29-نوفمبر-2020

(Getty) يهود مغاربة

تواصل الرواية المغربية الجديدة منذ الألفية الثانية تحقيق ذاتها بعيدًا عن سلالتها في محاولة للتخلص من أثقال كثيرة ومعقدة، منها ارتباط المشهد الأدبي المغربي منذ الستينات بالكتابة النقدية، أو الأوتوبيوغرافية، ثم محاولات التجريب القصصي والحديث باحتشام عن الرواية من خلال عدد من الروائيين الأكاديميين.

رغم أن عدد صفحات رواية "أحجية إدمون عمران المالح" لا يتجاوز المائة صفحة، مع ذلك هي رواية متشعبة عبر تكثيفها ومعالجتها لعديد المواضيع

يقود هذه الموجة الجديدة كل من اسماعيل غزالي وياسين عدنان وعبد الكريم الجويطي ومحمد بنميلود، فتبدو روايات هؤلاء متخففة من أسئلة الكتابة المغربية المتكررة والاهتمام المبالغ فيه بالتجريب الفني على حساب الحكاية. وقد ساهم هذا التجديد مع الموجة الجديدة في شهرة هذه الأسماء واقتحامها سوق الكتاب العربي عبر دور نشر مشرقية معروفة كالساقي والآداب والعين والمتوسط وهاشيت أنطوان - نوفل.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "أحجية إدمون عَمران المالح".. حياة كأنها البرزخ

يعتبر محمد سعيد أحجيوج آخر من ظهر من هذا الجيل الجديد، والذي لفت الانتباه إليه منذ روايته الأولى "كافكا في طنجة" 2019، والثانية "ليل طنجة" الفائزة بجائزة اسماعيل فهد اسماعيل في مصر. ويؤكد هذه القدرة الروائية مع روايته الجديدة "أحجية إدمون عمران المالح" الصادرة عن "هاشيت أنطوان – نوفل، 2020".

إدمون عمران المالح (ويكيبيديا)

رواية محمد سعيد احجيوج هذه رواية من نوع النوفيلا التي لا يتجاوز عدد صفحاتها المائة صفحة، ومع ذلك فهي رواية متشعبة عبر تكثيفها ومعالجتها لعديد المواضيع، منها الفني والأدبي (كتابة الرواية)، وعالم الصحافة الثقافية العالمية وأثرها ومنها الهووي التاريخي (المغربي العربي)، ومنها أزمة المشهد الثقافي العالمي (الجوائز ودور النشر)، وصراع الحضارات والأديان (اليهودي والعربي) وقضايا الجوسسة.

الحلم اليهودي الزائف

يمثل اليهود الموضوع الطاغي في الرواية لارتباطه بالشخصيات المحورية، فالراوي يهودي من أصول مغربية، والعدو الناشر فرانز غولدشتاين يهودي من أصول ألمانية، والشخصيات الثانية كالخالة ميمونة يهودية مغربية. والراوي شخص وجد نفسه محطمًا عاجزًا وبلا ذاكرة في غرفة بالمستشفى يكتشف تدريجيًا أنه يهودي مغربي سبق له أن هاجر منذ زمن إلى إسرائيل ضمن هجرات اليهود المغاربة الباحثين عن الحلم الموعود فما وجد غير الاضطهاد والاستغلال والتجنيد الإجباري والدفاع عن أرض منهوبة من أصحابها، فيغادر إلى فرنسا أين أصبح صحفيًا شهيرًا ومراجع كتب في جريدة لوموند العريقة، ويتعرض في وقت ما لابتزاز من محرر وصاحب دار نشر يهودي، الناشر فرانز غولدشتاين يطالبه بأن يمرر رواية بعينها من منشوراته هي "اليوم المقدس" مقابل مبلغ مالي ضخم، ولا يتوقف العرض عند الإغراء، بل يكشف الناشر وجه العرض الآخر المتمثل في التهديد بفضح الصحفي اليهودي، فهو يعرف دقائق حياته وجزءًا مهمًا من ماضيه ويعمل على تلفيق تهم له كالتزوير والسرقة الأدبية ليصل إلى أهدافه.

تكشف رواية "أحجية إدمون عمران المالح" قوة اختراق الموساد وتحكّمه في مصائر اليهود الشرقيين وغير الشرقيين

كل ذلك يتذكره الراوي تدريجيًا بعد أن قرر أن يلجأ إلى الكتابة لاستعادة ذاكرته الضائعة، معتمدًا أسلوب التداعي الحر مستنجدًا بنظريات التحليل النفسي وتعاليم اليهودي سيغموند فرويد؟

الموساد والتغلغل الثقافي

تكشف الرواية قوة اختراق الموساد وتحكّمه في مصائر اليهود الشرقيين وغير الشرقيين، وقدرته على التغلغل داخل المشهد الثقافي الغربي وإدارته له، وتحويل كل مؤسساته بما فيها الحديثة والصغيرة لصالحه، فلا شيء يحدث خارج سيطرته التي تبدأ من كبار دور النشر إلى أصغرها.

اقرأ/ي أيضًا: 5 مداخل لقراءة رواية "الحيّ الخطير"

لئن وجهت التهمة للموساد بالتلميح في الرواية عن مسؤوليته في غرق السفينة "ايجوز" التي كانت تنقل اليهود المغاربة إلى إسرائيل، لكي يجلب مزيدًا من التعاطف العالمي مع اليهود والضغط على ملك المغرب لرفع يده عن حركة هجرة اليهود، فإن الكاتب يوجه تهمًا مباشرة له (أي الموساد) في إدارة الشأن الثقافي اليوم، وتحكمه في أصغر الجوائز وأصغر المؤسسات وتجنيدها بالضغط لخدمته، أو البقاء تحت سيطرته لوقت آخر.

يكتشف عمران المالح أن حياته مخترقة من السيد فرانز غولدشتاين الذي استطاع أن يشله شللًا تامًا عن الحركة؛ الحركة الحسية بالشلل الجسدي والشلل الفكري بتعطيل روايته ومنعها من النشر ومنعه من العيش بسلام، بسبب رفضه عرضه ورشوته لتمرير رواية تدين العرب والمسلمين، وتشوه صورتهم وتروج لأكاذيب عنهم، إلى القائمة القصيرة مما حول حياته إلى جحيم.

ومن خلال شخصية الشرطي الفرنسي الذي جاء ليفتش بيت عمران، لكي يثبت أن روايته مسروقة من كاتبة شابة، يكشف الكاتب سطوة الموساد، فالشرطي ينصح الكاتب بألا يقف في وجه فرانز غولدشتاين معززًا ذلك بتجربته الشخصية، فحتى الشرطة الفرنسية غير قادرة على التصدي لرجل الموساد القادر على تدمير كل شيء.

رواية ما بعد الحداثة المحيرة

رواية محمد سعيد احجيوج هي رواية ما بعد الحداثة المغربية التي تداور مواضيع شتى، منها فن الرواية ذاته، الذي يصبح موضوعًا رئيسًا، فطوال الصفحات المائة للرواية يسائل الراوي الكاتب فن الرواية ويناوره بشتى الطرق، محاولًا التعرّف عليه واكتشافه كفعل جديد ملتبس يشبه الحقيقة وليس الحقيقة، ويلتبس مع الواقع التباسًا كبيرًا، لكنه ليس سوى تخييل. ومن علامات ما بعد الحداثة أن الحدث في الرواية لا يسلم نفسه للقارئ على أنه حدث خالص بل هو حدث متحرك بين الوقوع الفعلي وعدم الوقوع أو الوقوع بشكل مختلف، فالراوي يكذب نفسه كل مرة بل أن يقنعك بالحدث. يشقى في نحت وتركيب عناصر الحدث ثم بجرة قلم يطيح به ليبني فرضية جديدة هي الأخرى مهددة بالتفكيك كلعبة البازيل التي يبني بها الطفل شكلًا جديدًا لحقيقة جديدة. كما أن موضوع الأقليات العرقية والإثنية هو الموضوع الأثير لرواية ما بعد الحداثة.

يعتبر محمد سعيد أحجيوج آخر من ظهر من الجيل الجديد في المغرب، والذي لفت الانتباه إليه منذ روايته الأولى "كافكا في طنجة" 2019

الكتابة في "أحجية إدمون عمران المالح" أداة علاج، فأس للتنقيب عن ذاكرة مطمورة لحقتها الكثير من التشوهات أثناء الدفن. تنطلق الرواية من جثة أو من جسد يجهز نفسه ليكون جثة فلا شيء فيه يبشر بالحياة، جسد محطم لرجل لا يعرف عن نفسه شيئا ثم تبدأ الحكاية بقرار الرجل أن يكتب نفسه أو أن يخلقها على الورق من جديد عبر تحريضها على التذكر.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ثلاثة أيّام في كازابلانكا" لإسماعيل غزالي.. نزع حجاب المدينة

يستعين الراوي بالكثير من الوقائع والشخصيات الواقعية من تواريخ وأسماء مرجعية كسفينة اليهود المغاربة الغارقة في المياه الإسبانية، أو إدمون عمران المالح، الكاتب اليهودي المغربي المعارض للصهيونية، ويستعين بوقائع من تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي في الأربعينيات والسبعينيات ليشكل حكايات أخرى تقول التاريخ وتخونه، وتروي قصص تلك الشخصيات وتزوّرها.

كل شيء حقيقي في هذه الرواية ومزوّر في آن. وكأن بالكاتب يتبنّى أسلوب الموساد نفسه في القدرة على التزوير والتزييف ليقدم حياة وتاريخًا جديدًا مضاد ومطابقًا للواقع في آن. إنها القدرة على بث الشك في كل شيء، فحتى الشخصية الراوية للأحداث والسيرة متقلبة وتنتهك نفسها كل لحظة لتروي وتزوّر حياتها وتقنع بالتزوير وتزوّره من جديد.

رواية احجيوج رواية ضاربة في التجريب الجديد، ذلك التجريب الذي يتمسك بالتشويق وبالحكاية لأنه لا يتنازل عنها في لعبة التجريب بل يداورها ويخربها ليبنيها. إن الروائي حسب نظر الرواية هو القادر على رواية الأحداث بطرق شتى ومتناقضة دون أن تسقط فرضية أخرى، لذلك تظل الرواية ممتعة ولكنها عصية عن التلخيص، فهي لا تقدم حقيقة واحدة ولا خطًا سرديًا واحدًا يمكنه أن يفضي إلى نتائج، إنما هي فوضى التداعيات الحرة التي تصنع ذاكرة مخترقة بذاكرة أناس آخرين وتصوراتهم عن الذات ومسارها، ولكن كل ذلك يتبناه الكاتب، فالراوي نفسه لا يسرد شخصًا غيره كجزء من ذاكرته هو.

تبدو الرواية منخرطة بقوة في رواية ما بعد الحداثة التي وصفها أنخيل دانييل ماتوس بأنها "يخلق وتزعزع بوقت واحد المعنى والتقاليد، بسبب النبرة الساخرة والانتقادية للأعمال القديمة".

في رواية"أحجية إدمون عمران المالح" ، كل شيء حقيقي في ومزوّر في آن. وكأن بالكاتب يتبنّى أسلوب الموساد نفسه في القدرة على التزوير والتزييف

وتكاد تكون الرواية تمرينًا إجرائيًا لمقولات ما بعد الحداثة وأسلوبها المتمثل في "الفوضى الزمنية" للأحداث و"التشظي"، وما سمي بالماضوية، وبحثها واستثمارها للماضي الشخصي والجمعي وخاصة الأقلي، و"البارانويا" لشخصيات تعيش لايقينًا، واعتمادها راويًا غير ثقة يغير كل مرة آرائه ولا يسكن إلى يقين، إلى جانب تبنيها لمقولة بارت "موت المؤلف"، وإقحام الكاتب فيما يسمى بالتخييل الذاتي وأساسًا لعبة التزوير والتحريف التي تتعرض لها الأمكنة والأزمنة والشخصيات المرجعية التي يشير اليها الكاتب، أو يطلقها في نصه في تقنية ما سماه أنخيل دانييل ماتوس بـ"الدوائر العدائية"، كما تؤكد الرواية انخراطها في تيار ما بعد الحداثة بذلك الكولاج والمونتاج وعملية إدماج الشعبي بأدب الدرجة الأولى، وهذا التجاور والتمازج بين الأدبين يخلق أسئلة جديدة لا تبحث أبدًا عن إجابة، ويتحاور في الرواية منجز الأدب العالمي باعتباره كما يصفه جورج باتاي غير البريء. والمونتاج كما يؤكد ذلك جاك داريدا "الشكل الأساسي في الخطاب ما بعد الحداثي"، فالتنافر الداخلي هو من يمنح متلقي النصوص أو الأعمال الفنية الما بعد حداثية المعنى، كما يسجل ديفيد هارفي في كتابه "حالة ما بعد الحداثة": "الحافز لانتاج دلالة لا تكون أحادية ولا مستقرة ومنتجو النصوص ومستهلكوها يتشاركون معا في إنتاج الدلالات والمعاني".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الحلم الألماني".. هزلية عن الديمقراطية الغربية وأوهامها

يجب أن نؤمن مع هذا التيار الأدبي، ما بعد الحداثة، بأن "المنتج ليس المقيم بل الهائم على وجهه" كما يقول فوكو. فواقع ما يعد الحداثة هو "واقع يسبح، بل يتمرغ، في موجه من التشظي والتغير، كما لو كان ذلك هو كل ما في الأمر"، كما يقول ديفيد هارفي.

رواية أحجيوج درس روائي في بلاغة التكثيف يقوده نَفَس كافكاوي سبق وأطل منه الروائي، ولكنه أيضًا أسلوب يستفيد من منجز الرواية العالمية، تجربة بول أوستر تحديدًا، أحد أهم كتاب رواية ما بعد الحداثة منذ "ثلاثية نيويورك"، حتى "1234"، مرورًا بـ"رجل في الظلام" الذي تذكرنا به الرواية بقوة.

غير أن هذا اللايقين أيضًا مربك لأنه لا يقين شامل ينتهك حتى الحق في الأرض، فتتسرب أفكار حول أحقية أبناء اليهود الصهاينة في أن يظلوا بأرض ميلادهم وإن سندها بحق العودة الفلسطيني، فالواضح أن الرواية تقدم نفسها كرواية من اليسار الإسرائيلي المؤمن بحق الفلسطينيين في العيش، وبأن ما يروج عن العرب فيه الكثير من المغالطات، لكنه أيضًا خطاب يتبنى مقولة أن فلسطين من حق اليهود. فلم تكن الإدانة إلا للموساد وطرقه في الهيمنة ورعاية الصهيونية منذ بداية الأربعينيات، والموساد أيضًا كان محل انتقاد من اليهود الاسرائيليين أنفسهم. ويبدو أن هذه الرواية واحدة من الروايات العربية الجديدة التي صارت تتحدث عن ضرورة التعايش الفلسطيني الإسرائيلي واليهودي العربي في ظل دولة واحدة، والتخلص من أنظمة الجوسسة الكلاسيكية والعنيفة لإقامة ومواصلة العمل اللاعنفي من الجهتين العربية والإسرائيلية.

في رواية "أحجية إدمون عمران المالح"، تتسرب أفكار حول أحقية أبناء اليهود الصهاينة في أن يظلوا بأرض ميلادهم، وإن سندها الكاتب بحق العودة الفلسطيني!

هل ما جر الكاتب إلى هذا الموقع الغامض من المسألة الفلسطينية هو موقفه الخاص من القضية؟ أم هي رواية ما بعد الحداثة التي لا تقبل أن تكتب إلا باحتياطي كبير من الشك في كل شيء، وتستبعد كل يقينية وتعيد بأسلوب "انقلاب العين" قراءة ومساءلة ما تواضع عليه الجميع على أنه قيم وأفكار أبدية وحقائق؟ عند هذه النقطة بالذات يطل من جديد جورج باتاي "الأدب ليس بريئًا، فهو مذنب، عليه في النهاية أن يقر بذلك". ولكن كيف يمكن أن يعترف الأدب بذنبه وأي مفهوم للذنب الأدبي وهل تجوز محاكمة الأدب وهل الأدب يبقى أدبًا إذا تخلص من كل شره؟

اقرأ/ي أيضًا: رواية "قطف الجمر"... حكاية أرواحٍ معذّبة

تخرج من الرواية بترسانة من الأسئلة الجديدة المربكة لتنسف الرواية حتى تلك الحكمة التي استند إليها الكاتب في بداية الرواية والممهورة باسم عبد الفتاح كيليطو: "ينبغي التيه ليتحقق الوصول". فلا أرض يمكن أن تنزل إليها عندما تتوقف قاطرة السرد بالتي تعيدك إلى الجملة البدئية، تلك الجملة الرشوة التي وجهها غولدشتاين إلى ادمون عمران المالح: "مسيو عمران المالح، سنقدم لك عرضًا لا يمكن أن ترفضه، مرر رواية اليوم المقدّس إلى القائمة القصيرة وستحصل فورًا على شيك بعشرين ألف فرنك، وعقد غير مسبوق لنشر روايتك الأولى".

 

اقرأ/ي أيضًا:

عوالم الكتابة عند ليلى سليماني

مكتبة كريمة أحداد