22-نوفمبر-2015

رصاص فارغ في ليبيا (Getty)

امتطت الرجعيات الدينية ظهر التيار المدني الذي أعلن عن أحلامه العَلمانية الداعية لفصل الدين عن السياسة بخجل، إبَّان فترة حكم المجلس الانتقالي الليبي، الذي انتقل بالمجتمع من عبودية النظام الديكتاتوري العسكري السابق إلى عبودية الفكر الديني بجماعاته الإسلامية المختلفة، وارتضى منذ البداية مشاركة الأحزاب الدينية داخل العملية الديمقراطية السياسية متجاهلًا أن الدين يمسخ السياسة، وأن الأخيرة تصنع من الأول سلطة كهنوتية قاهرة، إذ تتباين أوجه الرفض والقبول بين الجماعات الإسلامية لمفاهيم وآليات الديمقراطية، وإن قبلتها إنما تقبلها على مضض مسايرة للواقع المتمدِّن وقوانين العالم الجديد وإلا ففي تراثها ما يكفي لخلق حالة يوتوبيا لدولتها الدينية المثالية.

الدين يمسخ السياسة، والسياسة تصنع من الدين سلطة كهنوتية قاهرة

يرتفع هاجس المشاركة في السلطة داخل فقه الإسلام السياسي كلما ازدادت محن الأوطان تعقيدًا، بتناسب عكسي مُخجل ومخيب للآمال. وفي خضم هذه الفوضى الاستراتيجية الكبرى التي يعيشها العالم، تراهن الإدارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية على قدرة الإسلام السياسي على احتواء الجماعات الرديكالية والتنظيمات الإرهابية التي تعبث بمصائر أهل ليبيا، وتصر على منحه ذلك الدور ليكون أداة الاحتواء التي تخضع لهذه التجربة أو "المغامرة" بوصف أكثر دقة.

هذه النظرية السياسية الاختبارية "الإمبريقية"، أثيرت بعد الخبرة التجريبية التي اكتسبتها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط التعيس، الذي شهد بالألفية الجديدة سطوعًا لنجم الجماعات الإسلامية الإرهابية، بعد أن فقد الجسد السياسي العربي مناعته بسبب انسداد أفق التغيير تمامًا في سياسات الديكتاتوريات الحاكمة في الوطن العربي. 

الحديث هنا لا يشير إلى "نظرية الاحتواء المزدوج" التي تستنزف وقت الأطراف السياسية المتصارعة حتى تُنهك تمامًا وتعود إلى الحضن الأمريكي، وإنما له بعد آخر يدخل المجتمع بصراعه الثقافي والأيديولوجي مع الجماعات الإرهابية ضمن عناصر معادلته. هذه النظرية بقدر ما تقترب من المنطق الأمريكي في إدارة الصراع، فإنها تبتعد عن الواقع الإيديولوجي للجماعات الإسلامية بشقيها المعتدل والمتطرف، ذلك أنَّ تخندق الإسلام السياسي مع بعض الجماعات الدينية المسلحة في بعض دول الربيع العربي، قد نفى عنه صفة الوسيط بين الممارسة الجهادية والدعوة للممارسة السياسية. 

هذا الرهان المُدمر يخلع المسؤولية الأخلاقية عن كاهل الغرب الذي قدم الدعم للأنظمة الديكتاتورية العسكرية في السابق، ويمنح التعاطف اللازم لخطاب الضحية الذي تبناه الضمير الديني للجماعات الدينية، وربما قد نفهم المنطق الغربي من خلال مركز رؤية مختلف، فربما يكون الأخير قد آمن بإمكانية وضع الإسلام السياسي في خانة الشريك المقبول بوصف جماعة الإسلام السياسي "أعقل المجانين"، واستنادًا إلى الحقيقة المعرفية التي تشير للبنية الأيديولوجية المشتركة للجماعات الدينية على اختلاف درجات تطرفها. إلا أن الراجح من التكهنات يقول إن من يتشارك بالآليات والمنطلقات الفكرية والثوابت الدينية مع الجماعات الجهادية على مستوى نظري، لا بد أن يتفق عمليًا في نظرته لطبيعة الصراع السياسي بثنائية قطبية حادة تصنف الناس إلى اثنينية مؤمنة وأخرى كافرة.

تنهار المسافة بين التطرف والاعتدال، عندما تتعارض الديمقراطية الغربية مع الثوابت التي شكَّلت العقل الإسلامي

ومن أعلم بالتنظيمات الإرهابية من جماعة الإخوان التي سـنَّت منهج البيعة على المصحف والمسدس في ربيع إرهابها قبل أكثر من ثمانين عام. قد يجد الرائي لنمط تطور الإسلام السياسي تغييرًا ظاهريًا في ممارسة السياسة الشعائرية للإسلام السياسي عند النظر لإحدى حكوماته في تركيا، وهي تقسم على احترام الدساتير الـعَـلمانية بوقت لا يبتعد كثيرًا عن منهج البيعة على المصحف والمسدس. ولكن خلف تلك الممارسة الديمقراطية هنالك مرض عُضال -يصاحب أي جماعة تنطلق من مركز رؤية دينية- يسمى "فقه التمكين" الذي نستطيع ترجمته من المعنى الشرعي إلى المعنى السياسي واختصاره في "سياسة الفائز يأخذ كل شيء". 

بمعنى آخر نستطيع تسميته، في عصر الممارسة الديمقراطية، بالاستبداد الديمقراطي الذي يذهب بنتيجة الصناديق إلى إقصاء الجميع والتغلغل والانتشار في مفاصل الدولة، لتبدأ عملية استهلاك المطالب التقليدية للإسلام السياسي والمقتصرة على "أسلمة المجتمع" وتغيير الدساتير، حتى إذا ما انتهت من كل ذلك دخلت في مرحلة تصلُّب تأذن بالانهيار. وما يحتجب عن المراقب الغربي في واقع الأمر أن المسافة الأخلاقية بين التطرف والاعتدال داخل الفكر الإسلامي، تنهار بسرعة الضوء عندما تتعارض ثقافة الديمقراطية الغربية مع الثوابت الدينية التي شكَّلت العقل الإسلامي.

اقرأ/ي أيضًا:

قال العجوز.. اقتلوه!

الجيوش العربيّة وانتصاراتها الإعلامية