08-مايو-2023
محمد احسايي

حروفية لـ محمد احسايي/ إيران

أثناء قراءتي لكتاب "القراءة والنسيان: الخروج من مدن الملح" وهو عبارة عن مجموعة حوارات مع عبد الرحمن منيف، أجراها إسكندر حبش؛ استوقفني تعقيب نقدي لمنيف على أحوال الرواية العربية في مراحل نشأتها المتقدمة وقد أورد فيه: "لقد كنا أغلب الأحيان نستعير أصابع وهموم الآخرين أثناء كتابتنا للرواية الخاصة بنا، ومن هنا كنا نجد أنّ الرواية العربية ملتبسة وأغلب الأحيان تتكلّم بلكنة أجنبية، ولم نستطع بالتالي أن نعكس هموم الناس الذين يحيطون بنا أو نعبّر عن أحلامهم".

يؤكّد منيف في تعقيبه السابق على أنّه منذ ظهور أولى الروايات العربية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر عام 1867، وحتى بدايات القرن العشرين، فقد بقيت هذه الرواية واقعة تحت تأثير شكليْن؛ إما شكل أسلوب المقامات ولغتها الزخرفية واحتوائها على كمّ هائل من المعلومات غير المتجانسة، أو شكل التقليد لنموذج الرواية الغربية الرديئة المليئة بالغرائب والأوهام والغارقة في العاطفة والخيال، ويَستبطن في تعقيبه إشارة إلى أنّ الرواية العربية في كل من الشكلين بقيت عاجزة عن استيعاب هموم الشعوب العربية وتناولها والتعبير عنها.

وبملاحظة سياق تطوّر الرواية العربية في المراحل التالية لذلك، لا يُمكن إنكار أنّ جزءًا كبيرًا من تطورّها جاء نتيجة استجابة كتابها لتداعيات لحظتيْن مِفصليتين في التاريخ العربي، فاستجابتهم للحظتين شكلّت علامة فارقة في تطوّر الرواية العربية، وساهَمت في انتقالها من نماذجها البدائية الأولى إلى نماذج أكثر نضجًا واكتمالًا وقدرة على التعبير عن هموم الشعوب العربية وتطلعاتها.

أثبتت الرواية أنها الشكل الكتابي الأمثل لاستيعاب الواقع ونقله وتسجيله في تفاصيله الصغرى ولحظاته الكبرى كذلك

اللحظة الأولى هي لحظة نكبة فلسطين عام 1948 والتي شهدت بعدها دخول الشعب الفلسطيني والشعوب العربية في ما يشبه الصدمة وفقدان التوازن، ودفعت بالكثير من الروائيين الفلسطينيين والعرب إلى كتابة روايات ظهرت فيها إرهاصات البحث عن الذات والطريق الصحيح، كما وتبدّت فيها أسئلة الهوية وإمكانيات المقاومة بشكل واضح وجلي.

فالنصوص الروائية الفلسطينية والعربية التي ظهرت بعد النكبة، وربّما بعد سنوات طويلة منها، جاءت لتتناولها وتُسلّط الضوء عليها، إما عير تقديم شهادة كاملة عنها، أو مقاطع تراجيدية فقط مثل رواية "بير الشوم" لفيصل الحوراني، ورواية "طريق فلسطين" لعلي أبو حيدر.

فتلك الروايات التي استجابت للحظة النكبة، كانت في أغلبها تدوينًا مباشرًا للمأساة، وقد اتّسمت بالتسجيلية والخطابية، لكنّها في المقابل استطاعت التخلّص من أحمال الزخرفة الفارغة والتقليد الأعمى للنموذج الغربي للرواية القائم على الغرائب والأوهام.

أما اللحظة الثانية التي استجاب لها كتاب الرواية العربية بشكل أثّر على مسار تطوّرها، فهي لحظة نكسة حزيران عام 1967، فالروائيون العرب ذهبوا بعدها إلى الكتابة عنها، مدفوعين بأسباب عديدة منها: البحث عن الأسباب التي أدت إليها، واستيعاب الدروس التي أثارتها، لذلك قام العديد منهم بكتابة روايات عادوا فيها إلى الماضي وحاولوا سبر خفاياه وفهمه فهمًا علميًا والاستفادة منه في توضيح أسباب الهزيمة، دون أن يُنسيهم ذلك تضمين رواياتهم في لحظة ما بعد الهزيمة على خريطة لتجاوز مشكلات الواقع عبر معالجة جدية رصينة تتسم بالعمق والوعي العميق للصراع والنظرة الشمولية للتاريخ.

فلحظة النكسة كانت لحظة فارقة في تاريخ تطوّر الرواية العربية، لأنّها دفعت إلى السطح العديد من الأسئلة والمواضيع الساخنة التي تتطلّب المواجهة والمعالجة، وهو الذي قاد العديد من الروائيين العرب إلى كتابة روايات حاولوا من خلالها تناول ومعالجة هذه الأسئلة والمواضيع بأسلوب كتابة متحرّر من الرؤى الرومانسية، ينطلق من واقع الهزيمة السيئ ويتناوله بكلّ موضوعية وتجرّد.

ولعلّ قدرة معظم الروائيين في العالم عمومًا، والعالم العربي خصوصًا، على التفاعل مع اللحظات التاريخية والأحداث الكبرى التي يعيشونها، من خلال كتابة روايات تستجيب لهذه اللحظات وتعبّر عنها، يأتي ليدلّل على أنّ الرواية هي الشكل الكتابي الأمثل لاستيعاب الواقع ونقله وتسجيله في تفاصيله الصغرى ولحظاته الكبرى كذلك.