27-مارس-2021

تصعيد جديد ضد الجامعة الفرنسية (Getty)

ما هو إلا شهرٌ عن الجدل الذي أثارته وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسية، فريدريك فيدال، حول محاربة "اليسارية الإسلامية" التي وحسب ما صدحت به تحت قبة البرلمان الفرنسي، "أصبحت تنخر  جسد البحث العلمي بالبلاد". ها هو ذا زميلها في الوزارة، وزير التعليم الفرنسي، ميشيل بلانكي، يتخذ الجامعة مجددًا ساحة لهجوماته على "الاتحاد الوطني  لطلبة فرنسا"، النقابة الطلابية اليسارية التي اتهمها بالتمييز العنصري، في ما يبدو على أنه فصل آخر من حرب تشتد، حوَّلت فيها حكومة ماكرون المؤسسات الأكاديمية إلى حلبة لتصفية حسابات مع خصومها السياسيين، ومع اليسار على وجه أخص.

تنضاف هجومات بلانكي تلك على النقابة الطلابية إلى تصعيدٍ سياسي ممنهج تقوده حكومة إيمانويل ماكرون على الجامعة الفرنسية

عنصريون ضد العنصريَّة

أطوار قصة بلانكي والنقابة الطلابية تعود ليوم الأربعاء الماضي، 17 آذار/ مارس الجاري، حين صرحَّت رئيسة "الاتحاد الوطني  لطلبة فرنسا"، ميلاني لوس، في برنامج بث على أمواج راديو  Europe1قائلة: "بعض اللقاءات التي ننظمها لصالح الأشخاص ضحايا الميز العنصري الحضور فيها حصري لذوي البشرة الملوَّنة". مشددة كونها لقاءات للحديث عن تجارب الضحايا حفاظًا على مساحة أكبر لتعبيرهم، ولا تتخذ خلالها أي قرارات من أي نوع، بل "إن كلَّ قرارتنا تتخذ في اجتماعات مختلطة".

اقرأ/ي أيضًا: حوار| آلان غريش: الإسلام في فرنسا لا يزال موضوعًا استعماريًا

توضيحها ذاك، لم ينجها من انتقادات، كان حديث بلانكي على رأسها. فردًا على كلام لوس، خرج وزير التربية والتعليم الفرنسي لللإعلام مدينًا ما قالته، ومتهمًا الاتحاد المذكور بـ "العنصرية"، قائلًا: "نحن في الجمهورية الفرنسية، وهذه الجمهورية تقوم على مبادئ لا يجب المساس بها، حيث لا نفرِّق بين الناس على أساس لون بشرتهم". قبلَ أن يخلصَ للهجة الوعيد: "بصفتي وزير التعليم كلمَا وقفت على خرق كهذا سأحمله للقضاء من أجل الفصل فيه، كما سأبحث في  إجراء تشريعي للحد من هذه الممارسات".

فيما تحدَّث الإعلام الفرنسي الأربعاء الماضي عن مذكِّرة وزارية سريَّة، موَّجهة إلى الإيليزيه، تقدِّمُ تقريرًا عن الجدل الحاصل، واصفة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا بـ "النقابة التي جنحت عن الطريق منذ عشر سنوات"، و"لا تلتزم بالمبادئ الجمهورية التي تقدمُ نفسها كمدافع عنها"، كما "حادت عن النضال ضد الحكومة لتتفرَّغ إلى نقاش القضايا الاجتماعية".

إثرَ هذه الضجة التي أثارتها ردود وزير التعليم الفرنسي، وضَّحت النقابة على صفحتها في تويتر بالقول:" لا وجودَ لاجتماعات تستثني أصحاب البشرة البيضاء عندنا"، نحن "ننظمُ مجموعات حديث، مخصصة للأشخاص الذين يعانون من الميز وتتم بكفالة حرية حديثهم"، هذه المجموعات التي "تأخد مواضيع عدة للمناقشة، تنظَّمُ مرَّتين كلَّ سنة"، حيث تنفي النقابة أي "تحديد للولوج إليها على أي أساس عنصري"، مع ضمان "حجب هوياتهم حفاظًا على سلامة هؤلاء الضحايا".  بينما إثرَ تصريحاتها، تعرَّضت ميلاني لوس إلى حملة تشهيرٍ كبير، قذفت فيها بألفاظ مهينة وتمَّ المس بكرامتها، بل وتعرضت إلى تهديدات بالقتل والاغتصاب من أشخاصٍ عَرفوا أنفسهم بـ "القوميين البيض".

"اليسارية الإسلامية" تهمة أخرى لمحاربة الجامعة الفرنسية

تنضاف هجومات بلانكي تلك على النقابة الطلابية إلى تصعيدٍ سياسي ممنهج تقوده حكومة ماكرون على الجامعة الفرنسية، وفي هذا الإطار تدخلُ كذلك الضجة السابقة التي أثارتها زميلته في الوزارة، وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي، فريدريك فيدال، حين طلبت في جلسة برلمانية من "المركز الوطني للبحث العلمي" إجراء تحقيق في مجموع الدراسات والأبحاث التي تجريها الجامعة الفرنسية، من أجل الفصل فيها بين "ما هو متعلِّقٌ بالبحث العلمي المحض"، وما "له علاقة بالنضالِ السياسي".

 معلنة بذلك مواجهة ينصبُّ عداؤها على خصم  لم تسمه لفظًا تحت قبَّة البرلمان، غيرَ أنها سبقت وحددت من تضعهم نصب عينيها بهذه المواجهة، في لقاء لها على قناة CNews، حين شبّهت ما دعته "اليسارية الإسلامية" بـ "داء الغرغرينا" الذي "ينخر الجسد الاجتماعي الفرنسي والجامعة ليست في منأى عن خطره". دُعاته هم "أقليّة من هيئة التدريس والبحث"، إذ "نلاحظ أن هذه الأقلية تستغل موقعها لنشرِ أفكارَ متطرّفة ونقل مبادئ نضالية بأداة البحث العلمي"، حسب ما تزعمه الوزيرة. مضيفة وعيدها ذاك في  حوار خصَّت به الأسبوعية الفرنسية Journal du Dimanche، قائلة: "علينا رفع النقاش!".  وتسترسل بـ "أننا نحتاج لكشف حالة البحث العلمي والموضوعات المتطرّق إليها بالدراسة داخلَ الجامعة الفرنسية"، كما محاربة تلك "الهجومات على الحرية الأكاديمية وحريّة التعبير في عمومها"، ففي بعض المؤسسات "هناك أساتذة انتزعت منهم حريَّة اختيار مواضيع دروسهم"، في هذه الحالة "لا يمكننا الوقوف والقول بأن هذا لا يهمّنا!".

فيما ليست هذه التهمة، كما سبق وأوضحها لـ "ألترا صوت" الأكاديمي وعالم السياسة الفرنسي فرانسوا بورجا، "إلا تسمية قدحية يعير بها المنتمون إلى صفوف اليمين أولئك الذين يوافقونهم الرأي في تجريم المسلمين". ويضيف بورجا: "إن من يتهمهم اليمين المتطرف بـ "اليسار الإسلامي"، هم من يعارضون التوزيع الأحادي للمسؤولية في العنف السياسي الذي يقوم به خصومهم في اليمين التقليدي، وهم الذين يعلنون أنه ليست هناك نجاعة في  محاربة الإرهاب دونما الأخذ بعين الاعتبار العنف المتأصل في السياسات، محلِيّة كانت أو خارجية".

بلانكي هو الآخرُ لم يغفل عن توظيف توصيفَ "اليسارية الإسلامية" ضربًا في خصومه، معلنًا في حوار خصَّ به الشهر الماضي قناة  BFMTV، أن "الإسلاموية اليسارية" ظاهرة "يجبُ النظرَ إليها كواقع" دون الإصغاء إلى "من يحاولون التقليل من حجم هذا المشروع الأيديولوجي"، ضاربًا المثال عليها بوجود "ورشات غير مختلطة تنظّمها نقابة جنوب باريس الجامعية" كما "منعوا عرضًا مسرحيًا لأسخيليوس". في إشارة إلى حادثة وقعت سنة 2019 حيث منع طلاب جامعة السوربون عرض مسرحية المتضرّعات لأسخيليوس، بدعوى أن إخراجها تضمَّن إيحاءات عنصريَّة.

"مضيفًا بلهجة الاتهام أن "المتطرفين الإسلاميين عادة ما يجدون شركاء لهم من أقصى اليسار"، معللًا هذا الاتهام بأن "شخصًا كجان لوك ميلانشون الذي شاركَ في مظاهرة نظَّمتها جمعية مناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا، وتواجدَ خلالها عدد من الوجوه المتطرّفة، فهو واقع في الإسلاموية اليسارية دونَ شك". وليست هذه أول مرَّة يوجه فيه وزير التعليم الفرنسي هذه الاتهامات لأقصى اليسار  متمثلًا في حركة "فرنسا الأبيّة"، ولشخص زعيمها جان لوك ميلونشون. فقبلَها، ذات تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، صرَّح بلانكي واصفًا إيَّاهم بـ "الشركاء الثقافيين" في مقتَل صامويل باتي، المعلّم الفرنسي الذي راح ضحيّة الجريمة الإرهابيَّة السنة الماضية. ومحذرًا من أن "الإسلاموية اليسارية" أحدثت اختراقًا كبيرًا في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا، كما في صفوف "فرنسا الأبيّة".

وراء الهجوم على اتحاد طلبة فرنسا.. خرقٌ سلطوي!

عدد من النواب البرلمنيين، من فرق اليمين المتطرّف والجمهوري، كما من جانب الأغلبية الحكومية، انخرطوا في المطالبة بتقديم اتحاد الطلبة للقضاء، لما يقوم به حسب زعمهم من "مساس بالمبادئ الجمهورية". الواقع الذي أدانه اليسار الفرنسي، وحمَّل مسؤولية تأجيجه إلى ادعاءات وزير التعليم ميشيل بلانكي "المستفزة"، معتبرًا إياها: "خيطًا تشبَّث به المدافعون على أطروحات التفوق الهوياتي والقومي، والعنصريون!"، كما "تستهدف (ادعاءات بلانكي) اليسار بشكل خاص، الذي لطالما كان حامل مشعل النضال ضد الميز العنصري ومعاداة السامية". كان ذلك في بيان نادى فيه الحزب بـ " التحرك ضدَ هذه الهجومات اللاديموقراطية ضد اتحاد الطلبة"، مؤكدًا دعمه "اللامشروط" لطلبة فرنسا واتحادهم النقابي.

بالنسبة لجان لوك ميلانشون، زعيم حركة فرنسا الأبية، فـ "الهجومات التي تعرَّضت لها نقابة اتحاد طلبة فرنسا، والتي بلغت حدَّ المطالبة بحلها، دليلٌ على نجاح التكتيك الجديد الذي يتبناه اليمين المتطرف في فرنسا". هذا الهجوم كان موجَّهًا من أطواره الأولى، "منذ بداية الجدل داخل الاستوديو الذي استضاف رئيسة الاتحاد" يضيف ميلانشون في مقال نشره على مدوَّنته، "حيث لم تتمَّ استضافتها للحديث عن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي يعيشها الطلبة بل لما يجري داخل مجموعات الحوار الداخلية للنقابة"، وجرّ النقاش لـ "تأجيج روح الانتقام ضد المنظمة الطلابية". معلنًا "في وجه هذا الإجهاز العنيف على اتحاد الطلبة، أدعو القراء إلى الانضمام إلى دعوات التضامن النقابي مع الاتحاد". 

ميلونشون الذي في نظر وزير التعليم الفرنسي " شخصية يسارية إسلامية"، لم يصمت ضدَ هذه الاتهامات التي تنهال على اليسار، لينطقَ محتجًا على الخرجات السابقة بالقول:"نحن في فرنسا ولسنا في إيران"، معتبرًا أن ما يحدث يقعُ ضمن ما سماه "فن المكرونيين" (نسبة إلى رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون)، أولئك الذين يهدفون إلى "حظرِ التفكير عن الناس"، وبالمقابل "تعميم استيهاماتهم على أنها حقيقة" و "إشغال الرأي العام بأشياء لاوجود لها على أرض الواقع" في "احتقارٍ تام لذكاء الفرنسيين".

مضيفًا: "يريدون من وراء استثارة هذا الجدل وضع قدم داخل الكتلة الناخبة لليمين المتطرف، وإيهامهم على أنهم أكثرُ يمينيَّة من التجمُّع الوطني،  هم في الحقيقة يستخفون بذكاء حتى هؤلاء الناخبين، على اختلافي الجذري معهم". ومذكِّرًا بتصريح وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، الممجدة للمرشال الفرنسي النازي بيتان والتي اعتبرته "جنديًا فذًا". يربطُ ميلانشان ما يقع الآن بجرائم حكومة فيشي، حيثُ "تم تحريضُ الرأي العام لكراهية اليهود وضرب القوة الوحيدة التي كانت تقاومهم، اليسار، بالتحريض ضدها  ووسمها باليهودية البلشفية". إذًا، "هي نفس الطريقة الإجرامية" يقول زعيم الأبيَّة، "التي تقوم بها حكومة ماكرون الآن، ونفس الربط بين ديانة يلصقون بها تهمة الإرهاب، وبين اليسار الذي يقف في وجه ادعاءاتهم العنصرية". هذا وختم حديثه بالدعوة إلى استقالة وزيرة التعليم العالي.

الأكادميون يرفضون إقحامهم في حرب سياسية

بالنسبة للمركز الوطني للبحث العلمي، الهيئة المكلّفة بإجراء التحقيقات التي طلبتها الوزيرة فيدال، فإنها ترفضُ الزجَّ بالبحث العلمي في معمعان الجدل السياسي القائم. هذا ما عبَّرت عنه في بيانها، الذي افتتحته بالقطع أن "مصطلح الإسلاماوية اليسارية لا يعبّر على أي حقيقة علمية"، ثم يسترسل مدينًا "استغلاله في وضع البحث العلمي تحت طائلة التحقيق، والمساس بالحريَّة الأكاديمية". كما أدان كذلك "توظيفه لتشويه صورة بعض الهيئات الأكاديمية، ومحاولة نزع الشرعية عن عدد من ميادين البحث العلمي"، مثلَ "دراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات التقاطعية، وتلك التي تتخذ الميز العنصري والجندري مضوعًا لأبحاثها" كما يعدد البيان. مؤكدا على أن دور المركز هو "تركيز قدراته البحثية لدعم الابتكار والبحث في حلول تستجيب لتطلعات المجتمع، خصوصًا في فترة الأزمة الصحية التي تمر بها البلاد، لا الغوص في هذه الضجة السياسية". فيما دفع هذا الموقف أعضاء الحزب اليميني المتطرف إلى الامتعاض، هكذا علَّق مرشح سابق لهم بـ"أنهم يرفضون استعمال مصطلح الإسلاموية اليسارية بالمقابل يدعمون الدراسات حول التفوق العرقي الأبيض"، وأضاف في سخرية معتبرًا  "تكليف المركز  الوطني للبحث العلمي  بالتحقيق في الأمر،  كمثل أن تكلف مافيا الألكابوني بالتحقيق في تجارة المخدرات".

 أزيد من 800 أكاديمي فرنسي، ضمنهم المنظِّر الاقتصادي توماس بيكيتي والمفكرة ساندرا لوجيي، طالبوا في عريضة احتجاجية نشرت في جريدة Le Monde، باستقالة فريديريك فيدال

نفس موقف المركز  تبناه أزيد من 800 أكاديمي فرنسي، ضمنهم المنظِّر الاقتصادي توماس بيكيتي والمفكرة ساندرا لوجيي، وعبروا عنه في عريضة احتجاجية نشرت في جريدة Le Monde، من خلالها "يطالبون بقوة باستقالة فريديريك فيدال". مؤكدين على أن هدف الوزيرة بإطلاق هذه الضجة هو "تشويه سمعة مهنة من المفترض أنها تنتمي لها"، وأن هذا القرار  هدفه هو "إعادة إنتاج بولسونارو في البرازيل وأوربان في المجر  حيث يتم استهداف كل الدراسات ما بعد الكولونيالية أو حول التمييز العرقي". معتبرين أن الأمر "نذالة ووقاحة من وزيرة أدارت وجهها عن المعاناة الحقيقية للطلاب خلال فترة الجائحة"، كما هي "مس صارخ بحرية ممارسة البحث العلمي" ومحاولة إشاعة "جو من الرعب داخل الحقل المعرفي والترهيب لشغيلة القطاع". ولكل هذه الأسباب يخلصون في الأخير إلى المطالبة بتقديم الوزيرة استقالتها المستعجلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 "اليسارية الإسلامية" عوضت " البلشفية اليهودية".. دومينيك فيدال يكتبُ