22-أكتوبر-2020

أدونيس في باريس 2011 (Getty)

واحدة من المفارقات الثقافية السورية، التي تثير التفكر، استدعاء اسم الشاعر والناقد السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) إلى ساحة النقاش كلما تم الانتهاء من إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب كل عام، لا من باب الثقافي أو الفكري بل من باب السياسي، ذلك أن مواقف أدونيس السياسية من الثورتين السورية والإيرانية بنسختها الخمينية تثير العجب العجاب، ففي حين ينبري للدفاع عن الأولى ويمجدها، يقف موقف المعارض والمسفّه للثانية، الأمر الذي يجعل المرء يتساءل عن الأسباب العميقة، التي جعلت مثقفًا مثل أدونيس يقف مثل هذا الموقف المزدوج، أهو يا ترى مجرد  انحياز وجداني للمكوّن الديني عند الرجل كما يتراءى للبعض، أم إنه انحياز عميق للبنية الفكرية التي تبناها في "الثابت والمتحول"؟

تكمن قوة أدونيس النقدية في قراءته لتاريخ الشعر في تمفصله مع تاريخ المجتمع العربي السياسي والاقتصادي

لا يختلف النقّاد ومحبو الشعر على مكانة أدونيس كشاعر من حيث كونه مجددًا في الحقل الشعري، لكن وما إن ينتهوا من هذا السجال حتى يقر له الجميع بمكانته كناقد فذ لا يشق له كبار، فما هي يا ترى الحرتقة أو الإضافة النقدية التي أضافها الرجل في مجال النقد الأدبي. تكمن قوة أدونيس النقدية على ما يبدو في قراءته لتاريخ الشعر في تمفصله مع تاريخ المجتمع العربي السياسي والاقتصادي، ففي "الثابت والمتحول" يقيم أدونيس علاقة جدلية بين الشعر أو البناء الفوقي وطبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي، البناء التحتي، الذي عاينه الشاعر، وفق التقسيم الذي أورده ماركس لفهم آلية التطور الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: أدونيس: هنا مزاري

في "الثابت والمتحول"، نجد أدونيس يستعين بماركس ضد ماركس، ففي الوقت الذي يسلم فيه بالطبيعة الصراعية للمجتمع الإسلامي، من حيث انقسامه للسنة وشيعة، كتعبير للصراع الاجتماعي، فإنه يذهب إلى رفع كل المنتج الشيعي إلى مصاف الحرية والتجديد، ويسعى إلى وسم المنتج السني بوسم القبيح والتقليد. وبدل أن يتعامل مع استنتاجه هذا كحالة خاصة ومؤقتة حكمت طبيعة الصراع الاجتماعي في فترة زمنية محددة، يصر على سحب مثل هذا التصور إلى وقتنا هذا، دون أن يلحظ أن الصراع الاجتماعي داخل الجماعة الشيعية كما السنية في العصر الحديث، الذي لم يعد يمتظهر وفق التصور اللاهوتي القديم، بل أصبح في تمفصل تام مع قيم الحداثة وحقوق الإنسان.

على صعيد الحياة أثبتت الوقائع سذاجة مثل هذا التصور، فالصراع الاجتماعي أو التحول نحو الحرية، لم يكن صراعًا خارجيًا بين جماعتين واحدة سنية وأخرى شيعية، بقدر ما كان صراعًا داخل مجتمع كل جماعة على حدة. فالتجديد الديني في الجماعة السنية جاء على يد رفاعة الطهطاوي الأزهري، وهو في جوهره تجديد ثوري سعى لربط المجتمع العربي بالحداثة وترسيخ قيمها فيها، ولقد كانت أفكار قاسم أمين في الدفاع عن حرية المرأة وحقها في الدخول إلى الحيز العام جزءًا أصيلًا من هذا التوجه الذي حكم فكر أولئك الرواد، رغم الأرضية الدينية التي كانوا يتحركون فيها.

على وقع أحداث الثورة الإيرانية، التي نجح الخميني إلى حد كبير بتقديمها كحركة مظلومية دينية ضد حالة الاستكبار الداخلي ومن ثم الخارجي في توظيف غريب لمفاهيم العصور الوسطى، مع أنها في جوهرها ثورة شعب ضد الاستبداد، سنرى أدونيس مبهورًا بالاكتشاف الذي سبق أن توصل له في رسالة الدكتوراة خاصته "الثابت والمتحول"، ضاربًا بعرض الحائط كل الاستنتاجات التي توصل إليها سابقًا في استناده إلى المنهج الماركسي في التحليل، معلنا انحيازه التام  للفكر الديني. فبعد أن كان الشعر له علاقة بواقعه الاجتماعي الذي أنتج فيه، أصبح بقدرة قادر منفصلًا عنه، وله القدرة الخاصة بتفسير الواقع الاجتماعي على ضوئه، حاله في ذلك حال الفكر الديني الذي يستعين بفمهوم الله المتعالي ليفسر حركة الواقع.

لا يبدو موقف أدونيس السلبي من الثورة السورية كامنًا في تحيزه الوجداني للجماعة الدينية التي ينتمي إليها، بقدر ما يمكن في طبيعة تفكيره الديني

لا يبدو موقف أدونيس السلبي من الثورة السورية كامنًا في تحيزه الوجداني للجماعة الدينية التي ينتمي إليها، بقدر ما يمكن في طبيعة تفكيره الديني، الذي قرر قسمة العالم إلى عالمين واحد شيعي له صفة التجديد والثورية، وآخر تقليدي له صفة الاستبداد والتخلف وإعادة إنتاج القديم. العالم عند أدونيس عالم هوياتي ثابت لا يتغير، فالجامع عند الشيعة مركز للثورة، والجامع نفسه عند السنة مركز للاستبداد، وعلى نفس السياق يتحاشى الرجل التعرض للشادور الإيراني كما لشرطة الأخلاق التي عززتها الخمنية في المجتمع، ويصب جام غضبه على الحجاب السني، مع أن كلا الرمزين حجاب، وتعبير عن واقع واحد، هو الإصرار على حجب المرأة من الحيز الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: أدونيس.. "تنويريّ" الرجل الأبيض!

عجيب أمر أدونيس يتحدث عن التجديد والإبداع في الوقت الذي يعجز عن رؤية الجديد الذي خرج من أجله السوريين، دون أي اعتبار لقسمته الباطلة عن العوالم الدينية. فهل وصل بها العمى حدًّا لم يعد يميز فيه بين حركة الناس، وحقهم في الانتماء إلى تيار العصر والحداثة، وإصرار القوى الاستبداد الإيرانية والأسدية بردهم إلى بيت الطاعة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن أدونيس المنتحل والمكرّم

لماذا لا أتمنى نوبل لأدونيس!