04-أكتوبر-2023
نجيب أرزقي فرنسا والحجاب والعباءة

المجتمع المسلم في فرنسا غائب تمامًا، لأنه ببساطة قرر أن يوكل هذه الأسئلة، الأسئلة الاجتماعية، الأسئلة الأساسية، إلى أحزاب لا تمثله فعليًا (ألترا صوت)

في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجدل بإعلانه عن قانون مكافحة ما أسماه بـ"الانعزالية الإسلامية"، والذي قرأت فيه تحليلات وقتها، أنه لعبة انتخابية لإبعاد النقاش العام إلى خارج دائرة الاحتجاج الذي كانت تشهده فرنسا. ومع هذا الإعلان افتتح ماكرون مرحلةً جديدةً من سياساته، التي تقوم على مأسسة التنميط والتمييز العنصري الذي يستهدف الجالية المسلمة في البلاد، سامحًا لليمين المتطرف وخطابه الإعلامي بأن يعيشا أكثر أيامهما مجدًا، بل وأخذت حكومته تزايد على اليمين بأنه "ليس حازمًا كفاية" في مواجهة المسلمين. 

واستمرت هذه السياسية العنصرية وأصبحت السمة الأبرز للفترة المتبقية من حكم الماكرونية، وصولًا إلى إعلان وزير التعليم غابرييل أتال، مع بداية العام الدراسي الحالي، حظر ارتداء العباءة في المدارس على الطالبات المسلمات. وهو القرار الذي أتى في وقت تعيش فيه المدارس الفرنسية مشكلات هيكلية، كانت أجدر بالتطرق لها، كشح المدرسين والبنى التحتية المهترئة والعنف المدرسي الذي أصبح ظاهرة قاتلة. 

كل هذه معطيات، تدعو المراقب للسؤال حول ما وراء مثل هذه القرارات، وإلى أي مدى ستستمر سياسة ماكرون في الدفع بمسلمي البلاد كـ"أكباش فداء" لواقع بلاده المأزوم اقتصاديًا واجتماعيًا؟ وهل يمكن لمشاركة المسلمين في الساحة السياسية أن تحول دون تمرير إجراءات مماثلة؟ وهل الساحة السياسية الفرنسية مفتوحة أمام مشاركة المسلمين فيها؟ كل هذه أسئلة وأكثر، يحضر معنا للإجابة عنها نجيب أرزقي، المرشح الرئاسي السابق وزعيم حزب "الاتحاد الديمقراطي لمسلمي فرنسا"، في حوار حصري خصّ به "الترا صوت". 

نجيب أرزقي: أعتقد أن هناك استيهامًا حقيقيًا لدى الفرنسيين، وهو بعد أن استعمرت فرنسا لقرون عدة بلاد إسلامية، أصبحت تخاف في النهاية أن يمارس أحفاد هذا التاريخ نفس الأمور في فرنسا


  • كيف تقرأ قرار حكومة ماكرون الأخير بحظر ارتداء العباءة في المدارس؟ وكل هذه الضجة حول هذا اللباس؟ 

في رأيي، هذا القرار يمثل أمرين أساسيين: الأول هو أنه امتداد للسياسات اليمينية المتطرفة، التي تقودها الحكومة والنظام الماكروني في هذه الأثناء. بحيث رأينا أنه عندما انتخب إيمانويل ماكرون عام 2017، فقد حقق نجاحه ذاك بفعل أصوات الطبقات الشعبية، وكان يروج لنفسه على أنه "ليس مرشحًا لليسار ولا لليمين"، وأنه يدافع عن منظومة تكون أكثر مساواة.. هذا ما أدى إلى حصول خلط للأصوات (من اليسار واليمين)، وهنا فقدنا مرجع التمييز بين اليمين وبين اليسار، مع كل الآمال التي علقت عليه من أجل تحقيق تغيير في المنظومة.

لكنّ سرعان ما تغيّر كل هذا بعد انفجار أزمة السترات الصفراء، وانطلاقًا من هذه الأزمة الاجتماعية فهم ماكرون أنه خسر أصوات الطبقات الشعبية، وهو يدرك الآن هذا الأمر جيدًا وبالتالي توقف عن التعاطي مع الملفات الاجتماعية. ورأينا هذا على طول فترة حكمه؛ حيث لم يكن الفقراء في فرنسا أكثر فقرًا من هذه الفترة، ولا الأغنياء أكثر ثراءً منها. وهي بوضوح النتيجة الخالصة لأجندته الليبرالية، التي تصب في منحى الإجهاز على الطبقات الشعبية. 

عند هذه النقطة بالذات، فهم ماكرون جيدًا أن عليه المسارعة لتغيير سلاحه الانتخابي بشكل تام، وأن يتجه نحو مواضيع تقع في صلب خطابات اليمين المتطرف. وهو رهان ناجح بالنسبة له، وحسب ما نرى الآن هناك دفع حثيث للرأي العام نحو التطرف، إذ أصبح العداء لوجود جالية مسلمة على التراب الفرنسي يتسع باستمرار. وأصبح ينظر إلى المسلمين على أنهم ليسوا فرنسيين حقيقيين، وغالبًا ما يرددون على مسامعهم: "إذا كنتم غير راضين عن الوضع، ما عليكم إلّا الرجوع إلى بلدانكم الأصلية".

وخير دليل على ذلك، ومن الناحية السياسية، لم يتم إدماج المسلمين كأحد مكونات المجتمع الجمهوري، ولا زالوا يعتبرونهم كأجانب، وأن الحرية الوحيدة المكفولة لهم هي الإذعان للأوامر كي يتم قبولهم في البلد الذي ليس لهم. وبالتالي يختارون لهم حتى شكل الهندام الذي يجب عليهم أن يرتدوه، أو أي اسم عليهم أن يطلقوه على أطفالهم.  إذًا من الواضح أن القرار [منع ارتداء العباءة] متعلق بانحراف مجتمعي نحو التوجهات الهوياتية نتيجة الصعود الجارف لليمين المتطرف، وليس له أي علاقة بمبادئ جمهوريتنا العزيزة؛ بالحرية والمساواة والأخوة، ومناهضة التمييز، ومبدأ اللائكية الذي يُعدّ أداة تكفل حرية الضمير للجميع. الآن يتم الاستهزاء بكل هذه المبادئ [من طرف ماكرون وحكومته]، وهو ما نعيشه ولاية بعد ولاية رئاسية. 

getty

  • استنادًا إلى هذا التحليل، ما الذي تحاول حكومة ماكرون تمويهه بإثارتها ضجة حول لباس الطالبات المسلمات؟ 

في هذا الصيف شهدنا تعيين وزير تعليم جديد [غابرييل أتال] وهو متعطش جدًا للسلطة، بما أن طموحاته عالية جدًا، بالتالي وببساطة أراد تسجيل انطباع عنه عبر هذا القرار [حظر ارتداء العباءة في المدارس]، وهو يحقق نجاحًا حتى الآن بفضل هذه الاستراتيجية.

بتعبير آخر، ومن الممكن أن هذه الأخبار قد وصلتكم حيث أنتم في المغرب، بأن فرنسا تعيش الكثير من المشاكل المتعلقة بقطاع التعليم. على سبيل المثال، لدينا فصول دراسية مكتظة، ونواجه صعوبة في العثور على المدرسين، بسبب الأجور المنخفضة جدًا والإجهاد شديد الذي يعانون منه، وبالتالي لا أحد يرغب في أن يصبح مدرسًا. وهناك أيضًا شح كبير في الموارد الذي تعيشه المؤسسات التعليمية، وهناك مؤسسات تعمل في ظروف غير صحية. وحتى من الناحية الأمنية تواجه العديد منها مشكلات كثيرة. وفي الواقع، إذا أجرينا اليوم تدقيقًا للمؤسسات التعليمية العامة، لوجدنا أن عددًا من هذه المؤسسات أصبحت غير صالحة للعمل، ويجب أن يسحب منها الترخيص.

يضاف إلى هذا مشكلة الاعتداءات والتنمر التي يعاني منها الطلاب بشدة، ولا أعلم إن كانت هذه مشكلة فرنسية خالصة أو لها وجود مماثل في دول أخرى من العالم، لكنّ مستويات انتحار الشباب بسبب هذه الاعتداءات في تزايد مقلق. والوزارة المعنية تتجاهل هذه الظاهرة بشكل تام، وتفشل حتى الآن في إطلاق أي تحرك لمواجهتها. وبالتالي، ما ننتظره من الوزير هو العمل على هذه المواضيع المهمة، لكن مع ضجته الأخيرة بخصوص العباءة، أظهر بوضوح أنه يتجنب التعاطي مع المشاكل الحقيقية للقطاع الذي يقوده.

  • تقصدون أن الفتيات المسلمات، والجالية المسلمة ككل، تحولوا إلى "أكباش فداء" للوضع المتردي للتعليم في فرنسا؟ 

منذ بداية العام والحديث فقط عن "انزلاقات تحدث، وأن علمانية المدرسة الجمهورية أحد أولويات الحكومة"، بينما على الأرض نجد الطلاب ملتزمين بالمبادئ المعمول بها اليوم، أي أن الفتاة تصل إلى أمام المدرسة وتخلع الحجاب قبل أن تدخل. ولكنّ ما نشهده منذ بضع سنوات هو أن هذا النموذج لم يعد مناسبًا لفئة سياسية معينة، واليوم أصبح يُطلب من المعلمين بشكل منتظم الإبلاغ عن جميع الطالبات اللواتي يخلعن الحجاب عند دخول المؤسسة ويعدنه بعدها، على الرغم من أنهن يحترمن بشكل كامل قوانين الجمهورية. وبالتالي، فمنذ اللحظة التي يكون فيها الإجبار على الإبلاغ بشأن هذه الطالبة أو تلك، يجب علينا أن نطرح أسئلة حول جوهر هذا الأمر. 

هناك قضية أخرى، ففي آخر عيد أضحى طُلب من المدرسين والمؤسسات تسليم ملفات الطلاب الذين لم يحضروا المدرسة يوم العيد. في حين أن الأمر لا يتعلق بغياب عن حجرات الدرس، بل هو حق مكفول في القواعد المعتمدة (في المدرسة الفرنسية)، وتم منحه من قبل الدولة لمعتنقي ديانات معترف بها؛ ففي حالة الديانة المسيحية بالطبع تشمل الاحتفالات الجميع، سواء في أعياد الميلاد وعيد الفصح.. إلخ، وهي على أي حال أيام عطل مدرجة على أي حال في التقويم الفرنسي. ولدينا مواطنون يهود، ولهم عدة أيام يحتفلون فيها بأعياد دينية، ولا يعد تغيبهم مسألة غياب بل هو حقهم، أي أنه على أساس اتفاق مع الدولة لديهم الحق في عدم الذهاب إلى المدرسة في ذلك اليوم، بل ويتم تأجيل بعض الامتحانات للسماح لهم بالاحتفال دون أن يتعرضوا للتمييز بناءً على جدول مدرسي. لكن في حالة المسلمين نلاحظ أن هذه المعاملة تختلف بشكل كبير، بل هي متباينة لعلة واحدة ورئيسية هي أنهم مسلمون.
حاليًا، وفي الوقت الذي يجب أن يتمتعوا فيه بنفس الرعاية [على غرار معتنقي الديانات الأخرى]، يتم التنميط والتمييز ضد المسلمين في فرنسا، من خلال توجيه اتهامات زائفة لهم بخرق المبادئ الدستورية. وهذا يعد دليلًا آخر على أن المسلمين لا يعتبرون بعد مواطنين حقيقيين بكل معنى الكلمة [من قبل الطغمة الحاكمة في فرنسا]، وهذا بالنسبة لنا مشكلة حقيقية وتناقض حقيقي. لذا، كل هذا الجدل حول العباءة يتمثل ببساطة مرة أخرى في محاولة لجذب الناخبين بإظهار أن المواطنين من الديانة الإسلامية هم خطر من الداخل، وأعداء من الداخل، وهذا بالنسبة لنا أمر مقلق للغاية.

getty

  • وكيف يؤثر هذا على حياتكم كمسلمين؟ 

بوضوح، هنا نشعر حقًا بأننا نواجه تمييزًا عرقيًا. اليوم، وإذا نظرنا إلى استخدام مصطلح "Aabaïa"، والذي يعني ببساطة "ثوب" أو "لباس" باللغة العربية، في نظري هو استخدام غريب. وعلى نفس المنوال، استخدام مصطلح "Khamis" الذي يعني ببساطة قميص، وموجود حتى بالإسبانية وينطق "Camisa". هل تنقص اللغة الفرنسية مصطلحات لتسمية تلك الألبسة؟ لا أظن ذلك، لذا نرى بوضوح أن هناك رغبة في تضليل الفرنسيين بشكل معين. يعني أنهم يقدمون العباءة على أنها تقريبًا نوع من البرقع الديني، مع العلم أن اليوم لدينا علامات تجارية كبيرة تسوق فساتين مستوحاة من الأزياء الشرق أوسطية، وهي واحدة من الصيحات التي تنتشر اليوم في الغرب، وفي الولايات المتحدة، وفي فرنسا على وجه الخصوص، وفي دول أخرى. وبالتالي، يتأثر عدد من الأشخاص بهذا النوع من الموضة. وحتى الآن، لا يستهدف هذا القرار الأشخاص المتدينين، والذين قد يرتدون هذه الألبسة لأسباب دينية بحتة، بل إنه يستهدف صيحة معينة وذوقًا في الأزياء. بالمقابل، نرى هنا التناقض الذي تكتنفه القضية، هو أن لدى فرنسا مشكلة حقيقية فيما يتعلق بالظهور والتأثير على فئة كبيرة من المواطنين. يعني أننا موافقون أن تتأثر الأزياء لدينا، بالأزياء التي تكون حصرًا غربية وأوروبية، ولكن من اللحظة التي يأتي فيها النمط من خارج هذا العالم "الحضاري" في نظرهم، يتولد لدينا شعور بأننا قد نُستَعمَر.

أعتقد أن هناك استيهامًا حقيقيًا لدى الفرنسيين، وهو أنه بعد أن استعمرت بلادهم لقرون عدة بلاد إسلامية، أصبحت تخاف في النهاية أن يمارس أحفاد هذا التاريخ نفس الأمور في فرنسا. لكن ما يجهلونه هو أنه لا وجود لثقافة الانتقام في تاريخنا، وفي هويتنا وأخلاقنا. نحن لا نأتي لنحل محل أحد، ولا نأتي لفرض أي شيء، نحن هنا ببساطة كمواطنين، نعيش بجوار أشخاص يختلفون كثيرًا عنا في بعض الأحيان، وهذا جوهر قوتنا. وخير دليل على ذلك هو كيف عاش إخواننا اليهود بيننا، وكيف عشنا معهم في وئام وأخوّة وتقدير متبادل، هذا هو ما يشكل أخلاقنا. والاعتقاد بأنه إذا ارتدينا الحجاب، فإننا سنفرض الحجاب على جميع النساء اللاتي يتجولن في الشارع، هذا يعد تشويهًا للحقيقة، ويعود في الواقع إلى خيال مستمد من التاريخ الاستعماري، أي أنهم يعتقدون بأن الظلم الذي ارتكبوه [فينا]، سنقوم بتصحيحه في مكان ما عن طريق فعل نفس الشيء، يعني بفرض ثقافتنا ووجودنا. بينما نحن، ببساطة، كمواطنين فرنسيين، نطالب بأن نُعترف ويتم قبولنا كفرنسيين، وأن نحظى بنفس الحقوق ونفس الحريات ككل شخص آخر.

عندما تحدثت عن التمييز العرقي، فإنني أعني أنه اليوم في المؤسسات التعليمية سيتم استهداف الفتيات القادمات من أوساط فقيرة وخلفيات ثقافية غير بيضاء، لأن هذه الملابس تُباع اليوم في المتاجر الكبيرة مثل "H&M"، لذلك لا تكلف كثيرًا وسهلة الارتداء ومريحة للغاية، وهو ما يجعل جميع الأشخاص يقبلون على هذا النوع من الملابس، فأصبحت موضة. ولكنّ، إذا كنت من أتباع الديانة الإسلامية، يعني أنك ترتدي الحجاب، سيختلف الأمر ويُنظر إليها كملابس دينية. وحتى إذا لم ترتدي الحجاب ولكن أمك ترتدي الحجاب، فبالضرورة سيتم ربط العلاقة وبالتالي ستتعرض للتمييز، ولن تتمكن من دخول المدرسة، بناءً على حقيقة أنك عربي أو أفريقي أو تركي أو غير ذلك. بالمقابل هذا لن يكون الحال بالنسبة لشخص يتصف بأنه "فرنسي أصيل"، والذي لا ينتمي إلى المجتمع المسلم، إذ ستعتبر مجرد ملابس عصرية. وبالتالي لدينا هنا تمييز عرقي حقيقي يشكل بالفعل مشكلة حقيقية، ويخلق سابقة في مبادئ المساواة التي تدعو إليها الجمهورية وتدعو إليها فرنسا. 

من الناحية القانونية، سيظلون يحتمون وراء حجة أن العباءة علامة دينية بارزة، لأنه يُحظَر استخدام الرموز الدينية البارزة في المدرسة. ولكن مصطلح "بارز" لا يعني، قبل كل شيء، التعبير عن سلوك. بل يعني أن شخصًا لديه ساعة Rolex، مثلًا، إذا كان لديه ساعة Rolex ولكنه ليس هنا ليعرضها كما يفعل ساركوزي، فلن يكون هناك أي مشكلة. ولكن من اللحظة التي يصبح فيها ارتداء الساعة للترويج لها بشكل رئيسي، حيث تصبح فعلًا أداة للمطالبة والمس بالنظام العام، هنا يتدخل مدير المدرسة بمعاقبة الطالب على هذه الممارسات، واتخاذ إجراءات تأديبية في حقه. ولكن بأي حال من الأحوال، لا يمكن أن يبرر هذا المصطلح القانوني منع ارتداء ملابس معينة، وبدرجة أقل من ذلك، استهداف فستان بعينه لأن شكله يميل الى أنماط اللباس في الشرق الأوسط، لأنه وحده لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمس النظام العام.

getty

  • بعد الانتخابات الفرنسية الأخيرة، لاحظنا صعودًا للمعارضة اليسارية لتصبح القوة المعارضة الأولى في البرلمان، لكن بالمقابل لم نرى الكثير من النواب المسلمين يدخلون قبة الجمعية الوطنية. هل تعتقدون بأنه لو كان النواب المسلمون أكثر، كانوا سيشكلون سدًا أمام مثل هذه القرارات؟ 

تعاني المجتمعات المسلمة في فرنسا من شعور بنوع من العقد، ويمكننا فهم ذلك في سياق تاريخنا. والإشارة هنا إلى تاريخ الاستعمار، من زاوية معينة مبنية على الهيمنة الاستعمارية. لذلك، صحيح أن تعبر عن نفسك كإنسان مسلم، متشبث بهويته الدينية الإسلامية ومواطنته الفرنسية، لا يزال بالنسبة لبعض الأشخاص أمرًا متناقضًا. ربما لأنهم يخشون اتهامهم بممارسة الإسلام السياسي، وكما تعلمون، هذه هي الكلمة التي أصبحت رائجة اليوم، لدرجة أن تهمة "الإسلاموية اليسارية" أصبحت تلاحق الحركات التي تناهض بشكل أكبر أو أقل التمييز الذي يستهدف المسلمين. لذا، علينا أن نفهم بأن عزوف الكثير من المسلمين عن الترشح والكثير من الأحزاب على ترشيح المسلمين يأتي لخشيتهم من التهم المتوقعة. 

وهذا هو السبب الذي أسسنا من أجله الاتحاد الديمقراطي للمسلمين الفرنسيين (UDMF)، لاعتقادنا بأنه يجب علينا أن نتشبث بإسلاميتنا بشكل جيد، ونكون فخورين بها، ولا نحملها كعبء أو كجرح. أما بالنسبة للاتهامات المزعومة، فيجب أن نكون صريحين وصادقين في مواجهتها. بالنسبة لي شخصيًا، لا أعير لهذه الاتهامات أهمية بالغة، كأن يقال عني أنني إسلامي، أو أن يقال بأنني خطر محتمل. أعني، إذا كنا لا نريد أن نتعرض للهجوم، فلا يجب علينا أن نمارس السياسة.

وهنا يكمن التناقض، بمعنى إذا كنا نشارك في السياسة، فإننا في دولة ديمقراطية، أي هناك أشخاص ليسوا على استعداد للتصويت لصالحنا، وهذا أمر طبيعي، إنها القاعدة، والأشخاص الذين يجدون تمثيلًا لهم، فلديهم الحرية تمامًا للتصويت لصالحنا إذا رغبوا في ذلك. بالمقابل فضل الكثيرون (من الفاعلين السياسيين المسلمين) التفاوض، خاصة  مع حركة "فرنسا الأبية"، في محاولة منهم لتجنب التعرض لانتقادات حول إسلامهم. يعني، لدينا على سبيل المثال شخصية مثل ميلينشون، الذي ندم على تصريحاته حول رهاب المسلمين وحول النساء اللاتي يرتدين الحجاب، والذي قال خلال الحملة، "أنا آسف، لم أكن أعرف ماذا يعني رهاب المسلمين، حسنًا، فهمت الدرس الآن"، ولكثيرين كان هذا كافيًا (لدعمه). 

نحن، ما أوضحناه (خلال مفاوضاتنا مع تحالف اليسار) هو أنه يجب أن نكون مسؤولين اليوم عما يقوم به الأشخاص على أرض الواقع، يعني، بعيدًا عن البيانات والوعود، يجب أن نرى بشكل عملي تقييم أداء هؤلاء الأشخاص. تحدثنا عن ذلك في صحيفة لوبريزيان، وتبع ذلك مفاوضات أوسع بكثير عندما تشكل التحالف (NUPES)، مع جميع التوجهات اليسارية. 

لكنّ خلال هذه المفاوضات، تم تجاهل جميع المنتخبين في الأحياء الشعبية. لذلك، في اللحظة التي يتم فيها لعب الأوراق، نجد أنفسنا في النهاية، كما ذكرت، بوجه لا يمثل على الإطلاق ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، أي مجتمع متنوع بشكل حقيقي، يقبل جميع ملامحه المختلفة. وهنا، نرى بوضوح أن المجتمع المسلم مرة أخرى غائب تمامًا، لأنه ببساطة قرر أن يوكل هذه الأسئلة، الأسئلة الاجتماعية، الأسئلة الأساسية، إلى أحزاب لا تمثله فعليًا. لأن الفرق الحقيقي بين اليسار واليمين، هو أن اليمين يحتقر بوضوح، يحتقر فعليًا وجود المسلمين، ويتبنى موقفًا يشعره بالقدرة على توجيه وتحسين سلوك المسلمين بطريقة معينة. من ناحية أخرى، على جهة اليسار واليسار المتطرف، هناك سلوك مختلف، حيث يقولون إنه لا يجب على الجمهورية أن تمارس المنع [ضد المسلمين] لأن ذلك قد يؤدي إلى تزايد التوترات.

  • هل هذا يعني أن اليسار لا يختلف عن اليمين في نظرته التنميطية لمسلمي فرنسا؟

ما أعنيه هو أن الأحزاب اليسارية تتبع نهجًا أكثر غموضًا، حيث يقولون: "اتركوهم، اسمحوا لهم بالاندماج في مجتمعنا، اسمحوا لهم بالالتحاق بالمدرسة وغيرها، وسيكتشفون الأمور، سيتعلمون، وفي النهاية سيقررون بأنفسهم خلع الحجاب". أتذكر كلام فرانسوا هولاند الذي كان يقول "لا يجب أن نمنع الحجاب عن النساء المسلمات، أريد أن تقرر النساء المسلمات بأنفسهن خلع الحجاب". في الواقع، هنا تكمن وجهة نظر هذا الجزء من اليسار، الذي يقول في الواقع "اتركوهم وسنقوم بتثقيفهم بطريقة معينة، وفي النهاية سيدركون أن ما يرتدونه هو منشفة وسيخلعونها". لذلك، في أي وقت من الأوقات، لا يدعمون حقوق وحريات هؤلاء النساء.

ومنذ بضعة أيام، شاهدنا مثالًا على ذلك مع ساندرين روسو (نائبة برلمانية عن حزب الخضر)، التي ظهرت على التلفزيون وتحدثت عن الحجاب في سياق العودة المدرسية. وسُئِلت عن منع العباءة، فردت بأن ذلك ليس شيئًا طبيعيًا وأنه من المحزن الوصول إلى هذا الحد، وقالت: "انظروا، كم عدد الأشخاص الذين يتعلقون بهذا؟ 280 فتاة فقط"! وبالتالي، فهذا يعني شيئًا واحدًا، إذا صح التعبير، كأنها تقول: "انظروا، أغلبية المسلمات لم يحضروا بالعباءة، لذلك المشكلة تكمن في هؤلاء الـ 280 فتاة، إنها ليست مسألة كبيرة، 280 فتاة ليست شيئًا يذكر!"، بينما في الواقع، حتى لو كانت هناك فتاة واحدة فقط ترتدي العباءة وتتعرض للتمييز، فإن ذلك مشكلة حقيقية، لأنه يجب أن نبين لهذه الفتاة أنها مواطنة فرنسية بكل معنى الكلمة، وأن لديها الحق في ارتداء ملابس تراعي ذوقها، وأنها يمكن أن تكون فخورة بذلك لأن الجمهورية تسمح لها بهذا، وتحميها في هذا الصدد.

وبالتالي، كما ترون فإن اليسار في الواقع، بما في ذلك اليسار الحالي، ليس هنا لتمثيل المواطنين من المسلمين، بل على العكس من ذلك، هو هنا مرة أخرى لاستعبادهم. لذا، يجب على المسلمين اليوم، في الساحة السياسية، أن يؤكدوا بوضوح وجودهم وأن يتحملوا بكل فخر هويتهم الإسلامية ومواطنتهم الفرنسية دون الانشغال بكيفية تصويرهم، وكيف ستتم محاكمتهم وكيف سيتعين عليهم الدفاع عن أنفسهم. نحن فرنسيون أم لا؟ فمنذ اللحظة التي نكون فيها فرنسيين، ليس لدينا حاجة كبيرة للتبرير بشأن خياراتنا، وطريقة حياتنا، وأساليبنا في العيش، وثقافتنا.

  • كسؤال أخير، هل توجد عراقيل أمام مشاركة الجالية المسلمة في فرنسا في العمل السياسي؟ 

أكبر عقبة تقف في وجه المشاركة السياسية، لدينا كمسلمي فرنسا، تأتي في الواقع من طريقة تفكيرنا. فإذا شعرنا بأننا معقدون، وإذا كنا نعتقد أن الاستراتيجية الوحيدة التي نملك هي محاولة عدم لفت الانتباه لكي نحظى بالقبول. وإذا كان لدينا مطالب بحجم وضع حد للكراهية والتمييز اللذين يستهدفاننا حصرًا، ولهما تأثير علينا بشكل مباشر. وإذا كنا نتردد بالفعل في رفع هذه المطالب، خوفًا من أن نتعرض لـ "محاكمات الساحرات"، فإن ذلك يعود إلى أن لدينا ثقافة سياسية لا تعمل بشكل جيد. 

ولا أقول إنها ثقافة سياسية سيئة، لكنها لا تعمل بشكل جيد، لأن وجودها يعني أننا قد استوعبنا الدرس إلى حدِّ ما، وفهمنا أن الكثيرين ممن يدعوننا كي نمارس السياسة إلى جانبهم، يقولون لنا إنه يجب أن نتحدث عن كل شيء باستثناء ما يخصنا مباشرة، مثل الإسلاموفوبيا، وكراهية المسلمين، والإقصاء، وتصاعد اليمين المتطرف، وما إلى ذلك.. ولنتحدث عن أمور أخرى حتى لا نُعتبر فئويين (Communautaristes).

نجيب أرزقي: يجب الآن على المجتمع المسلم أن يعترف بحقه في التحدث حصرًا عن المشكلات التي تؤثر على المسلمين

وأغرب ما في الأمر، هو أننا قد نكون المجتمع الوحيد في فرنسا الذي يتفاعل بهذه الطريقة. إذ لدينا اليوم أحزابٌ عديدة ومتنوعة، منها حزب يدافع حصرًا عن رفاهية الحيوان. إذ لا يتساءل أعضاء هذا الحزب عن مدى تخصيص مطالبهم وحصرها لقضية الحيوان، ولا يفكرون حتى في ماهية انطباعنا عنهم، هم يؤمنون بأن لديهم الحق في التحدث عن رفاهية الحيوان، ولذا يستطيعون جعلها فعلًا هدفهم. ولدينا حزبٌ يدافع حصرًا عن مشاكل الأرياف، ومرة أخرى، هو لا يدعي أنه يجيب على جميع المشكلات في المجتمع الفرنسي. ومع ذلك، يشعر بأنه مخول تمامًا للتحدث عن هذه المشكلات. 

يجب الآن على المجتمع المسلم أن يعترف بحقه في التحدث حصرًا عن المشكلات التي تؤثر على المسلمين، هل لنا الحق في ذلك؟ وإذا كنا أصحاب حق، فلماذا نعاتب؟ فالدعوة لحقوقنا وحرياتنا الدستورية، مرة أخرى، ليست ممارسة للإسلام السياسي. لذا، علينا اكتساب النضج الكافي ونتجاوز هذه الاتهامات. وهو ما نحاول فعله، على الأقل، لإظهار قيمتنا المضافة على الساحة السياسية من خلال تسليط الضوء على وجود خيار آخر ممكن، وأن سياسة مختلفة ممكنة. لكنّ هذا سيستغرق بعض الوقت لنجني ثماره، وربما ستتمكن الأجيال القادمة من متابعة نفس المسيرة بشكل أكثر سهولة منا.