31-أكتوبر-2020

المؤرخ الفرنسي دومينيك فيدال (تويتر)

كانت النازية، والمتعاطفين معها على حد سواء، في حملة دعايتها التحريضية ضدّ اليهود والشيوعيين يرددون وصمة "البلشفية اليهودية"، مصطلحٌ  الغرض منه جمع "الشرّين"  المزعومين في واحد، وبالتالي توحيد الصراع المزعوم بذات الكيف وتوحيد الموقف منه. هي أشبه بالعمليّة اللغوية/ السياسية التي ينهجها اليمين المتطرف الفرنسي اليوم، ومن لفّ لفه من باقي الاتجاهات السياسية، إذ يوزعون على خصومهم، يمينًا وشمالًا، مسلمين ويساريين،  وصمة "اليسارية الإسلامية"! فيما المراد من تبيان هذا التشابه ليس القفز إلى استنتاج تكافؤ بين الفريقين، القديم والجديد، أكثرَ مما هو قياس السائد من المناخ السياسي الحالي وحيثياته في مرآة الفترة بين الحربين العالميتين، والتنبيه من خلال هذا القياس لعدم السقوط في نفس فضاعات الماضي، كما التنديد بمن يدفعون الواقعَ دفعًا إلى نفس النهاية الإجرامية في حق الإنسان.

في هذا الصدد يكتب دومينيك فيدال، الكاتب والمؤرخ اليساري الفرنسي، الذي كان والده ضحية معسكر أوشفيتز سيئ الذكر إبان الحقبة النازية، مدفوعًا من جديد برفضه تكرار المأساة الإنسانية التي هو سليلًا عنها، مقاله: "ضد اليمين المتطرّف ومغفليه الوظيفيين: لن تمرّوا!".


لو كان لي أن أستعيد صرخة الجمهوريين الإسبان، لقلت بأن المناخ السياسي الخانق الذي يسود اليوم، يدفعني إلى التفكير في الأيام التي سبقت الحرب العالمية الثانية.

 يكتب دومينيك فيدال، الكاتب والمؤرخ اليساري الفرنسي، الذي كان والده ضحية معسكر أوشفيتز سيئ الذكر إبان الحقبة النازية، مدفوعًا من جديد برفضه تكرار المأساة الإنسانية التي هو سليلًا عنها

بطبيعة الحال، فرنسا 2020 ليست ألمانيا 1933. لكن نفس القوى التي عملت على هذا الانتصار النازي هناك وتلك التي انصاعت إلى التعاون معه هنا (في فرنسا)، هم من يصرخون الآن مجددًا بكراهيتهم، في ظرفية يسودها استقطاب قومي مقلق. "اليسارية الإسلامية" عوضت في أفواههم وصمة " البلشفية اليهودية". و باسم الدفاع عن حرية التعبير يريدون في الحقيقة خنق حرية تعبيرنا.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| سلام الكواكبي: العزلة رقصة تحتاج إلى طرفين

ولست حقيقة من المعجبين بإيريك ديبون موريتي، لكن جوابه الفوري على ليا سالامي (وأظن أنه كان جوابًا موجهًا لوزير الداخلية جيرالد دارمنان): " استغلال العاطفة لأغراض سياسية يصبني بالقرف"، هو بيت قصيد هذا النص.

نعم، علينا محاربة القتلة الإسلاميين. نعم، علينا الدفاع عن قانون 1905 – كل القانون ولا شيء آخر غير القانون. نعم، اللائكية هي النظام الوحيد الذي يخول لنا العيش المشترك بتعدديتنا الاجتماعية، السياسية، الأيديولوجية والدينية. لكن يجب علينا مناقشة الحاجة في إعادة كتابةالكتب المقدسة – الكتب المقدسة بصيغة الجمع، لأن العهد القديم يحوي عددًا من الدعوات إلى المذابح أكثر مما تتضمنها سور الحرابة في القرآن.  ليس من الضروري أن تكون فقيهًا جهبذًا لتدرك أن هذا التصور لا حظّ له للتحقق في أقل من بضعة عقود، ولما لا نقول قرونًا بأكملها. فكم من الوقت احتاجت الكنيسة الكاثوليكية، بباباواتها ورهبانها، للكفّ عن اتهام اليهود بقتل المسيح (دون تعديل نص الإنجيل)؟ هل تتخيلون أن الإسلام، الذي عكس الكنيسة يفتقر للتراتبية الصارمة، قادر من الغد على إعادة كتابة نصوصه الدينية؟ وفي ما يخصّ التجديف، فكل إنسان متعلّم يعرف أنه لا محرّض عليه ولا هو ممنوع، ويعرف كونه مفهوم ديني محظ لا حضور له في قانون أي دولة لائكية كدولتنا. 

بصراحة، الأولوية ليست هنا. حيوان يتغذى على الجيف، هو اليمين المتطرف الذي سارع في الإجهاز  على جثّة المدرّس القتيل داعيًا إلى التصفية المعاكسة. غير مسؤولين، الوزراء الذين يحذون حذوه. المغفلون الوظيفيون في شتاء  جيل كلافرول الجمهوري (1) يتبعون الحركة: كي يخدموا جيدًا طموحات المرشح السابق لعمدة برشلونا؟ ويا للحسرة، عدد من "أنا شارلي" (2)، المسلّم بمصداقيتهم، عن طواعية أعلنوا أيضًا موافقتهم رغم الجدل الدائر حول الفرق بين الإسلام والإسلام السياسي، وخطر دفع المسلمين الأكثر هشاشة، الذين يتعرضون مرارًا إلى الإهانة والتمييز، إلى أحضان التشدد الديني. ومع كلّ هذا، وفي مواجهة كل هؤلاء، وجب علينا الاتحاد لا الفرقة.

الرئيس السابق لجمعية فرنسا-إسرائيل، جيل ويليام غولدنادل، دعى لتوّه إلى "الانتقام لدماء صامويل باتي". وكم تمنيت لو انشطر لسانه قبلَ نطقها. لأن النفوس المحمومة بكل هذه البروباغاندا يمكن لها أن تحيل الكلمات أفعال عنف تستهدف المسلمين، أن تعود صورة طبق الأصل للقتلة الذين يدينونهم، ويمكننا القول: شركاء في الجريمة. الأسبوع الماضي، عمد أحد الشجعان مجهولو الهوية إلى خطّ كلمت "متعاون" (3) على جدار مقر الحزب الشيوعي الفرنسي، الكائن في ساحة كولونيل فابيان – أي تناقض هذا، سليل روحي للمتعاونين الحقيقيين مع النازية يتّهم بهذا العار أهمّ حزب في المقاومة الفرنسية!

هل لديهم أدنى حسّ بالخطر المحدق؟ البعض لا يتوانى عن اتهام مسؤولين سياسيين بالاسم:

– وزير الداخلية، جيرالد دارمنان، بطل كلّ الأوزان في هذه الممارسة. وزير الدولة هذا، الذي يدعو إلى التشبث بقرينة البراءة في قضية الاغتصاب التي تلاحقه، والذي يحرم بالمقابل الجمعية الفرنسية لمحاربة الإسلاموفوبيا من التمتع بهذه القرينة، أجاب أليكسيس كوربيار (نائب فرنسا الأبية) داخل قبة الجمعية الوطنية قائلًا:" لا أتفهم حقيقة أن يرتبط حزب يدين "أفيون الشعوب" بهذا "اليسار الإسلامي" الذي يدمر الجمهورية".

– ميشيل بلانكي (وزير التعليم الفرنسي)، خلال مقالٍ له بجريدة الأحد، هو الآخر استهدف بالوصم كلًا من جان لوك ميلانشان – مارين لوبان فعلت ذلك قبله- و (الصحفي) إدوي بلينيل. إدانته همّت كل الجامعات وبشكل عام العلوم الإنسانية المصابة بـ "غرغرينا" رؤيتها للعام "التي تتقاطع والمصالح الإسلامية".

– ياا للمفاجأة! الخارق مانويل فالس (رئيس الوزراء الفرنسي السابق) شارك أيضًا في الهجوم على رئيس فرنسا الأبية:" لقد كان ذا مساهمة كبيرة، ومسؤولية أكبر في كل ما حصل، بكل الروابط التي تجمع اليسار بمحاربة الإسلام السياسي"، والخلاصة هي أن ميلانشان "لم يعد ينتمي إلى الخندق الجمهوري".

– رئيس الوزراء الاشتراكي السابق، برنار كازنوف، ينتقد (دون إثبات حقيقة) "يسارًا إسلاميًا، ينظر بعيني شيمان إلى عدد من المنظمات الطائفية التي تكنّ غذرًا، كي لا نقول كراهية، للجمهورية".

– مجلة "Valeurs Actuelles" قبل سنة نشرت على صفحتها الأولى لائحة لمن أسمتهم "المتعاونين الإسلاميين".

– على موقع " Tribune juive"، (المفكرة الفرنسية) إليزابيث بادينتر تعلن: " لم يعد ما يجري قابلًا للحل بشكل سلمي، نظرًا لتماديه. هي حربٌ علينا خوضها". وتندد بـ "من جديد، قسم من الشعب يتساءل: ربما ضخمنا التهديد. أعداؤنا سيستغلون هذا، بمعيّة حلفائهم في اليسار، وهم قسم من فرنسا الأبية، في الجامعات أو في مراكز البحث، يشتغلون على تطوير هذه الحجج البكائية". كما  (الصحفية الفرنسية) إليزابيث ليفي هي الأخرى، بحسها الهاجسي المذهل، تنبأت قبل أربع سنوات: "البعض، كـأبناء مستعمرات الجمهورية وأولئك الذين لم يتوقفوا على لعب لعبة حرب الجزائر، ليسوا مغفّلين وظيفيين بيد الإسلام السياسي بل شركاء مفترضين في الجريمة. بالمقابل، هناك أقصى يسار للمشهد الإعلامي، حيث يلعب الإسلام، تحت غطاء حرية التعبير، لعبته البالية.  بلينيل ولانسولين يحسون دائمًا أنفسهم أقرب إلى طارق رمضان، أو ربما من هم أسوأ منه، أكثر من فينكلكروت".

– الموقع الإخباري للمجلس الاستشاري للمؤسسات اليهودية (CRIF) لا يمكنه أن يضيع فرصة المشاركة في هذه الحفلة هو الآخر: المخرج إيف أزروال متأكد بأن "اليسار الإسلامي هو تحالف موضوعي بين اليسار المتطرف والإسلام السياسي". ويتساءل: " لماذا يتظاهر هذا اليسار بمعارضته للمؤسسة الدينية، وهل هذه المعارضة تستثني الإسلام السياسي؟".

– أخيرًا، وبخصوص شارلي إيبدو، اتهمني صديق على صفحة الفيسبوك بـ "السفّاح"، لأنني انتقدت بعض واجهات المجلة الموقعة من قبل "ريس" (4)، الذي مثله مثلَ أي رسام كاريكاتور آخر، انزاح عن مساره في أكثر من مرّة.

أكرر قولها مرّة أخرى: فرنسا 2020 ليست ألمانيا 1933، وبشكل أكثر مبالغة 1942. يجب على الأقل أخذ العبرة من دروس الماضي. أسلاف دعاة الإسلاموفوبيا الأكثر هستيرية في وقتنا الحاضر، كانوا معادين للسامية لا يقلون هستيرية عن أحفادهم. خوضوا التجربة التي أجرتها إستير بنباسا قبل مدة طويلة: عوضوا داخلَ نصوص التحريض عن كراهية الإسلام كلمة "مسلم" بـ "يهودي".. أولئك الذين كانوا يهاجمون الـ  "يوبين" (5) في الفترة ما بين الحربين، هل أدركوا مسبقًا  أن أهدافهم ستنتهي إلى أوشفيتز. وأن دعايتهم المقيتة ساهمت في تصفية ستة مليون بين يهودي وغجري وسلافي ومعوقين ومثليين جنسيًا.

لكلّ حساسيته، ولكل تاريخه. بين المهجّرين إلى مراكز الاعتقال النازي كانت عائلتي من ناحية الأب، كلهم عادوا، عدا جدّي نيسيم، لقي حتفه داخل معتقل داخاو في ماي 1945، بعد تحريره من قبل الجيش الأمريكي. أبي، حاييم، عاد من أوشفيتز بيركنو ومسيرات الموتى. جدّتي  إستير وابنتيها، أديل وجرمين، عادوا من رافنسبروك. عمي جاك ندى من بوخنفالد ومن داخاو. فيما أمي كانت طفلة أنقذها بروتيستانتيّو شامبان-سور-لينيون، حيث اختبأت بينما انخرط والداها في المقاومة، حياة أمي جاكلين  دمغت على طولها بالاختباء والهروب من الأنظار. في الواقع، لهذا السبب انخرطت كـ "حاملة حقائب" (6) إلى جانب المقاومة الجزائرية،  أثناء حرب الجزائر. لذكرى كل هؤلاء، أكتبها كما أفكر: أحدهم يدعى إيريك زيمور، من ذوي السوابق ومدان لعدة مرات، مستمر في النباح على المسلمين على برامج قناة CNews، ليس أقل من فيليب هنريو وهو يحقّر اليهود على راديو باريس – مع أنني لا أتمنى له نهاية غوبلز حكومة فيشي  (7).

مقارنة شائنة بين الحقبتين، يقول بعض من "أصدقاء" الفيسبوك.  لكن لمَ؟ هناك نسيان شائع بأن التقليد الكولونيالي القديم العدائي للعرب لم يكن فقط لفظيًا: فرنسيون أهانوا، عذّبو، قتلوا الملايين من المسلمين بداية بالجزائريين. راجعوا أنفسكم!  هل تظنون أنه في إمكانكم ربط ذكرى صامويل باتي بالفضاعات التي تقال في حق المسلمين الآن بفرنسا، بمن فيهم الأطفال العرب الذين لطالما أحبهم كباقي الذين كان يدرسهم؟ هل نسيتم أنه كان دائمًا يصحب طلبته إلى مؤسسة العالم العربي؟

هناك نسيان شائع بأن التقليد الكولونيالي القديم العدائي للعرب لم يكن فقط لفظيًا: فرنسيون أهانوا، عذّبو، قتلوا الملايين من المسلمين بداية بالجزائريين

"الانتقام" لصامويل باتي، قبل كل شيء محاربة الجهاديين وشركائهم. وأشهد أن منظمات التضامن مع فلسطين قد أدانت قبل سنوات جمعية الشيخ ياسين، ومديرها الذي تربطه علاقات باليمين المتطرف، و ذلك مثبت بالصور، دون أن تتحرك الأجهزة وقتها في هذا الشأن. كان يلزمهم أن يثبت تورطه في مأساة كي يتحرك الوزير لحل هذه الخلية. "الانتقام لصامويل باتي، هو محاربة ناشري الكراهية، إسلامية كانت أم إسلاموفوبية. كما تكتل كل القوى الديموقراطية والجمهورية ضد اليمين المتطرّف بحلفائه ومتعاطفيه داخل قبة البرلمان.

لن تمروا!


هوامش:

  1. المقصود هنا حركة "الربيع الجمهوري" التي أطلقها النائب جيل كلافرول سنة 2016، وهدفها الدفاع عن قيم الجمهورية.
  2. شعار تضامني مع مجلة شارلي إيبدو، أطلق سنة 2015 بعد العمل الإرهابي الذي استهدف المجلة.
  3. لقب يرمز به للمتعاونين الفرنسيين مع الجيش النازي خلال الحرب العالمية الثانية.
  4. الاسم المستعار لرسام الكاريكاتور الفرنسي لوران سوريسو، مدير شارلي إيبدو الحالي وأحد جرحى العملية التي استهدفت المجلة.
  5. لفظ عنصري كان ينعت به اليهود خلال ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.
  6. " حاملو الحقائب" خلية فرنسية تعاونت مع ثوار حرب التحرير الجزائرية، ومهمتها كانت تهريب السلاح والأموال والوثائق لصالح المقاومة.
  7. غوبلز هو اسم وزير الدعاية في الحكومة النازية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 حوار| آلان غريش: الإسلام في فرنسا لا يزال موضوعًا استعماريًا