16-سبتمبر-2017

لقطة من فيلم الأفوكاتو

رسمت في مقالي السابق عن المخرج المصري رأفت الميهي (سينما رأفت الميهي بين فانتازيا الحياة في مصر وتحديات الإنتاج) صورة بانورامية لمحطات هذا الرجل منذ دخوله عالم السينما، ونلخصها كالتالي:

- محطة كتابة السيناريو: غلب عليها الطابع الدرامي الواقعي.

- محطة الإخراج الأولى: قدم فيها أفلام مختلفة في أساليبها، بعضها درامي رمزي، وبعضها كوميدي، وهذه الأفلام الكوميدية بدورها تنوعت في تصنيفاتها بين الاجتماعي شبه الواقعي، والكاريكاتوري (البارودي Parody)، والسريالي.

الكاتب يكتب قصة واحدة طيلة حياته، ثم يعيد كتابتها عشرات المرات بعد ذلك، وهذا الأمر ينطبق على سينما رأفت الميهي بشكل واضح

- محطة الإخراج الثانية: قدم فيها أفلام مزج فيها بين كل الأنواع التي جربها في مرحلته الإخراجية الأولى، ليخلق تصنيف جديد من الافلام أحب تسميته بالأفلام "الميهية".

- محطة التوقف الأخير: ينسحب فيها من صناعة السينما لتغير قواعدها نحو التجارية، ويتفرغ للتدريس في أكاديميته لفنون السينما، ويقدم مسلسل تلفزيوني وحيد "وكالة عطية"، ويكتب روايتين.

في هذا المقال أعود لسينما رأفت الميهي مخرجًا مرة ثانية، لأتحدث عنها من منظور الموضوع أو الرسالة، بعد أن تناولتها من منظور الأسلوب في المقال السابق.

يقول اقتباس قرأته ذات مرة، ما معناه أن الكاتب يكتب قصة واحدة طيلة حياته، ثم يعيد كتابتها عشرات المرات بعد ذلك، كل مرة من زاوية جديدة، وهذا الأمر ينطبق على سينما رأفت الميهي بشكل واضح جلي، إذ يمكننا أن نلاحظ أنها مشغولة بمواضيع قليلة، لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، يكررها الميهي في أفلامه دون ملل، وكأنه يقول أن حل هذه الأمور سيحل مشاكل مجتمعنا العربي.

 

وقبل المضي قدمًا في هذا المقال أود أن أنوه إلى أن به شيئًا من الحرق لأحداث الأفلام، وإن كنت تحاشيت تمامًا الإتيان على ذكر نهاية أي فيلم، ونقاط التحول الرئيسية لشخصياته، ولكن على العموم، ربما كمية الأمثلة المهولة التي سأضربها من مشاهد هذه الأفلام وتداخلها، سيخففان من التصاقها بذاكرة من لم يشاهدها وقرأ المقال، وبالتالي أزعم أنها لن تؤثر على متعة مشاهدته لها وإحساسه بالمفاجأة مستقبلًا.

والآن لنبدأ في تناول خمسة مواضيع هيمنت على أفلام رأفت الميهي، كل على حدًا.

أولًا: الأبوية
أول هذه الموضوعات، السلطة الأبوية، وتطغى النبرة الناقدة للآباء على تناول الميهي لهذا الموضوع، فنراه ينحاز بشكل صريح غير محايد للأبناء، فلا يظهر الآباء بشكل إيجابي تقريبًا طوال أفلامه الـ12، وهذا من وجهة نظري ليس إلا رد فعل جريء من الميهي، أمام السينما والأدب العربي اللذين قلما هجيا الآباء، بل إنهما عادة ما يرسخان سطوة الآباء، من خلال أعمال تركز على ثيمة الآباء المضحيين والأبناء العاقين، وأمام هذا الكم الجارف من الأعمال غير المحايدة عن عقوق الأبناء، ليس أمامنا إلا أن نصدم المجتمع بأعمال غير محايدة عن تسلط الآباء، فـ"المجتمع المتخلف محتاج لكام صدمة تفوقه"، كما يقول الميهي على لسان إحدى شخصيات فيلم "السادة الرجال".

 

 

منذ أول أفلام الميهي مخرجًا "عيون لا تنام"، نراه يهجو النظام الأبوي، فيصور الأخ الأكبر –رمز الأبوة- في ذلك الفيلم قامعًا لإخوته الأصغر، مشكلًا عقبة أمام استقلالهم، عوضًا عن دعمهم، فيستغلهم ويتسبب في تشردهم، مما يجعله عدوهم الرئيسي الذي يتفقون على كرهه!

وفي فيلم "للحب قصة أخيرة" يحتفي الميهي بموقف رفعت بطل الفيلم، المتمرد من أجل الحب على سلطة والديه، إذ يختار الزواج من المرأة التي يحبها، مع إن ذلك سيكلفه حرمانه من ميراث أبيه الثري، ومقاطعة أمه له؛ ونرى أيضًا شخصية الدكتور حسين الذي يعيش حياة تعيسة معزولة، بسبب ارتباطه برعاية أمه القعيدة لـ15 سنة، في حبكة مغرقة في الرمزية.

اقرأ/ي أيضًا: كوميديا السينما المصرية.. نظرة على أجيال من الضحك

وفي فيلم "علشان ربنا يحبك" يقدم لنا صورة معاكسة لصورة رفعت في الفيلم السابق، فنرى تبعات موافقة كمال بطل الفيلم على الزواج من فتاة لا يحبها، اختارتها له أمه، وهددته بحرمانه من الميراث لو تزوج غيرها؛ وفي "السادة الرجال" يصور الطفل الرضيع كضحية لأبوين منشغلين بخلافاتهما؛ وفي "شرم برم" يصور عم البطل كشخص أناني، غير مبالٍ برغبات ابن أخيه، إذ يُدخله كلية الطب، ليعالجه بالمجان في المستقبل، ليكون تصرف العم بداية سلسلة من المصاعب في حياة ذلك الشاب؛ وتتكرر ذات النبرة الهجائية للآباء في فيلم "قليل من الحب كثير من العنف" أيضًا.

لكن أهم فيلم يهجو فيه الميهي الآباء، هو فيلم "مية فل"، الذي يخصصه بالكامل لهذا الموضوع، إذ يقوم الفيلم على فرض "ماذا لو كان بمقدور الأبناء اختيار آبائهم؟"، فيصور الآباء أولًا كعقبات تُعقد من زواج بطلي الفيلم كمال ودلال، رغم حبهما لبعضهما، ثم يصورهم كمضطربين نفسيين -ساديين ومازوخيين-، لا يعرفون من الأبوة إلا لذة الضرب، ومتعة شعور التحكم بنفي أبنائهم خارج دائرتهم، وحرمانهم عاطفيًا من حنانهم، ولذة الألم بتمثيل دور الضحية عند أي فعل استقلالي يبدر من الأبناء؛ وفي نهاية الفيلم يفضح هشاشة "مفهوم الأبوة" الذي يتغنى به الآباء، ومدى انتهازيتهم؛ ليكون الفيلم رسالة صريحة للأبناء بالاستقلال عن آبائهم، وعدم انتظار أي شيء منهم.

تطغى النبرة الناقدة للآباء على أفلام رأفت الميهي، فنراه ينحاز للأبناء، فلا يظهر الآباء بشكل إيجابي تقريبًا طوال أفلامه الـ12

وفي فيلم "سمك لبن تمر هندي"، يظهر أمامنا ثلاثة نماذج للآباء، والد "أدارة" بطلة الفيلم، الذي يرفض تزويج ابنته من "أحمد سبانخ" خطيبها لسنوات، لتعامله مع ابنته كبضاعة، يجب أن يستلم ثمنها كاملًا قبل أن يسلمها؛ ووالد "ملاك" –ضابط الإنتربول العنيف- غير الراضي عن سجن ابنه للأبرياء وتعذيبهم، مع أنه من اختار له هذه المهنة، رغم طبيعتها الشائكة في دول العالم الثالث، ليقول عنه أصحابه العجائز في المقهى أنه "أبو الضابط".

وأما النموذج الثالث هو والد "أحمد سبانخ"، وهو أكثر نماذج الآباء في سينما الميهي فرادة، إذ ينحاز إليه جزئيًا، ويصوره كضحية للظروف الاقتصادية الراهنة، التي دفعته للتغرب عن أبنائه لسنوات، والعمل في الغربة حتى تجاوز السبعين ليستطيع تأمين عيشة كريمة لأبنائه، ثم يظهر في مشهد مؤثر نادمًا عما فعله في أولاده، من تخطيطه لهم تخطيطًا وفق زمانه، وليس زمانهم.

ثانيًا: العلمانية الفردية
أما ثاني الموضوعات المتكررة في سينما الميهي، وأكثرها جرأة من وجهة نظري، موضوع "العلمانية على المستوى الفردي"، فكثيرة هي الأعمال الفنية والفكرية التي تنظر للعلمانية على مستوى الدولة، بفصل الدين عن الدولة، وهو طرح لا ينشغل به الميهي كثيرًا، إذ إن ما يشغله هو أن يحقق الفرد العلمانية على مستواه، أن يفصل المواطن العربي في تفكيره بين "ما هو غيبي وما هو علمي"، ومن هذا المفهوم جاء اشتقاق لفظ "علمانية".

ويشكل هذا الموضوع الموضوع الرئيسي لأربعة من أفلام الميهي، أولها "للحب قصة أخيرة" الذي نرى فيه الأمر على مستويين، مستوى بطلي الفيلم، حيث نرى كيف أن الزوجة تلجأ لرجل دجال ليعالج زوجها المريض بالقلب، عوضًا عن السفر به وعلاجه، مما سيفاقم حالته، وعلى مستوى أهل الجزيرة الذين يرتمون كلهم في أحضان الدجال لتحسين حياتهم، في ظل تهميش الدولة لهم.

 

 

وفي فيلم "تفاحة" يظهر بطلي الفيلم –تفاحة وزوجها الفطاطري- كشحصيات في قصة لعازف بيانولا سادي، يتمتع بتعقيدها، بينما ينتظران منه برجاء صابر أن يحن عليهما، ويجعل فصول قصتهما التالية أفضل، لكنه لا يبالي برجائهما، فالعالم لا يعترف بالأماني بدون عمل.

وفي فيلم "علشان ربنا يحبك"، يكون حب كمال لسعاد حبًا مستحيلًا، بسبب ارتباط كل منهما بزوج لا يستطيع الانفصال عنه، فيلجآن لرجل دجال عله يمنحهما تعويذة سحرية تحل أزمتهما، ولكن الدجال يعطيهما عوضًا عن ذلك خطة عقلية عليهما تنفيذها لتحقيق حلمهما!

في فيلم "علشان ربنا يحبك"، حب البطل والبطلة مستحيل، بسبب ارتباط كل منهما بزوج، فيلجآن لدجال عله يمنحهما تعويذة تحل أزمتهما

وفي فيلم "شرم برم" يقدم الميهي الأمر من زاوية مغايرة عن الأفلام السابقة، إذ إنه هنا يشرح سر ارتماء الناس في أحضان الغيبيات، من خلال قصة الشاب عبده، الذي تبدو أحلامه البسيطة صعبة التحقيق في ظل الظروف السياسية والاقتصادية المتردية، وأن الخطط العلمية غير قابلة للتطبيق في هكذا ظروف، فما يكون منه إلا اللجوء إلى العفاريت لتحقيقها، في تأكيد للفكرة التي طرحها الميهي على لسان "حسن سبانخ" بطل فيلمه الأفوكاتو "احنا عايشين في مجتمع غير علمي، وأي محاولة للتعامل بشكل علمي، هي محاولة غير علمية بالمرة".

وكما نلاحظ في الموضوعين السابقين، فإن الميهي يأخذ موضعين مهمين، السلطة والعلمانية، ويعالجهما على مستوى الفرد وليس الدولة، وكأنه يقول لتدمير السلطة الكبيرة ممثلة في الدولة القمعية، لا بد من تدمير الأفراد للسلطة الصغيرة ممثلة في النظام الأبوي في الأسرة، ولنأسس دولة علمانية حديثة، لابد أن يكون الأفراد علمانيين في تفكيرهم الفردي، وتعاطيهم مع الحياة، وأخذهم بأسباب تحقيق أحلامهم، وعدم الاتكاء على التدخل الغيبي.

اقرأ/ي أيضًا: سينما الممثل أم سينما المخرج.. صراع طويل خاضته السينما المصرية

وهذه المعالجة الفردية ما زالت نادرة حتى الآن على مستوى آدابنا وأفلامنا، وغيابها من مآخذ الغربيين على فنوننا، مما يجعل الميهي فنانًا فريدًا في فضاء الإبداع العربي، فكثيرة هي الأفلام التي تحدثت عن البطل الذي يقاوم الدولة القمعية، لكن كم هي الأفلام التي تحدثت عن مقاومة السلطة الأسرية، أول سلم في طريق التحرر.

وقد قرأت مؤخرًا -في مقالة بعنوان "أيام العيد: العائلة راحتنا وتعاستنا" على موقع مدى مصر- جملة تقول "علاقة الكثيرين منا، من النشطاء والمثقفين الشباب، بعائلاتهم، ظلت مركبة دائمًا. طول الوقت كان من الأسهل علينا مواجهة عدو يقع خارج البيت من مواجهة آبائنا وأمهاتنا في البيت".

وهذا بالضبط ما يفعله الميهي، يأخذ الطريق الصعب، ففيلم ضد سلطة الدولة قد يغضب الدولة فقط، لكنه سيكسبه حب الناس، وسيرونه بطلًا، ولكن فيلم ضد سلطة الأبوية سيجلب عليه غضب الجميع، بما فيهم المتضررين المباشرين من هذه السلطة، ونفس الأمر في موضوع العلمانية، فالحديث عن علمانية الدولة قد يمر بفهمه كإعادة صياغة لشكل مؤسسات الدولة، لكن الحديث عن العلمانية على مستوى الفرد يدخله حقل ألغام، وقد يفتح عليه أسئلة حول قناعاته الفردية هو في غنىً عنها.

ولكن عامة مرت معظم أفلام الميهي الصادمة مرورًا هادئًا، بسبب لجوئها للتستر وراء الكوميديا والرمزية والسريالية، بشكل يجعلها حمالة أوجه من ناحية، ومن ناحية أخرى عصية على فهم إلا من هو مؤهل لذلك، ويعيش ما يعيشه أبطال الفيلم.

ثالثًا: الذكورية
واستكمالًا لاهتمام الميهي بالفرد والأسرة كنواة أساسية في إحداث التغيير، كانت العلاقة بين الرجل والمرأة موضوعًا متكررًا في سينماه، وخصص له فيلمين على الأقل، هما "السادة الرجال" و"سيداتي آنساتي". في الأول يصور المعاناة التي تعانيها المرأة في المجتمع العربي في بيت زوجها وأهلها والعمل، ويقترح أنه لا حل للمرأة لتعيش حياة سوية حرة كإنسان كامل في هكذا مجتمع إلا أن تتحول إلى رجل، وهو ما ستفعله بطلة الفيلم، كما يرى أن اضطراب شكل علاقة الرجل والمرأة كزوجين في مجتمعاتنا، سبب رئيسي لشقاء الأبناء.

 

وفي الثاني يصور شكل الحياة المسخ التي يعيشها الرجل والمرأة في العالم العربي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، فهذه الظروف أخرجت المرأة إجباريًا من بيتها الذي قرت فيه لقرون، لتزاحم الرجل في سوق العمل، وتتساوى معه في المسؤوليات والمهام، ورغم ذلك ما زال الرجل العربي متمسكًا بالأفكار الذكورية، التي لا يمكنه تطبيقها، ليكون الناتج واقعًا مشوهًا، يعجز الرجل العربي والمرأة أيضًا على التأقلم معه فكريًا.

ويتطرق الميهي للموضوع الرجل والمرأة بشكل فرعي في معظم أفلامه الأخرى، ففي "عيون لا تنام" يصور المرأة كشخص لا يمكنه العيش في هذا المجتمع إلا في كنف زوج يوفر لها المأكل والمسكن، مما يدفع بطلة الفيلم الشابة إلى التزوج من رجل كهل، لتخدمه وتخدم إخوته، جاعلة من عنصر الأمان والاستقرار مقدمًا عندها على عنصر الحب والسعادة؛ وفي "علشان ربنا يحبك" تكون مشكلة سعاد إحدى بطلات الفيلم، أن زوجها يرفض تطليقها، رغم أنها لا تحبه وتعيسة معه، وتحب رجلًا غيره.

رابعًا: مظاهر فترة الانفتاح
كمعظم جيل مخرجي الثمانينات المصريين، أمثال عاطف الطيب ومحمد خان، انشغل الميهي برصد تبعات قرارات الانفتاح الاقتصادي التي شرعها الرئيس أنور السادات، وساهمت في زيادة الفجوة بين أصحاب رؤوس الأموال والطبقة الوسطى التي انسحقت لتنضم إلى الطبقات الفقيرة، وما رافق ذلك من تزاوج للسلطة ورأس المال، وظهور فئات من الانتهازيين الذين يمتصون البلاد ولا ينفعونها بشيء.

وأهم فيلم تناول فترة الانفتاح من منظور الطبقية، فيلم "عيون لا تنام"، فموقع الورشة محل أحداث الفيلم تحت كوبري السادس من أكتوبر في القاهرة، يرمز لانعزال الطبقة الفقيرة عن الغنية، ويصورهم كأنهم يعيشون تحت الأرض، أسفل أصحاب السيارات الذين يروحون ويجيئون على الكوبري.

ويترافق هذا الانعزال المكاني في انعزال الهموم الحياتية أيضًا، فنرى كيف أن الفقر حول الأخ الأكبر لأخ ظالم يسرق حق أخيه الأصغر، وكيف أن الأخوة يتقاتلون بضراوة على ميراث الورشة الشبيهة بجحر للفئران، لأنهم يدركون أنه لا أمل لهم في الحياة الآمنة بعيدًا عن الورشة، ففرص الحياة لأمثالهم شبه معدومة، ونرى كيف أن محاسن زوجة الأخ الأكبر، تتزوجه رغم فرق السن بينهما، وتتحمل عنفه، وتنخرط في صراعهم العنيف على ميراث الورشة، كل هذا لأن هذه الفرصة الوحيدة لها للزواج، والحصول على سقف تنام تحته. كل هذا يحدث في تلك الورشة، دون أن يعلم السائرون على الكوبري عنه شيئًا، فهو أمر لا يعنيهم، وينتمي لطبقة الدرك الأسفل.

فيلم "للحب قصة أخيرة" يقدم مقارنة بين جزيرة الوراق والقاهرة، فالأول رمز للإنسان الفطري، والثاني للانفتاح وسطوة رأس المال

وفي فيلم "للحب قصة أخيرة" يقيم الميهي مقارنة بين مجتمع جزيرة الوراق –حيث تدور أحداث الفيلم- والقاهرة، فالأول رمز للإنسان الفطري ابن الطبيعة على طريقة الأدب الرومانسي، والثاني رمز لعصر الانفتاح وسطوة رأس المال، فنرى كيف أن ذلك المكان الرومانسي يتداعى أمام تغول العاصمة، وأن من بقي في الجزيرة عانى الفقر والارتماء في أحضان الدجل، ونرى كيف أن الشاب صالح لم يتورع عن محاولة سرقة العجوز المسيحية الوحيدة، وأما من قطع النيل إلى الضفة الثانية حيث العاصمة فعلى الأغلب لم يعد، إما لأنها أغوته، وإما لأنها سحقته.

 

وأما أهم الأفلام التي تتناول تلك الفترة من منظور تزاوج السلطة والمال، فيلم "قليل من الحب كثير من العنف"، الذي يصور كيف أن الانفتاح ساهم في تحول شريحة من أشباه المتعلمين و"الأقزام" إلى أثرياء، وكيف أن رجال السلطة يسعون لكسب ودهم، رغم التباين الثقافي الصارخ بينهما، وكيف أن نتيجة هذا التزواج لا يسفر إلا عن موت الفقير، ووأد أحلامه والطاقات الجميلة بداخله، ولا ينتج عنه إلا أبناء مشوهين، هم رد فعل لتناقضات آبائهم، فطلعت ابن الحاج مرسي الثري مثلًا، يحمل شهادة في الهندسة، وهو لا يفقه شيئًا فيها، ويحول زوجته فاطمة ابنة المغني المغمور، إلى مجرد خادمة في بيته، بينما هي في حياة موازية يصورها الفيلم أيضًا، صحفية مرموقة تتحدث عدة لغات!

بينما أهم الأفلام التي تتناول تلك الحقبة من منظور تكون فئات انتهازية في المجتمع، وانتشار ثقافة "الفهلوة"، عدة أفلام أولها "الأفوكاتو"، ففيه نتعرف على أشهر شخصية في سينما الميهي، المحامي "حسن سبانخ"، المحامي الذي يستغل ثغرات القانون ليثبت براءة السياسيين الفاسدين وتجار المخدرات والعملة، بشكل يضر البلاد، ولكنه يضمن لسبانخ وأسرته الحياة الكريمة.

فيلم "قليل من الحب كثير من العنف" لرأفت الميهي، يصور كيف أن الانفتاح ساهم في تحول شريحة من أشباه المتعلمين و"الأقزام" إلى أثرياء

وتكتمل صورة الفيلم مع مشاهدة فيلم "سمك لبن تمر هندي"، والذي يظهر فيه الطبيب البيطري "أحمد سبانخ"، الأخ الأصغر للمحامي حسن، ونراه رافضًا أن يكون انتهازيًا مثل أخيه، حتى أنه يعالج بهائم الفقراء مجانًا، مما يتسبب في فقره، وعجزه عن الزواج من حبيبته، والأسوء مطاردته بتهمة الإرهاب!

وفي فيلم "ست الستات" نرى عبدالعزيز، الذي يعود إلى بلاده بعد غياب قادمًا من الخليج ومعه نصف مليون دولار، ليتفاجأ بأن خالته فكيهة تعمل في الدعارة، فيقرر انتشالهن وبنات الليل معها، بتعليمهن مهارات مثل الكومبيوتر والتحدث بلغات أجنبية، وفتح مشروع لهن يدعم من خلاله السياحة، لكن المشروع يواجه بيروقراطية الحكومة وعدم دعمها، وكأن هنالك من لا يرغب لهذا المشروع أن ينجح، ولتلك النسوة في ترك الدعارة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تناولت السينما العربية شخصية المناضل؟

واستكمالًا لفكرة فيلم "الأفوكاتو" في استغلال القانون لتحقيق أهداف بعيدة عن معنى القانون، نرى في فيلم "تفاحة"، أن القانون يقف في صف المال، ويفرق بين الزوجين الفقيرين تفاحة والفطاطري رغم حبهما لبعضهما البعض، لرغبة إثنان من الأثرياء في الزواج منهما بسبب جمالهما!

وترصد أفلام مثل "سمك لبن تمر هندي" وسيداتي آنساتي" و"مية فل" و"شرم برم"، حقبة الانفتاح من منظور صعوبة حياة الشباب على صعيد العثور على وظيفة والقدرة على الزواج، فنرى مثلًا في "سيداتي آنساتي" دكتور في الفيزياء النووية يعمل ساعيًا في مؤسسة حكومية، لأن الساعي يحصل على بقشيش أكبر من راتبه كدكتور جامعي، وفي "مية فل" نرى خريج كلية الطب، يعمل نادلًا في فندق سياحي، وعاجز عن الزواج من حبيبته، وفي فيلم "شرم برم" نرى ارتماء الشباب في أحضان الغيبيات، ما هو إلا نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية، واستحالة تعديلها.

خامسًا: الأطباء
يتكرر حضور الأطباء والمستشفيات في معظم أفلام رأفت الميهي، حتى أن الناقد أحمد شوقي يصف الأمر بالهوس المتكرر للميهي في مقاله البديع "١٠ مخرجين مصريين والهوس المتكرر في أفلامهم" على موقع "في الفن". وأهم فيلمين يخصصهما الميهي لنقد الأطباء هما فيلمي "سمك لبن تمر هندي" و"السادة الرجال".

ففي الفيلم الأول يصور المستشفى كمؤسسة تابعة لسلطة المؤسسة الأمنية، التي تستخدمه لتعذيب المساجين الأبرياء، ويصور الأطباء كأشخاص غيبيين غير علميين، لا يختلف مستواهم الفكري عن العامة، يشخصون المرضى بقراءة الكف والفنجان، ولا يستمعون لشكواهم.

 

وفي الفيلم الثاني يقدم صورة ملتبسة للأطباء، فمن ناحية هم رمز للتقدم، الذي سيغير شكل المجتمع وفق الأسس العلمية، من خلال إجرائهم لعملية جريئة ضد قناعات المجتمع، عملية تحويل جنس فوزية بطلة الفيلم من امرأة إلى رجل، ومن ناحية أخرى هم أشخاص أبعد ما يكونون عن الآدمية، إذ تحركهم دوافع نرجسية وجنون العظمة، الذي سيجعلهم يرون فوزية مجرد حالة، وفأر تجارب نجحوا في تجربتهم عليه.

وفي فيلم "الأفوكاتو" يظهر الأطباء كرجال القانون والمحاماة في الفيلم، أشخاص يمكن أن تجرد أفعالهم النبيلة من معناها، وتتحول إلى وسيلة لتحقيق أهداف انتهازية لا تخدم إلا المنتفعين المباشرين منها؛ وتتكرر في فيلم "تفاحة" صورة الأطباء اللا آدميين من خلال لا آدمية طريقة تعاملهم مع تفاحة، إذ يدخلونها في سلسلة من الفحوصات دون أن يشرحوا لها شيئًا عن سبب هذه الفحوصات، وفي مشهد معبر جدًا نراهم يصلبونها على جهاز الأشعة!

في فيلم "الأفوكاتو" يظهر الأطباء كرجال القانون، أشخاص يمكن تجريد أفعالهم النبيلة من معناها، وتحويلها لوسيلة لحقيق أهداف انتهازية

وفي فيلم "سيداتي آنساتي" يظهر الأطباء كرمز لقيم المجتمع الذكورية السائدة المتخلفة؛ وفي فيلم "علشان ربنا يحبك" تظهر الطبيبة النفسية أناهيد مريضة نفسيًا، ظهور ليس سببه الصورة النمطية للطبيب النفسي في السينما، بل للتأكيد على أن الطبيب النفسي امتداد للتخلف السائد في المجتمع العربي، وأنها مشوهة كمرضاها، وغير مؤهلة للعلاج؛ وفي فيلم "شرم برم" لا يمانع الطبيب من الذهاب لعمل في توليد العفاريت، ما دام ذلك سيدر له المال!

وفي "للحب قصة أخيرة" يظهر الطب كدليل على الضعف الإنساني، من خلال عجزه عن التشخيص والعلاج والتنبؤ بمصير المرضى، وفي تارة أخرى يظهر كرمز للعلم المقابل للجهل.

اقرأ/ي أيضًا: 10 أفلام تذكرك بالتاريخ الذهبي للزعيم عادل إمام

ودومًا عندما يصور الميهي شابًا عاجزًا عن الزواج أو العثور عن العمل، يجعله طبيبًا، ككمال في "مية فل"، وآمال في "سيداتي آنساتي" وعبده في "شرم برم"، وحتى الطبيب البيطري أحمد سبانخ في "سمك لبن تمر هندي"، أو الدكتور الجامعي محمود في "سيداتي آنساتي"، وكأنه يقول هكذا أصبح حال مهن القمة، ورموز العلم، فكيف من هم دون ذلك.

وأعتقد من وجهة نظري أن الميهي يستخدم الأطباء في أفلامه كرمز للتخلف العربي، وانحراف المدنية العربية عن مسارها، فبدل أن يكون الأطباء حملة مشعل العلم والإنسانية في هذه المجتمعات ونخبتها، نراهم هم امتداد لتخلفه، وجزء أصيل فيه، وكيف أنهم انحرفوا بمهنتهم عن رسالتها السامية من أجل مجد شخصي أو المال؛ كما يستخدم تردي أوضاعهم الاقتصادية كدليل على تردي أوضاع الشعب كله، وإهمال الدولة في دعمهم، كناية عن عدم رغبة في تحويل المجتمع لمجتمع علمي.

كلمة أخيرة عن الموضوع في سينما رأف الميهي
نلاحظ من هذه النظرة البانورامية أن كل فيلم من أفلام الميهي يحتوي عادة على جميع هذه المواضيع، يكون أحدها هو الموضوع الرئيسي للفيلم، بينما تدور بقية المواضيع الأخرى حوله، في شكل حبكات وشخصيات فرعية.

عندما يصور رأفت الميهي شابًا عاجزًا عن الزواج أو العثور عن العمل، يجعله طبيبًا، ككمال في "مية فل"، وآمال في "سيداتي آنساتي"

وتميل هذه المواضيع إلى البساطة في رسائلها والتكرار، فهي ذات الآراء يكررها الميهي بدون كلل أو ملل، بشكل يثبت أن الفنان لا يحتاج أن يكون فيلسوفًا أو مفكرًا أو عالم نفس، ويطرح أفكار معقدة وكثيرة، ليكون مؤثرًا وعميقًا، كل ما عليه أن يختار موضوعه بعناية، ويعرف كيف يقوله.

فلا يمكننا أن ننكر أنه رغم محدودية مواضيع سينما الميهي، إلا أنها مواضيع جوهرية، وتناقش صميم التخلف العربي، وقلما تعرض لها مخرج أو حتى كاتب بهذه الجرأة التي تعرض بها الميهي، وإن لطف حدتها باستخدامه للرمزية والكوميديا والسريالية، ومن وجهة نظري إن استخدام الميهي للفانتازيا بعد كل هذه السنوات من كتابته للسيناريو الواقعي، لم يكن إلا من استشعاره الضرورة الملحة لطرح قضايا العلمانية والذكورية والأبوية، والتوقف عن التهرب منها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Before I Fall": اكتشاف الحياة بالتكرار

11 فيلمًا جمعت بين المتعة ومتابعة القضايا النسوية