل أوري أفنيري. ومن ثمار هذه العلاقات ترجمات راشد لشعر حاييم نحمان بياليك.

في تلك المرحلة كان مجرد الكلام يغدو فعلًا مناوئًا يخترق النقد والرقابة، بدوائرها الذاتية والعائلية والبوليسية. ولم يسمح لنفسه "أن يلعق نعل الأمير ليصبح أكبر": "سأكتب أكثر/ وأفرح أكثر/ وتبقى الطواويس تلعق نعل الأمير/ لتصبح أكبر/ وتكتب عني: "يحبّ النساء ويبكي... ويسكر"/ سأبكي: وأكتب شعرًا ونارًا/ لشعبٍ مخدّر".

انتهى به الأمر للثورة على كل ذلك. ثورة من لا يرضى بنصف الحقيقة بل يقولها كاملة. وثمن تلك الثورة هي الخروج من الوطن، خروج طوعي انتهى بسحب جنسيته بعد انضمامه لـ "منظمة التحرير" وزيارته لدمشق التي عمل فيها لفترة قصيرة.

يقول في قصيدته "أزهار من جهنم": "في الخيام السود، في الأغلال، في ظل جهنم/ سجنوا شعبي وأوصوه بألّا يتكلم/ هددوه بسياط الجند، بالموت المحتّم/ لن تصير الخيمة السوداء في المهجر قصرًا". ويضيف: "ودموع اليتم لن تصبح للأيتام خمرًا/ إنّما تحفر للاجئٍ قبرًا في جهنّم".

استقر به المقام أن يسكن ويعمل في مكتب "منظمة التحرير" في نيويورك، حيث كتب: "أتيت الطبّ في نيويورك/ أطلب منه مستشفى/ فقالوا: أنت مجنون ولن تشفى/ أمامك جنّة الدنيا ولست ترى سوى حيفا".

خلافًا لأخيه راشد، تزوج واستقر الشاعر أحمد حسين في قرية مصمص، وقد عانت العائلة عواقب انتماء راشد لمنظمة التحرير وأشعاره "التحريضية"

توفي عام 1977، في ظروف غامضة، واحتاج الأمر إلى تسعة أيام حتى سمحت السلطات لجثته أن تعاد إلى قريته ويدفن فيها.

اقرأ/ي أيضًا: فؤاد حداد.. كلمة مصر والفقراء

كتب محمود درويش في رثائه: "في الشارع الخامس حياني. بكى. مال على السور الزجاجي، ولا صفصاف في نيويورك./ أبكاني. أعاد الماء للنهر. شربنا القهوة. ثم افترقنا في الثواني./ منذ عشرين سنة/ وأنا أعرفه في الأربعين/ وطويلًا كنشيد ساحلي، وحزين/ كان يأتينا كسيف من نبيذ. كان يمضي كنهايات صلاه/ (...)/ ابن فلاحين من ضلع فلسطين/ جنوبي/ نقي مثل دوري قوي/ فاتح الصوت/ كبير القدمين/ واسع الكف، فقير كفراشه/ أسمر حتى التداعي/ وعريض المنكبين/ (...)/ يرى الغيمة في خوذة الجندي/ (...) سهلًا كان كالماء، بسيطًا كعشاء الفقراء/ كان حقلًا من بطاطا وذرة".

أحمد حسين.. شعرية مركّبة

خلافًا لأخيه راشد، تزوج واستقر الشاعر أحمد حسين في قرية مصمص، وقد عانت العائلة عواقب انتماء راشد لمنظمة التحرير وأشعاره "التحريضية" من التضييقات والمراقبة الوثيقة، لذلك لجأ أحمد عادة إلى تبطين شعره، بل وكتب باسم مستعار لفترة طويلة، وهو أحمد ناظم. فقط بعد رحيل راشد كتب قصيدة مطلعها: "جدّدت عهدك والعهود وفاء/ إنّا على دربِ الكفاح سواءُ/ نم في ثراك فلست أول عاشق/ قتلته أعينُ أرضه النجلاءُ".

وبعد رثائه لأخيه باسمه الشخصي بعامين، نشر أحمد حسين ديوانه الأول "زمن الخوف". وتختلف لغة أحمد حسين الشعرية كل الاختلاف عن لغة راشد، فقصائده مليئة بالترميزات والاستعارات والمقاربات: "أَداروني عَلى جُنْدِ العَدُوِّ كَما تُدارُ الكَأْسُ/ لكِنّي احْتَضَنْتُ ثُمالَتي حَتّى سَقَطْتُ عَلى حُدودِ الغَيْمَةِ السَّوْداءِ/ ثُمَّ صَحَوْتُ، ثُمَّ سَقَطْتُ، ثُمَّ صَحَوْتُ في جَسدٍ يُخافتُ في احْتِمالاتِ الوُجودِ/ أُحِسُّ أشْياءً تُغادرُني عَلى عَجَلٍ/ وَأنّي شارِعٌ/ في اللَّيلِ لكِنْ أَخْتَفي إنْ مَرَّ بي أَحَدٌ/ وَلَوْلا الحُزْنُ قُلْتُ بِأنّني شَبَحٌ/ أَلا تَدْري بِأنَّ اللّهَ ذاكِرَةٌ حَزينَة؟".

وقد خصّ حيفا بالعديد من قصصه وأشعاره، تلك المدينة التي سكنها مع والده الذي اشتغل بالتجارة حتى جيل عشر سنوات، ليعود في عام النكبة إلى قريته، وتبقى تلك المدينة الحلم، المدينة التي زارها غريبًا مئات المرات بعد النكبة، ولكنها ليست نفس المدينة التي سكنها قبل ذلك؛ تؤرقه وتقض مضجعه: "سبقتُ إليكَ الحزنَ بالحزنِ باكيا/ وكذّبتُ أفراحًا، وصدّقتُ ناعيا/ ستخرجُ من حيفا لأنكَ عاشقٌ/ وتمشي علي عصرٍ من النّارِ حافيا /تزيدكَ حباً كلّما ازددتَ لوعةً/ وتذكرُها حتي ولو كنتَ ناسيا/ تغادرُ طفلًا ساحةَ الدار عارياً/ وتركض بين البحر والبحر عاريا".

كتب أحمد حسين القصة، ومجموعاته القصصية لها أيضًا بعدها وقامتها الأدبية المتفرّدة حتى لو نظرنا إليها بمعزل عن شعره. ربما تعبّر عن قصّة انهيار، عن ذلك الشخص الذي عاش في حيفا مع العائلة قبل النكبة، ثم عاد إلى قرية مصمص، ليس قبل أن ينهار بعد اكتشافه أن "حيفا ليست أكبر من العالم". ونرى انعكاسات الوعي الشعري على قصصه المتأخرّة، والتزامه بالرمزية الشعرية، ولغته الساخرة البذيئة المستقاة من بذاءة الواقع كقصة "فتوى جحا بشأن ذات الاثنين": "وما أنت منهم غير أنّك واحد/ وفي العدّ ديّوث العشيرة، واحدٌ/ ولو كنت في نعلي وضاع تركته/ فما يستطيب الوطأ فوقك ماجدُ".

أحمد حسين مع عمّه الأمين الذي هجّر إلى جنين وصودرت أرضه بسبب مشاركته في الحرب عام 1948

يمكن اعتبار الديوان الثالث للشاعر "عنات أو الخروج من الزمن الهجري" أحد قممه الشعرية، حيث كتب عنه د. أحمد اغبارية: "ورغم أنّه (الديوان) تتويج لسابقيه اللذين يكادان يفضيان إليه بشكل حتمي فهو متميّز بأسلوبه غير المعهود. فعنات عبارة عن رواية أو قل ملحمة شعرية يتم من خلالها تناول الحدث المعاصر من خلال الأسطورة التي تخلّق منها. فالشاعر هنا لا يكتفي باستلهام التّراث الأسطوري الكنعاني. وإنّما يعيد تكوينه وهيكلته بحيث يبدو الحاضر تجلّيا له. وكثيرًا ما يلتبس مفهوم الزّمان، فيغدو الواحد منهما مرآة للآخر ليتحوّر ويتبدّى فيها بأطياف وصور شتّى".

يمكن اعتبار الديوان الثالث للشاعر أحمد حسين "عنات أو الخروج من الزمن الهجري" أحد قممه الشعرية

مقطع من قصيدة شدوان في هذا الديوان: "لماذا ترفض يا "شَدوانُ" العالم؟/ ليس هناك مكانُ غير العالم تقصده/ العالم ليس مكانًا – العالم أم/ ثدي يعرفه الطفل بشفتيه/ العالم عشّ الطائر ووجار الكلب وثقب الأفعى/ رجل يطرق في الليل البارد باب حبيبته/ إختر لك شيئًا/ إخترت مغارة "ياموتَ" على خاصرة الكرمل من جهة البحر/ هنالك "درج الحورية" ينتظر، كما أنتظر/ ولكن الدرب طويل وكذوب كالعادة./ تعليق: تقول الأسطورة أن "درج الحورية" هو المكان الذي صعدت منه حورية البحر لمضاجعة الإله الكنعاني "أنليل"، ولكنه أيضًا هو المكان الذي نزلت منه "أوشيرة" زوجة "أنليل" لمضاجعة عجل البحر انتقامًا من خيانة زوجها".

اقرأ/ي أيضًا: مريد البرغوثي: القريةُ سكتت في العام الأول

ويحكي في قصصه عن نهايته القريبة "موت الديناصور الأخير"، "واقتحم هاويته بجلال يليق بآخر ديناصور تبقّى على وجه الأرض"، بينما كتب راشد عن نهايته "الشمس لم تجزع لمصرعه ولا غاب القمر/ والأرض لا هي زلزلت سلفًا ولا نزل المطر".

وقد حمل بعد أوسلو نقدًا شديدًا لما يحدث، واختصّ نهج محمود درويش – رسائل على زجاج النافذة إلى محمود درويش – فقد كانت تلك بالنسبة لأحمد خطيئة لا تغتفر، بل وكناه في كتاباته "الشاعر الأعمى".

عاد أحمد إلى الكتابة الكلاسيكية بين الفينة والأخرى، ومن أشهر قصائده الكلاسيكية هي "الزناطم"، وهي قصيدة من البحر الكامل، كتبت على نهج أشعار المتنبّي. وكلمة زناطم، ومفردها زنطم، كلمة قد استحدثها ليقصد بها ذمّ العرب المتخاذلين: "الفُرْسُ والتّركُ والألبانُ سادتنا/ والسودُ والشُّقرُ والخِصيانُ والخَدَمُ/ يا زنطمَ العصرِ بادتْ أُمّةٌ كشفتْ وجهَ النهارِ، ووارتْ وجهها الظُلَمُ".

عن توجهاته النقدية لكل المتصالحين والمتخاذلين في زمن الردة، وتذكّر مواقفه وتشبيهاته كثيرًا بموقف ناجي العلي، لربما كلمة الزناطم هي أكثر كلمة ملائمة لتوصيف لشخصيات الانتهازية في كاريكاتورات ناجي العلي، شعره يحوي سوداية هزلية ممزوجة بإصرار غير مشروط على مواجهة كونية خاسرة لأجل ما يريد، تدعمها لغة تحتاج إلى عدة قراءات حتى تتلقفها.

وقد كتب أيضًا مقالات مهمة جدًا في تعريف موقفه غير المتنازل. قد يسكت على ضيم أو يكتب باسم مستعار، ولكنه أبدًا لن ينطق بما لا يؤمن به. ولعل أهم مقالاته هي تلك التي جُمعت في كتاب "رسالة في الرفض"، الذي كُتبَ على غلافه: "مجّدوا الكراهية/ كما تمجّدون ذكرى أمّهاتكم/ لأنّه بدون الكراهيّة/ لن يكون هناك عصر قادم/ لن يكونَ هناكّ حربٌ قادمةٌ/ ولا سلامٌ قادمٌ/ لا حرّية ولا عبودية/ لا ظلم، لا عدل، لا مصير/ ستكون أمريكا وحدها فقط".

كانت توجهات أحمد حسين النقدية لكل المتصالحين والمتخاذلين في زمن الردة تذكّر كثيرًا بمواقف ناجي العلي من الفئة نفسها

أحمد حسين شاعر ناقم، حزين، وحاقد على المرحلة التي رفضها جملة وتفصيلًا. يحمل حزنه ونقدها ويبذرهما في بحر حيفا بانتظار غدٍ أفضل.

اقرأ/ي أيضًا: إبراهيم طوقان: الفدائي

كتب أحمد حسين قصص الأطفال أيضًا في مرحلة متأخرة، ربما بإيحاء من أحفاده، حيث كتب: "العروسان"، و"السفينة والطائرة"، و"الدائرة الذكية"، و"عصفورتان"، و"العصفورة سيسي".

يمكننا أن نلخص بما كتبه الدكتور أحمد محمود إغبارية عنه: "ونصوصه على العموم، معروفة بتمنّعها وإبائها فهي لا تستسلم ولا تفشي بمكنوناتها لأيّ قارئ اتّفق. وقارئ أحمد حسين يشعر كأنّما زج به إلى منطقة غريبة وعدوانية.. وبأنه واقع في مأزق حرج.

توفي أحمد حسين ودفن في قريته عام 2017.

كمال حسين.. في غابة الأشباح

الأخ الأصغر والأقل شهرة، على عكس أخويه، هو كمال حسين الذي ولد بعد النكبة في العام 1951. تشعر في كتاباته بأن الثأر الذي يحتفظ به هو ثأرٌ متوارث، أكثر من كونه ثأرًا شخصيًا، ثأر مؤجل يأخذه ولو بعد حين. يحلم بفلسطينه حلمًا يشابه اليقظة، فنرى أنه انتظر حتى التقاعد في عام 2016 لكي ينشر الكثير من كتاباته التي تراكمت، ليؤثر طباعتها وتوزيعها مجانًا بشكلٍ شخصي، دون انتظار دور نشر ومراقبين وغيرها من ارتباطات الكاتب بما يكتب.

بينما مال أحمد حسين إلى الشعر المركّب والعميق، يميل كمال حسين في شعره إلى محاولة الحفاظ على بساطته وجزالته وسذاجته، فتشعر كأنّ أحمد حسين في قصائده يحفر في صخر الشعر، بينما يغرف كمال من بحره. يقول كمال في قصيدته "مزامير إسراطينية": "حكايتنا بسيطة لكنّها طويلة/ تعالوا نحكي عيّنة منها/ بلغة مثلها بسيطة/ فيها الشعر والنثر/ للشعر حلاوته/ وللنثر طلاوته/ يتناوبان فيجلو الواضح الغامض/ ويسمو الغامض بالواضح (...)/ حصاة الغدر حطّت في جبيني/ ونبتة الصبّار شبّت من عريني/ يا خصيان العرب خافوا الصبايا/ من أرحامهنّ تحيا فلسطيني".

الشاعر كمال حسين

من الواضح تأثير رومانسيات الشعر الكلاسيكي على كمال حسين، وارتباطه بهذا الشعر الذي بات منبوذًا ومنزويًا، فيكتب قصيدة "رومانسية في الشعر والكرامة": "صرت أخشاك لأنّي/ تهت يوما في هواك/ نحن ندّان كفانا/ صار يشجيني أساك".

يميل الشاعر الفلسطيني كمال حسين في قصائده إلى محاولة الحفاظ على بساطته وجزالته وسذاجته

شعره يؤثر البساطة والمباشرة الرومانسية، مذكّرًا نوعًا ما بأشعار راشد، لكن تغيّر الزمان قد أسدل الستار وقذف بالشعر عامة وبالشعر الوطني الرومنسي إلى الساحة الخلفية. فبينما كان الجمهور يحملون الكراسي من بيوتهم ويسيرون للإستماع لراشد يلقي شعرًا في كفر ياسيف، نجد الناس اليوم تلقي تهمة "المثقفين" على من يتداولون قراءة هذه الكتب المكتوبة بطريقة غريبة، فكم بالحري هؤلاء الذين يكتبونها، أو كأن راشد قد حصل على بيضة كولومبوس التي فقدت رونقها حالمًا وصلت إلى كمال.

اقرأ/ي أيضًا: عز الدين المناصرة.. رحيل كنعاني معاصر

كمال هو الحالم الواقف على قارعة الطريق، ينتظر الأمل بفلسطين القادمة يصمد ويصمت: "كان الموت رسولًا/ زغردنا كثيرًا/ لملمنا أشياءنا وقلنا: نصمد ونصمت./ كنّا كذلك إلى أن خاننا الصّمت/ أصبحنا رصاصة بيد الغاصب/ بترنا الراحة الطفلة/ رقصنا "الهورا" أنشدنا "هافا نجيلا"(*)/ صرنا صوتًا بلا صدى/ احتوانا الصمت".

وفي خضم التطورات السياسية المحلية والعالمية، لم يتبقّ له إلا أن يحلم في "زمن الخوف" الذي لم ينته. يقول في قصيدته "أحلام عربيّ في زمن الخوف": "أطفؤوا الشموع/ نحن في دوّامة الإعصار/ أطفئوها بأفواهكم المترهّلة كما شقّة البعير/ ولنحتم بغابة الأشباح/ بعيدًا عن أعين الأنوار الخنّاسة/ أمّنا الكهوف تومي لنا من بعيد".

 

هامش:

* أغاني عبرية مستحدثة على يد الحركة الصهيونية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرّجاء وضع قناع واق من الغازات قبل الدّخول إلى "بلاد الثلاثاء"

محمود درويش اكتشافنا الدائم