25-أكتوبر-2020

رياض الصالح الحسين (مجلة الدوحة)

قد يكون رياض الصالح الحسين هو الأوفر حظًا في جيل السبعينيات من القرن الفائت. فقد أكمل شعراء هذا الجيل ما بدأته الحداثة الشعرية العربية: مقولات وأشكالًا، إنما على نحو باهت.. وأضافوا عليه ما سمي بالشعر التحريضي وشعر الواجب وغيره من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الشعراء الذين اتخذوا الاتجاه المعاكس لشعر الحداثة، وانتبهوا لليومي و"الصغير"، غرقوا في الكلام والحكي الذي لا يفضي، وحوّلوا قصيدة التفاصيل إلى بؤرة لا شيء فيها سوى تفاصيل متراكمة لا تقول شيئًا ولا تكتشف شيئًا! مجرد تفاصيل ميتة، ووقعوا في فخ البساطة التي حولت قصائدهم إلى كلام خال من أية حالة فنية أو شعرية، وذلك باسم الاقتراب من لغة الناس، فضاع، إلى حد كبير، الخط الفاصل بين البساطة والسطحية، وكان لهم أثر واضح، فيما بعد، على إسباغ صفة الشعر على كل كلام لا شعرية فيه، وكان من آثاره أن سالت وساحت قصيدة النثر، وغدت صعوبة كتابتها التي أكدها صانعوها شيئًا لا معنى له، إذ بدا أن كتابة قصيدة نثر على شاكلة شعراء اليومي السبعينيين أمر متحقق على الدوام!

ظهرت القصيدة الشفوية المضادة بوصفها قصيدة الحياة هنا – الآن، وبوصف الشاعر إنسانًا هشًا، متخفّيًا

كان رياض الصالح الحسين أكثرهم انتباهًا لعدم وقوع القصيدة في أفخاخ الثرثرة، ولعدم انسياحها واندياحها وترهلها، إن لم يكن على نحو مطلق، فقد فعل ذلك غالبًا. وحقق تلك المعادلة العسيرة: إيجاد صلة راسخة بين لغة الشعر، ولغة الناس.

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

ظهرت القصيدة الشفوية المضادة بوصفها قصيدة الحياة هنا – الآن، وبوصف الشاعر إنسانًا هشًا، متخفّيًا، يقول وجهة نظره، ليس بالحياة برمتها، بل بأشيائها المتروكة والمهملة. لم ترَ الإنسان القادر، بل الإنسان المسحوق، المسحول بأعباء التاريخ والراهن، نظرت إلى الحياة من الجهة الأخرى. وقد كان محمد الماغوط قد وضع أسس تلك المعادلة السحرية التي تجمع وتمزج بين لغة الناس وأشيائهم الأثيرة وبين لغة الشعر.

رياض الصالح الحسين وجد تلك الأرض ممهدة إلى حد كبير، واستطاع حل رموز تلك المعادلة. ولقوة شعريته، حقاً، لم ينطق بصوت الماغوط المتبرم والساخط والصاخب، بل نطق بصوته الخفيض منسجمًا مع صورة الشاعر والإنسان "الصغير". 

"انظروا إليه

انظروا إليه فقط

لقد تفسّخ جسده

منذ زمن بعيد

وما زال يحمل راية الحرية".

بهذه البساطة يكتب الشاعر، وفي الوقت ذاته، بهذا الانضباط. هذه لغة الناس، فلا بلاغة ولا تقعّر، وهذه أيضًا لغة الشعر، فلا ثرثرة، ولا كلام لا يفضي، ولا غرق في التفاصيل. لغة الناس حقًا، لكن ليس تلك التي يتكلمون بها في حياتهم اليومية، بل تلك التي تم تأسيسها واختراعها لتكون لغة كتابة،  كما لا حضور للشاعر الشخص على حساب حضور النص. كأنه قال ما يريد وغادر. هنا يقف رياض الصالح الحسين على مسافة بعيدة من غالبية أقرانه شعراء الشفوية في السبعينيات الذين لم ينفكوا يوالون حضورهم الشخصي في القصيدة على حساب الحضور النصي، فيتكلمون، ويتكلمون، ويتكلمون، إلا أنهم، غالبًا، لا يقولون شيئًا!

خلال حياته القصيرة (28 عامًا) وعبر أربعة كتب شعرية، قال رياض الصالح الحسين الكثير على مستوى الشكل كما على مستوى القول:

"على الرصيف تقابلنا

كانت تمزّق دفتر مذكّراتها وتبكي

أمسكتُ يدَها بعنف وسرت معها

وفي زاوية ما

في مقهى ما

في شارع ما

شربنا الشاي وتبادلنا القبلات

لكن جسدها النحيل ظلّ يرتعش بقوّة

حتى خفتُ أن يتفتّت

مثل كتلة من الطين لم ترَ الشمس

منذ ألف عام".

نلاحظ أنه ما إن يدخل في الكلام، وربما في الحكي بعد قليل، فإنه سرعان ما يتدخل ليحرفه باتجاه اللغة، ويضبط انفلاته وسليقته، فالكلام المتدفق مغرٍ، لسهولته ولقوته التاريخية والتداولية ولتشبثه هو -أي الكلام- بالقول ومنع الشاعر عنه، لكن انتباه رياض الصالح الحسين، هنا، جعله ينتبه لفخّ الكلام، ويوقفه حيث يجب، ويقول هو ما يريد لا الكلام. وغالبًا، فعل الشاعر هذا، وإن وجود قصائد أو مقاطع يسيل فيها الكلام بلا انضباط لا يلغي ميزته في التحكم والضبط بصفة عامة.

يمكن أن يجد قارئ رياض الصالح الحسين أن تجربته تنطوي على جزء يمكن أن يوصف بالسذاجة والبساطة السطحية في التعامل مع اللغة

يمكن أن يجد قارئ الحسين أن تجربته تنطوي على جزء يمكن أن يوصف بالسذاجة والبساطة السطحية في التعامل مع اللغة، وقد يكون ذلك صحيحًا؛ فهو جاء مع تشكل المفاهيم الأولى لـ"إيديولوجية قصيدة النثر"، حيث "المعارك" كانت تميل للاحتدام بين مناصريها و"أعدائها"، وحيث كانت تعليمات سوزان برنار في تعريف قصيدة النثر تنتشر كالنار في الهشيم عبر أدونيس وأنسي الحاج وآخرين... فكتاب برنار "قصيدة النثر/ من بودلير إلى أيامنا" كان المرجعية النهائية في التنظير العربي لتلك القصيدة، وإن الاجتهادات التي نشأت حولها نشأت ضمن نص برنار ذاته، وقد كانت مقدمة أنسي الحاج لديوانه الأول "لن" المستمدة من مرجعية برنار هي اللبنة الأكثر تأثيرًا في تشكيل مدماك أيديولوجية قصيدة النثر.

اقرأ/ي أيضًا: قاتلة رياض الصالح الحسين

في تلك الفترة ساد مناخ سجالي كبير بين أنصار هذه القصيدة وخصومها، ولم تحدث أية تقاطعات بين الفريقين إلا على محمد الماغوط ربما، حيث اشترط خصومها أن تكتب على طريقة الماغوط أو لا تكتب أبدًا!

يرى الحاج في مقدمته تلك أنه "لتكون قصيدة النثر قصيدة حقًا لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الايجاز والتوهج والمجانية". وكانت فكرة المجانية هي الأكثر قوة في تنظير قصيدة النثر. وبتأثير الماغوط جنحت اللغة إلى البساطة، ولقوة تأثيره ساد هذا المنهج سيادة شبه مطلقة، وعنه أخذ الحسين. في هذا المناخ المشحون بالتنظير وبـ"المعارك" نشأ الحسين، فكانت تُكتب قصيدة النثر بإيعاز من حركة التنظير أكثر مما تُكتب بقوتها الذاتية، وقد كان الحسين من الشعراء الأكثر إصغاء في جيله لهذا الصوت، الأمر الذي جعله يمشي بفكرة "المجانية" التي قادته إلى تلك السذاجة التي يراها بعضهم في جزء من تجربته مشيًا حثيثًا، فمهما كانت قوته الشعرية فهو ابن مرحلته.

رياض الصالح الحسين أبكم، لا يتكلم، كان يكتب ما يريد قوله لأصدقائه كتابة. ربما يكون ذلك سببًا إضافيًا لحزنه، بالإضافة إلى الأسباب الأخرى العامة، وربما جعله هذه الحزن يتخذ من اللغة إمكانية قصوى للتعبير العاطفي، لتكون هذه اللغة معادلًا وحيدًا لحياته، فقد كان يمارس الحياة برمتها عبر اللغة، وهذا الأمر ربما أعطى لقصيدته هذا البعد الوجداني المتألم والصادق، ما جعلها أشبه بالصرخة المكتوبة التي لا تحتاج، أصلًا، إلى لغة تفكر بالدلالة "السابعة" للكلمة، وبالغرق في مجازات لا طائل منها هنا، هنا في هذا التعبير الفوري عن المعاناة والألم والقهر.

أنسي الحاج: "لتكون قصيدة النثر قصيدة حقًا لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الايجاز والتوهج والمجانية"

وبهذا، أيضًا، افترق عن مجايليه وعما أتى بعده من الشعراء الذين لم يستطيعوا التعبير العاطفي عن آلامهم، ولم تسعفهم طريقة استعمالهم للغة في أن يجيدوا ذلك، فقدموا شعرًا بدا، غالبًا، بلا لغة، وبلا عاطفة..

اقرأ/ي أيضًا: مع رياض الصالح الحسين في فيسبوكه

إن التجربة العامة لرياض الصالح الحسين هي تحقيق معادلة الشعر من حيث هو لغة خاصة من نافذة، ومن حيث هو لغة الناس من نافذة أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رياض الصالح الحسين .. شاعر ضدّ النسيان

نحن أصدقاؤك يا رياض