03-مايو-2016

(Getty)

المقال التالي هو ترجمة لتقرير الفورين البوليسي حول كيف تمكن الإسرائيليون من خداع جون كيندي بشأن الهدف الحقيقي من مفاعل ديمونة

علمت وكالة المخابرات المركزية أن إسرائيل لم تكن تقول الحقيقة للولايات المتحدة بشأن مفاعل ديمونة وأن المفاعل كان الغرض منه إنتاج أسلحة نووية

___
في أكتوبر 1961، أصدرت وكالة المخابرات المركزية CIA تقييمًا استخباريًا بشأن إسرائيل كان الأول من نوعه منذ اكتشاف مفاعل ديمونة في العام السابق، شرح فيه محللو الوكالة الخطوط العريضة لطبيعة البرنامج النووي الإسرائيلي والدوافع وراءه. تم إبقاء ذلك التقييم سريًا لما يقارب 55 عامًا، حتى تم رفع السرية عنه بهدوء في العام الماضي. يلقي التقييم الضوء على ماذا كان تصور قطاع الاستخبارات الأمريكي عن المشروع النووي الإسرائيلي في أول عام من عهد إدارة كينيدي، بينما كان مفاعل ديمونة مازال تحت الإنشاء. كان تقدير CIA هو أن إسرائيل تحاول الوصول إلى "إنتاج بلوتونيوم صالح للاستخدام في صنع أسلحة يكفي لقنبلة بدائية أو قنبلتين سنويًا بحلول عام 1965-1966، إذا توافرت منشآت فصل ذات قدرة أكبر من تلك الخاصة بالمحطة التجريبية التي يتم إنشاؤها الآن". على أقل تقدير، كانت المخابرات الأمريكية تعلم أن مفاعل ديمونة يتعلق بالقدرة على تصنيع أسلحة، وليس الطاقة أو الكهرباء أو التنمية – كما حاول الإسرائيليون تصوير المشروع الجاري العمل فيه.

بالتبعية يلقي التقييم أيضًا الضوء على الانطباع الذي تولد بالتأكيد لدى صناع القرار الأمريكيين، ومن ضمنهم الرئيس جون كينيدي، عن القادة الإسرائيليين وكبار مسؤولي الحكومة الإسرائيلية الذين أبلغوهم بمشروع ديمونة. على سبيل المثال، يجعل ذلك التقييم من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن جوريون قد كذب على، أو على الأقل ضلل، كينيدي خلال محادثةٍ خاصة معه قبل ثلاثة أشهر فقط. كما يكشف أيضًا عن أن ما قاله كبار المسؤولين الإسرائيليين بالمفاعل للعلماء الأمريكيين الزائرين من هيئة الطاقة الذرية لابد أنه كان زائفًا. باختصار، علمت وكالة المخابرات المركزية، أو على الأقل اعتقدت، أن إسرائيل لم تكن تقول الحقيقة للولايات المتحدة بشأن مفاعل ديمونة – أن المفاعل النووي كان الغرض منه إنتاج أسلحة.

تم نشر التقييم، بالإضافة إلى وثائق مرتبطة به لم ير الباحثون الكثير منها من قبل والتي تعود إلى أول عامين من إدارة كينيدي، في الحادي والعشرين من أبريل من قِبل أرشيف الأمن القومي، بالتعاون مع مشروع تاريخ الانتشار النووي الدولي ومركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار. تلقي المجموعة الضوء على تعقيد وخطورة البرنامج النووي الإسرائيلي بالنسبة لإدارة كينيدي.

اقرأ/ي أيضًا: هل ماتت الليبرالية؟

يظهر السجل الذي تم رفع السرية عنه أن كينيدي كان يركز شخصيًا على البرنامج النووي الإسرائيلي ومتخوفًا منه أكثر من أيٍ من خلفائه. كانت إسرائيل أول حالة انتشار نووي عليه التعامل معها كرئيس؛ وكان الانتشار النووي "كابوس كينيدي الخاص"، كما أشار جلين سيبورج، رئيس هيئة الطاقة الذرية في عهده. وكانت إسرائيل، أكثر من أي دولة أخرى، هي التي جعلت كينيدي يفهم صعوبة وتعقيد مشكلة الانتشار النووي.

متخوفًا من أن إسرائيل وهي مسلحة نوويًا سوف تزعزع استقرار الشرق الأوسط، أراد كينيدي أن يطرح مخاوفه مباشرةً على بن جوريون. التقى الزعيمان لمناقشة القضية النووية بفندق والدورف أستوريا بمدينة نيويورك في الثلاثين من مايو 1961. أمكن عقد اللقاء بفضل تقريرٍ مطمئن عن أول زيارة أمريكية لديمونة من قِبل علماء هيئة الطاقة الذرية قبل عشرة أيام.

توثيق لقاء والدورف أستوريا مثير للاهتمام لأنه يحتوي على كلٍ من مذكرة المحادثات الأمريكية والإسرائيلية بالإضافة إلى مسودة مذكرة أمريكية لم يكن من المعروف وجودها من قبل. تحوي كلٌ منها اختلافاتٍ مثيرة للاهتمام. تم إعداد المذكرة الأمريكية الرسمية للمحادثات، والتي تم رفع السرية عنها ونشرها في التسعينيات، من قِبل فيليبس تالبوت، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا (وتم اعتمادها -ربما تصحيحها- من قِبل نائب المستشار الخاص للبيت الأبيض مايك فيلدمان). تم رفع السرية عن المحضر الإسرائيلي، الذي أعده السفير أفراهام هارمان، أيضًا في التسعينيات وقد استخدمهما المؤرخون على نطاقٍ واسع.

في لقاء والدروف أستوريا، نقل بن جوريون إلى كينيدي مسوغات وسردية مشروع ديمونة والتي كانت مشابهة للغاية بما قاله المضيفون الإسرائيليون للزائرين من هيئة الطاقة الذرية لديمونة (وإن كانت غير تقنية وأكثر سياسية): إن مشروع ديمونة طبيعته سلمية؛ وإنه متعلق بالطاقة والتنمية. لكن على خلاف ما قيل خلال زيارة ديمونة، تركت سردية بن جوريون ومسوغاته القليل من هامش المناورة للتراجع عنها مستقبلًا. يجعل التفريغ النصي الإسرائيلي تحفظ بن جوريون واضحًا: "في الوقت الحالي، جميع الأهداف سلمية. ... لكننا سنتابع ما يحدث في الشرق الأوسط، فهذا لا يعتمد علينا". يكشف التفريغ النصي الأمريكي، على لسان بن جوريون، أيضًا عن تحفظٍ مشابه: "هذا (الطاقة النووية ..إلخ) هو هدفنا الرئيسي والوحيد في الوقت الحالي"، وأضاف: "لا نعلم ما الذي سيحدث في المستقبل". ... علاوةً على ذلك، معلقًا على العواقب السياسية والاستراتيجية للطاقة والتسليح الذريين، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إنه يعتقد أن "المصريين قد يحققوا ذلك خلال 10 أو 15 عامًا".

في مسودته، يشير تالبوت (في جملةٍ اعتراضية) إلى أنه خلال ذلك الجزء من المحادثة، تحدث بن جوريون "بسرعة وبصوتٍ خفيض" بحيث كانت "بعض الكلمات غير واضحة". رغم ذلك، اعتقد تالبوت أنه سمع بن جوريون يتحدث عن "محطة تجريبية لفصل البلوتونيوم مطلوبة لإنتاج الطاقة الذرية"، لكن ذلك ربما يحدث "بعد ثلاث أو أربع سنوات" وأنه "ليست هناك نية لتطوير القدرة على صنع أسلحة الآن". كان بن جوريون يمنح نفسه مساحة كبيرة للمناورة، إذا كان تالبوت قد سمعه جيدًا. تم رفع السرية عن المسودة منذ وقتٍ طويل لكنها غير معروفة؛ يجب أن يأخذها الباحثون في الحسبان.

بعد عدة أيام من المقابلة، جلس تالبوت مع فيلدمان بالبيت الأبيض "لمراجعة تفاصيل دقيقة" بشأن "الهوامش المهمة". كان البلوتونيوم قضية أساسية، والذي "غمغم بن جوريون عنه بسرعة وبصوتٍ خفيض". كان ما تم فهمه أن بن جوريون قال شيئًا بمعنى أن قضية البلوتونيوم لن تطرح إلا عند استكمال مفاعل ديمونة عام 1964 أو نحو ذلك، وأن وقتها فقط سوف تقرر إسرائيل ما الذي ستفعله بشأن معالجة البلوتونيوم. لكن ذلك بدا غير متوافق مع ما قاله بن جوريون للسفير الأمريكي إلى إسرائيل حينذاك أوجدن ريد في يناير 1961، وهو أن الوقود المستخدم سوف يعود إلى الدولة التي وفرت مفاعل اليورانيوم في البداية، وهي فرنسا. لكن مسؤول الشؤون الأمريكية الإسرائيلية، ويليام كروفورد، والذي قام بفحص التسجيل الصوتي، رأي أن ما قاله بن جوريون كان أكثر التباسًا ومراوغة. عند الفحص الدقيق، قد يكون بن جوريون أراد أن يلمّح إلى أن إسرائيل تحتفظ بحق إنتاج اليورانيوم لأهدافها الخاصة. قد لا يكون كينيدي قد التقط هذه النقطة، لكن مجددًا، مثل تالبوت، ربما كان غير متأكد ما الذي قاله بن جوريون.

 كانت المخابرات الأمريكية تعلم أن مفاعل ديمونة يتعلق بالقدرة على تصنيع أسلحة، وليس الطاقة أو الكهرباء أو التنمية، كما ادعى الإسرائيليون

قد تكون قمة بن جوريون-كينيدي قد ساعدت في تنقية الأجواء قليلًا، لكن وجهة النظر الحذرة المتضمنة في التقييم الاستخباري شكّلت التصورات الأمريكية عن مفاعل ديمونة. تمسكت إدارة كينيدي باقتناعها بأنه من الضروري مراقبة مفاعل ديمونة، ليس فقط لمعالجة المخاوف الأمريكية بشأن المفاعل وإنما لتهدئة القلق الإقليمي من تهديدٍ نووي إسرائيلي. بحلول منتصف عام 1962 اعتقدت إدارة كينيدي أنه من الضروري قيام العلماء الأمريكيين بزيارةٍ ثانية، وبدأت تضغط دبلوماسيًا على إسرائيل لتحقيق ذلك.

في السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وبعد "طلباتٍ متكررة على مدار عدة أشهر"، حدثت أخيرًا زيارة أمريكية ثانية إلى المفاعل. حتى وقتٍ قريب، لم يكن الكثير معروفًا عن تلك الزيارة حتى أن السفير الأمريكي في إسرائيل آنذاك وولورث بربر قد قال إنها "كانت محددة بلا مبرر بما لا يتجاوز 45 دقيقة". حسب البروفيسور يفال نيمان، والذي كان مدير مركز سوريك للأبحاث النووية آنذاك ومضيف الزائرين من هيئة الطاقة الذرية الأمريكية، فإن تلك الزيارة القصيرة المضللة كانت "خدعة" متعمدة قام هو بتدبيرها وتنفيذها لتقليل الضغط الأمريكي.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد هزيمة داعش؟

أخبرنا نيمان الكثير عن زيارة 1962 تلك منذ عدة أعوام، لكنه طلب عدم نشرها في حياته. الآن وبعد عشرة أعوام بالضبط من وفاته في السادس والعشرين من أبريل عام 2006، ومع رفع السرية عن الوثائق الأمريكية، حان الوقت لنشر قصته. حسب نيمان فقد رتب بصفته مضيف عالمي هيئة الطاقة الذرية اللذين وصلا لتفتيش مفاعل سوريك (وفقًا لأحكام برنامج الذرة من أجل السلام) لأخذهم في جولة سياحية بالبحر الميت. لكن تلك الجولة كانت ذريعة مخطط لها لإحضارهم إلى مفاعل ديمونة – بشروطٍ إسرائيلية. وهكذا، في طريق عودتهم إلى تل أبيب، وبينما كانوا يمرون بمفاعل ديمونة، اقترح نيمان "عفويًا" أن يرتب لهم زيارة سريعة إلى ديمونة لإلقاء التحية على مديره. كان الهدف، بالطبع، هو أن تكون الزيارة أقصر بكثير وغير رسمية مقارنةً مع الزيارة التي كانت الحكومة الأمريكية تضغط من أجل القيام بها. بفعل ذلك، خططت إسرائيل لإقناع الزائرين بأن مفاعل ديمونة هو مفاعلٌ بحثي، وليس مفاعل إنتاج. و، بالطبع، عندما واصلت الولايات المتحدة الضغط من اجل زيارة المفاعل، كانت خطة نيمان هي أن يقول لهم: "ولكنكم زرتوه بالفعل".

تؤكد وثيقة تم رفع السرية عنها في السجلات الأمريكية رواية نيمان للزيارة الثانية. حسب مذكرة كتبها رودجر ديفيس، نائب مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى، في أواخر عام 1962، فإن الزيارة بكاملها كانت مرتجلة. كان عالما هيئة الطاقة الذرية، توماس هايكوك ويولسيس ستايلر، رسميًا في إسرائيل لتفتيش مفاعل سوريك الذي أمدت الولايات المتحدة إسرائيل به وفق برنامج الذرة من أجل السلام. لكن في طريق عودتهم من جولة بالبحر الميت، لاحظ مضيفهم الإسرائيلي (لم تذكر الوثيقة الأمريكية نيمان بالاسم) أنهم يمرون بمفاعل ديمونة وعرض عليهم "ترتيب لقاء مع مدير المفاعل". اتضح بعد ذلك أن المدير لم يكن هناك، لكن كبير المهندسين أخذهم في جولة لمدة 40 دقيقة بالمفاعل.

كتب ديفيس لاحقًا أن الزيارة جعلت عالمي هيئة الطاقة الذرية يشعرون ببعض الإحراج، "غير متأكدين ما إذا كانوا ضيوف العالم الإسرائيلي أم في عملية تفتيش". لم ير العالمان الأمريكيان المنشأة بكاملها، كما لم يدخلا جميع المباني التي رأوها، لكنهم اعتقدوا أن ما رأوه أكد أن مفاعل ديمونة هو مفاعلٌ بحثي وليس مفاعل إنتاج؛ جعل ذلك، من وجهة نظرهم، الزيارة "مرضية". عرض الإسرائيليون بدهاء على هيئة الطاقة الذرية خيار العودة إلى الموقع لاستكمال الزيارة في الصباح التالي، لكن لأن ذلك كان سيعني التوقف لمدة أربعة أيام فقد رفض هايكوك وستايلر الدعوة.

كتب ديفيس إلى تالبوت أن الطبيعة غير المعتادة للزيارة أثارت الشكوك داخل مكاتب الاستخبارات ذات الصلة. عُقد اجتماع واحد على الأقل لمناقشة القيمة الاستخبارية للزيارة. سُجّل قول "مدير الاستخبارات" بوكالة المخابرات المركزية، ربما المقصود هو نائب مدير الاستخبارات راي كلاين، إنه "ربما تم تحقيق الأهداف المباشرة للزيارة، لكن متطلبات استخباراتية أساسية معينة لم يتم تحقيقها". تم ملاحظة أيضًا أن "هناك بعض التناقضات بين الزيارتين الأولى والثانية فيما يتعلق بالاستخدامات المنسوبة لبعض المعدات". حسب ديفيس فإن حقيقة أن المفتشين تم دعوتهم للزيارة مجددًا في اليوم التالي بدا أنها تشير إلى أنه لا توجد محاولة تضليل متعمدة من جانب الإسرائيليين، لكن حقيقة أن مثل تلك العودة كانت لتسبب تأخيرًا كبيرًا في موعد مغادرة الفريق جعلت العرض الإسرائيلي غير عملي وربما مخادع.

أيًا كانت الشكوك بشأن القيمة الاستخبارية، استخدمت وزارة الخارجية نتائج الزيارة لطمأنة الحكومات المهتمة أن مفاعل ديمونة سلمي. بعد بضعة أسابيع من الزيارة، وبينما كانت تتكشف أزمة الصواريخ الكوبية، بدأت وزارة الخارجية بهدوء إخبار حكومات بعينها بنتائجها الإيجابية. أخبر الدبلوماسيون الأمريكيون الرئيس المصري جمال عبد الناصر، خلال بيان إحاطة بشأن الوضع الكوبي، أن الزيارة الأخيرة أكدت التصريحات الإسرائيلية بشأن المفاعل. تم إخبار البريطانيين والكنديين أيضًا أشياءً مشابهة عن "الزيارة المقتضبة" إلى المفاعل، بدون شرح ما الذي جعلها قصيرة هكذا.

ضمنت التباسات الزيارة الثانية ومعرفة أن مفاعل ديمونة سوف يتم تشغيله في 1963-1964 أن يظل الأمر والحاجة إلى تفتيشٍ دقيق على أجندة إدارة كينيدي. بالنسبة لكينيدي، قد تكون العلاقات الأمريكية مع إسرائيل في خطر إذا لم يتم التوصل إلى حلٍ مُرض لمشكلة مفاعل ديمونة. سوف تأتي المرحلة التالية من الدراما -والأكثر حدة- عام 1963، عندما أرسل كينيدي إنذارًا إلى إسرائيل وتحول الصراع الدبلوماسي إلى مواجهة سرية. لكن أول عامين له في منصبه أثبتا أن إصراره على منع برنامج نووي إسرائيلي كان محوريًا لجهوده لتجنب الانتشار النووي.

اقرأ/ي أيضًا: 

هل كان صدام حسين إسلاميًا في أواخر حكمه؟

أوباما يضرب أسس كامب ديفيد