31-أكتوبر-2020

المدير التنفيذي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع باريس، سلام الكواكبي

تعود مسألة الضاحية إلى البروز مجددًا على واجهة النقاش العام الفرنسي، كيف لا ومراقبون يرون فيها، والرئيس إمانويل ماكرون ذات نفسه أشار إليها، كمفتاح لما سمي بـ "الانعزالية" ذات خطابه الرئاسي لـ2 تشرين الأول/أكتوبر الجاري. ويزيد إلحاح التطرق لسؤالها كذلك، أنها مسرح الجريمة الإرهابية الأخيرة، التي راح ضحيتها مدرّس التاريخ صامويل باتي. لكن، وحتى قبل هذه المستجدات الخطيرة، لطالما مثّلت الضاحية مصدرَ قلق بالنسبة للمركز السياسي في فرنسا، بوصفها تلك الجزر المعزولة التي تتكتل داخلها جاليات أغلبها من خلفيات مهاجرة، والتي لها ماض في الثوران تؤثثه ذكرى مشاهد انتفاضتها سنة 2005. وهي بالنسبة للفاعل الثقافي الفرنسي، كجيل كيبيل وبرنار روجييه، أراضٍ ضائعة على الجمهورية ومحتلّة من قبل الراديكالية الإسلامية.

سلام الكواكبي: مسألة الاندماج صارت كالقربة المثقوبة لا تبرح المشهد الجدلي الفرنسي، إلا أن ربط الأمر بالبعد الانتخابي حصرًا لا يمكن له أن يستقيم

بالتالي، ولرسم بورتريه واضح لمسألة الضاحية في ضوء كل ما يعصف بالساحة الفرنسية  من زخم، نتوجه بالسؤال للسيد سلام الكواكبي، المدير التنفيذي للمركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية فرع باريس، الذي يحضر معنا في حوار خصّ به "ألترا صوت".

  • مرة أخرى يطفو نقاش الإسلام في فرنسا على سطح الأحداث الدائرة، وربما أكثر من أي وقت مضى. ما طبيعة هذا النقاش الدائر؟ وهل هو صراع سياسي حول كرسي الرئاسة يقدم فيه المسلمون ككبش فداء، أم هناك مشكلة ثقافية واجتماعية أعمق داخل المجتمع الفرنسي بين المسلمين وغيرهم؟ 

يبدو وكأن الساحة السياسية والإعلامية الفرنسية كالبحر الميت تجعل كل شيء يُشغلها عن أمور بنيوية هامة يطفو ولا تسمح له أبدًا بالغرق في أعماق الحياة اليومية والمشاكل الاقتصادية والمحظورات البيئية. ومع أن مسألة الاندماج صارت كالقربة المثقوبة لا تبرح المشهد الجدلي الفرنسي، إلا أن ربط الأمر بالبعد الانتخابي حصرًا لا يمكن له أن يستقيم. فمع وجود الحسابات السياسية والتكتيكات الانتخابية لكل حزب سياسي في فرنسا، إلا أن موضوع الإسلام والمسلمين له عوامل أخرى مؤثرة في النقاش حوله والذي يصل في أيامنا هذه إلى درجة الهوس المرضي إن كان ذلك في المشهد السياسي أو في المشهد الإعلامي. كلا المشهدين مليء بالغث ّوالسريع والسطحي من التحليل ومن النقاش. كذا، يبدو أن جهل المتحدثين بما وبمن يتحدثون عنه وعنهم قد بلغ قمته. وبالمقابل، يظهر ضعف وركاكة خطاب الطرف المقابل، أي من يتنطح لتمثيل المسلمين، وحتى لو لم يكن قد تم اختياره قصدًا من قبل بعض المؤسسات الإعلامية للإساءة إلى المشهد المجتمعي للمكون الإسلامي الفرنسي.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| آلان غريش: الإسلام في فرنسا لا يزال موضوعًا استعماريًا

 وقد غاب تماما عقلاء الجانبين، وإن حضر "الانتحاري" منهم فسيتعرّض لأبشع التعبيرات التي تقارب حدود الشتم في القانون أو التي تستهزئ بكل ما يقول. وبالتالي، يجب الاعتراف بأن في فرنسا مشكلة، أو مشاكل سياسية وثقافية خصوصًا مرتبطة بعوامل عدة يتداخل من خلالها إرث التاريخ الاستعماري بجوانبه كافة، مع مبادئ علمانية تتميّز بها فرنسا عن سواها من علمانيات العالم تكاد تجعل من العلمانية دينًا له أصوليوه وله متطرفوه وبانتظار أن يكون له إرهابيوه كما كل الديانات التوحيدية وغير التوحيدية الأخرى في أطوارها غير التنويرية والخاضعة للدوغما المتخشبة. كما يؤثر عامل آخر مرتبط بالمدرسة الاستشراقية "الجديدة". وأتوقف هنا لأميّز نفسي عن كل من وضع الاستشراق في آنية واحدة ورماه بكل ما أوتي من صفات سلبية وحمّله خراب المعبد.

ولهذا الحديث صلة ولكن ليس مكانه هذ الحوار على ما أعتقد. إذًا، فالاستشراق الجديد الذي يعتمد على باحثين متمرسين بموضوعاتهم وليسوا جهلاء بها كمجمل الساسة والإعلاميين، إنما يستغلون معرفتهم بالإسلام وباللغة العربية وبالمنطقة العربية / الإسلامية، ليعزفوا في جوقة البلاط مهما توجهت نيّاته ولو كان معهم في هذه الجوقة جمع من الجهلة والمتسلقين والمهرجين. وفي نهاية جوابي على هذا السؤال، أعتقد بأنه لا يجب تحميل المجتمع الفرنسي مسؤولية كبرى، فهو يتلقف ما يضخّه له الإعلام وليس مطلوبًا منه أن يتوجه إلى مصادر المعرفة لتكوين وجهة نظر. وهنا يجب أن يلعب، وهم لا يفعلون، المسلمون كأفراد أو كمجموعات تدعي تمثيلهم، دورًا فاعلًا في نشر الوعي بين أترابهم أولًا على أنهم أفراد في مجتمع كبير يضم سواهم من العقائد ومن القناعات، ويخضع الجميع لإرادة قانون الجمهورية التي اختاروا أن يعيشوا فيها. وثانيًا، أن يسعوا لنشر الوعي لدى المجتمع المحيط بأنهم لا يلفظون قوانينه وبأنهم أعضاء كاملي العضوية فيه رغم كل المقاومة التي يمكن أن تقف عائقًا أمام رغبتهم هذه.

  • تحدثتم سابقًا عن النضال ضدّ الإسلاموفوبيا كأحد أبرز الخاسرين من الجريمة الإرهابية، والجواب كان من وزير الداخلية جيرالد دارمانان بعزمه حلّ "جمعية محاربة الإسلاموفوبيا في فرنسا". ما هي قراءتكم في الإجراءات التي تنهجها وزارة الداخلية الفرنسية كرد على "الإرهاب"؟

الاسلاموفوبيا، أي الرهاب من الإسلام، ظاهرة مرضية منتشرة ومنذ فترة طويلة ويتحمل جُلّ مسؤوليتها الطرف المصاب بها حتمًا وإن كان الطرف الآخر غير بريء بالمطلق من تحمل جزء، ولو يسير، من هذه المسؤولية، وذلك عبر بعض الظواهر المرتبطة أساسًا برد الفعل غير المدروس وغير العقلاني. وقد ظهرت كتب جادة منذ عدة سنوات وضعت تشخيصًا دقيقًا لهذا المرض "النفسي" الذي يكاد أن يتحول في أيامنا هذه إلى وباء تمشيًّا مع متطلبات العصر. وكان اللجوء إلى استخدام المصطلح يتم بدقة من البعض وبخلط عجيب من البعض الآخر. فالتمييز بين المواطنين على أساس ديني والإقصاء عن شغل بعض الوظائف بسبب الانتماء الديني وحرمان الأمهات المحجبات من مرافقة النشاطات المدرسية وطرد امرأة محجبة من مكان عام بسبب حجابها، كلها أمثلة قليلة دالة على إسلاموفوبيا واضحة وصريحة.

 أما انتقاد قيام بعضهم بإقامة صلاة الجماعة على سكة قطار المدن، أو قيام أحدهم بالصلاة في ممر طائرة وقيامه بضرب المضيف إثر الانتهاء منها، أو انتقاد أن يشترط الرجل أن تُفحص زوجته من قبل طبيبة أنثى في المشفى العمومي المجاني، وهذا من حقه مبدئيًا، مهما اختلفت قيميًا مع هذا الفكر الذي يرى السوء في كل من حوله، فما عليه إلا أن يذهب إلى المشفى الخاص ويحدد ربما حتى طول الطبيبة المعالجة ووزنها بنقوده. كما أن التنديد برفض بعض الأهالي، وهم قلّة، أن يتعلم أولادهم العلوم الطبيعية في المدرسة تحت ذرائع دينية. كل ما سبق من أمثلة، وغيرها العشرات، لا علاقة لها بالإسلاموفوبيا. إذًا، طرفا المعادلة يسيئان إلى مصداقية التوصيف وإلى حمولة المفهوم، الذي يشيطنه الطرف المصاب به ويعتبره رقابة على حريته في التعبير والنقد. كما يقوم بعض من يعتبرون أنفسهم بأنهم ضحايا الاسلاموفوبيا بتشويه معناها بتحميلها كل ما يتعرضون له من عواقب إساءاتهم أو سوء تصرفهم.

سلام الكواكبي: يبدو وكأن الساحة السياسية والإعلامية الفرنسية كالبحر الميت تجعل كل شيء يُشغلها عن أمور بنيوية هامة يطفو ولا تسمح له أبدًا بالغرق

عندما يقرر وزير الداخلية أن يحل جمعية مناهضة الإسلاموفوبيا، وهي جمعية حقوقية مصرّح بها وتحصل على إعانات من الدولة، فهو يقوم بردة فعل غير مدروسة وهو يرسل رسالة واضحة إلى المسلمين بأنه ليس المتطرفون هم وحدهم المسؤول عن الانحرافات في القول وفي الفعل، بل أنتم جميعًا ولم يعد يحق لأحدكم بعد اليوم أن يشتكي من إساءة معاملة أو من انتهاك مرتبط بانتمائه الديني. كما قرر الوزير إغلاق مسجد بسبب تغريدة لمديره أو لإمامه تستحق العقاب، فلم يكون العقاب جماعيًا؟ هي رسالة ثانية. وأن يتحدث المسؤولون الرسميون بخطاب تعميمي وسطحي وبعيد عن العلمانية نفسها، ليجاروا الأمزجة الإعلامية السائدة، دون سعي إلى ترجيح الحوار الهادئ لعرض المسألة من كل جوانبها، فهو دليل آخر وجديد على تخبّط لا يمكن تكهن نتائجه. ولكن يبقى القانون سيدًا في فرنسا، ومجلس الدولة لا يمكن له أن يقبل بحل جمعية حقوقية بسبب مزاج شخصي أو حتى جماعي. وإن اعتبر بعض المدافعين عن هذه الإجراءات بأنها رد على الإرهاب فذلك يدل على انحراف منهجي عن طريق المنطق السياسي وحتى الأمني. فزيادة الضغط على مجموعة بشرية بكاملها لا يمكن له إلا أن يرفد التطرف كما الإرهاب بأصحاب النفوس المضللة أو القلقة إلى حد كبير. 

  • ما آثار  هذه الإجراءات على المجتمع الفرنسي (كي لا نحصرها فقط في الجالية المسلمة)؟

إن استمرت ردود الفعل الآنية والمتوترة على هذه الجريمة البشعة التي اقترفها وحش بشري، كما وعلى وجود فئة إسلامية متطرفة ترفض قوانين الجمهورية، لتشمل المكون الإسلامي بجميع أفراده دون تحديد، وتتبنى خطاب اليمين المتطرف العنصري والاسلاموفوبي والإلغائي والإقصائي، فالآثار ستكون وخيمة على كل المجتمع الفرنسي بكافة مكوناته. ستتعمق الفجوة التي ساهمت عوامل تاريخية وسياسات عامة في حفر بداياتها. كما ستسود الريبة والترقب في نفوس جميع الفرنسيين من كافة المكونات. وسيتم رفض أية محاولة للحوار الهادئ والرصين. وحتى بين المسلمين أنفسهم، سيتطور وينمو شعور الضحية، إن كان حقيقيا أو وهميًا، وسيتعزز خطابه وسيتقوقع وسيتطرف كثيرون. إن استمر خطاب الكراهية المبطنة لدى الطرفين فسيسود مناخ شك وريبة ضمن مكونات المجتمع وسيزدهر مشهد التطرف وسيجد العقلاء من الجانبين أنهم أقلية مهمّشة.

  • لننتقل بحوارنا إلى جانب آخر، ما هي طبيعة العزلة التي تعيشها الضواحي الفرنسية، وكيف تشكلت؟

من الأفضل لي أن استخدم النسبية في الحديث عن الضواحي، فمنها من ينعزل بشكل كبير وسواها بشكل أقل. والعزلة رقصة تحتاج إلى طرفين على الرغم من أن الدراسات الجادة خلال العشريات الماضية أثبتت الدور الكبير الذي لعبته السياسات العامة في ترسيخ العزلة من خلال تعاملها مع الضواحي، وهذا ما أشار إليه الرئيس إيمانويل ماكرون حتى في أكثر من حديث. لقد تم تهميش بعض الضواحي من خلال سوء ربطها بمركز المدينة كما لم تفلح سياسات الاستثمار العامة في رفع مستوى البنى التحتية في هذه الضواحي إلا في مراحل استثنائية. كما ساهم الوضع الاقتصادي السيء لغالبية سكانها، وخصوصًا الشباب منهم، في ارتفاع احتمالات وقوعهم في شباك استهلاك المخدرات الرخيصة ومن ثم، الاتجار بها.

وقد تنبثق عن هذه التجارة شديدة الربحية، مجموعات تمارس عنفها أولًا تجاه أهلها وتجاه من تسكن معهم في الضاحية قبل أن تنقله إلى الأحياء المجاورة وإلى مركز المدينة. إضافة إلى هذا كله، تستغل الجهات المتطرفة الفراغ الروحي والفقر والعوز لتزرع أنيابها في رقبة البسطاء وتمصّ دم شبابهم دافعة بهم نحو الانحراف في القول غالبًا وفي الفعل أحيانًا، مما يمكن تسميته بالإرهاب. وعلى الطرف الآخر، "طاب" الانعزال لبعض المجموعات ظنًا منها أنها ستتمكن من فرض رؤيتها لإدارة المجتمع الذي يحيط بها. كما اعتزل العقلاء بينهم العمل المدني والسياسي وصار من النادر مشاركة سكان الضواحي بشكل فعال ومؤثر في مجمل الانتخابات وخاصة المحلية منها. وتحضرني هنا واقعة حصلت في أمريكا منذ أشهر بعد مقتل رجل أسود من قبل رجل شرطة، وخلال التجمع الاحتجاجي الذي خرج بعد هذا الحادث الأليم، توجه شقيق الضحية إلى المتظاهرين بدعوتهم إلى نبذ ردود الفعل العنيفة والتوجه إلى صناديق الاقتراع. الديمقراطية في أجمل عطاياها منحت المواطن حق الاقتراع ليختار من يمثله أو من يثق بسياساته، فعلى المواطن أن يمارسها.

  • مثلًا، عندما نقرأ دراسات لها علاقة بالإسلام في فرنسا، كتلك التي خطها بيرنار روجييه على سبيل المثال، المشهد الذي يتبادر في أذهاننا هو "الإسلام كدين الضواحي المهمشة"، ما مدى صحة هذا الادعاء؟

روجييه باحث جاد وذو تكوين متميّز ولكنه وقع في فخ الاستنتاجات السهلة والجذابة كمعلمه جيل كيبيل. أما عن أن الإسلام هو دين غالبية من يسكن بعض الضواحي، فهذا دقيق ولا يحتاج إلى كتاب، لكن روجييه قام، وبناء عليه، باستنتاجات منحرفة عن المنهجية العلمية المفروض على الباحث الجاد أن يلتزم بها. فهو كتب لغة تخويفية من التطرف الذي عمّم وجوده واعتبر بأنه سيطر ـ أو أنه في طور السيطرة ـ على الضواحي. كما أنه سارع إلى الاستنتاج بأن الضواحي قد خرجت عن سيطرة الدولة وصارت جزرًا مستقلة ذات إدارة ذاتية يسود فيها التطرف الإسلامي.

في المقابل، هناك باحثون فرنسيون آخرون وليسوا من نفس المدرسة، عملوا بجد وباجتهاد على الضواحي وحللوا ظواهرها المجتمعية والدينية بلغة هادئة لا تشجع على التخندق والانطواء. المشكلة التي يعيشها المشهد العام الفرنسي، أن صوت روجييه وأترابه أكثر وصولًا إلى وسائل الإعلام، وبالتالي، فهو أكبر وقعًا في نفوس العامة من الناس. أما الخطاب العلمي الهادئ، فهو إلى جانب برودة مفرداته، فهو لا يجد أي ترويج إعلامي يذكر. فبرنار روجييه يركز في توصيفه على الجانب الديني ومخاطره مهملًا إلى حد بعيد الأبعاد الأخرى من اقتصادية وخدمية وتعليمية. ومن جهة أخرى، أعتقد بأن كثير من المفكرين الفرنسيين المسلمين والتنويريين والمتسلحين بإمكانيات العلوم الإنسانية الحديثة قادرون على إحداث صدمة إيجابية من حيث طرح أفكار إصلاحية تساعد على مواكبة التقدم الإنساني على كافة الأصعدة.

ولو لم تتم محاربة هؤلاء من أصحاب الفكر المتشدد من جهة ومن أصحاب الخطاب الإقصائي السائد من جهة أخرى، فبإمكانهم يوما أن يضعوا لبنة إصلاحية أساسية تكاد تحاكي، دون الالتزام ببرنامجها الزمني، العملية الإصلاحية التي تعرّض لها الفكر المسيحي بين حركة مارتن لوثر في القرن الرابع عشر وصولًا إلى المجمع المسكوني الثاني في عام 1959 في روما.

  • أثناء صعود حركة السترات الصفراء، من بين أوراق الهجوم التي استعملت ضدها إعلاميًا، كانت وصفها بأنها مخترقة من طرف سكان الضواحي. كيف تشكّل شبح خطر سكان الضواحي في المخيال الفرنسي؟

على العكس، فقد بدا واضحًا عدم انخراط شبان الضواحي في أي من مظاهراتها ولهذا أسباب تتعلق بالعزوف عن أي تفاعل سياسي أو مطلبي مع المشهد العام لدى هؤلاء الشباب، كما إلى أن ظاهرة السترات الصفراء ضمت مجموعات غير متجانسة سياسيًا جمعت في جنباتها أطيافًا يسارية وأخرى يمينية كما متطرفين من الطيفين. والمسألة مرتبطة أيضًا وخصوصًا بعدم شعور شبان الضواحي بالانتماء إلى مجتمع أوسع من ذاك الذي يعيشون فيه. وتجد منهم أحيانًا من لا يرتبط بمحيط يخرج عن حدود محور حيّه السكني، بعيدًا عن أي بعد ديني أو إثني.

  • كيف انتقل الخطاب السياسي والإعلامي الفرنسي من وصف "سكان الضواحي المخربين" إلى "سكان الضاحية الإرهابيين الإسلاميين"؟

هناك إرهابيون من بين الشباب من المسلمين المتطرفين والمتأثرين بحملات التجييش والتجهيل التي تُغرق وسائل التواصل. ومحاربتهم أعتقد بأنها لا يمكن أن تتم عبر تنميط مجتمع المسلمين بكامله وتحميله مسؤولية جرائمهم. يجب التمييز بين الإرهاب والتطرف والتدين. المشكلة القائمة في فرنسا حاليًا هي الخلط بين الأحداث وبين المفاهيم. وحتى على صعيد موسيقا اللغة، فقد اعتاد العامة على سماع توصيف الأعمال بالإرهابية، وكما وصف القائمون بها بأنهم إرهابيون. اليوم، صار هذا التوصيف لا يكفي، وكأن هناك الأمر اليومي الذي اتفق جميع الساسة والاعلاميون عليه وذلك بذكر عبارة "الإرهاب الإسلامي" كاملة في كل تعليق. وبالتالي، فقد تم ربط الإسلام بالإرهاب في وعي ولا وعي المتلقي، مهما حاول من طرح المفهوم من القول بأنه لا يقصد جُلّ المسلمين. فعلم التواصل والايصال يعتبر بأن هذا الربط التلقائي سيترسّخ في ذهنية المتلقي ولن يمكنه من القيام بالتمييز.

الانتقال في التسمية وفي التوصيف هو جزء من الضياع في تخطيط السياسات العامة التي يمكن لها إن نجحت في أن تتجاوز المسألة وتجد لها حلولًا مناسبة ومستدامة. تعاقبت الإدارات من يمين إلى يسار وتوقفت كلها أمام أبواب المسألة وسعت لحلول مؤقتة وسريعة النتائج دون أن تلحظ بأن الاكتفاء بذلك لن يجلب إلا مزيدًا من التعقيد في المشهد المقبل.

  • كما عاينّا طوال السنوات الثلاث الماضية، أن أبرز سمة لولاية ماكرون هي الشارع الفرنسي الملتهب، والحركات الاحتجاجية التي تناسلت منذ سكناه الإيليزيه. في نظركَ لماذا لم نشهد حركة احتجاجية لسكان الضواحي الفرنسية؟

الاحتجاجات المطلبية في فرنسا ليست حكرًا على عهد ماكرون بل هي من مميزات المشهد السياسي الفرنسي منذ عقود. ومع ولاية ايمانويل ماكرون التي بدأها في 2017، برزت بعض العوامل الاقتصادية التي ترافقت مع أوضاع عالمية، اقتصاديًا وبيئيًا وصحيًا، غير ملائمة، والتي بدورها ساهمت في تأجيج هذه التحركات الاحتجاجية. أما في الضواحي، فهي تشهد من فترة إلى أخرى صدامات مع رجال الشرطة وكما تشهد اعتداءات على المال العام وتخريب لبعض المقرات الحكومية. والاكتفاء بتعزيز الأمن عدة وعتادًا هي سياسة تجانب الصواب حيث إن مسألة الضواحي تحتاج إلى خطط إنعاش اقتصادية وخطط تنوير ثقافية وخطط إدماج جمهورية بعيدة عن محو شخصية وثقافة الآخر ولكنها مدعوة للتفاعل مع ثقافته والاغتناء بإيجابياتها وترويج العيش المشترك القائم على عدم التمييز الذي هو في صلب قوانين الجمهورية.

 كما من الضروري أن تنبثق قيادات شبابية تحمل من الكاريزما والسلطة الأخلاقية ما يكفي لكي تحل محل بعض المتعممين الجاهلين بأمور دينهم ودنياهم، وهم نتيجة لعلاقتهم بدول تدعم التطرف تاريخيًا كالسعودية، أو لحكومات لها مصالح متناقضة، كالمغرب والجزائر، يشغلون مواقع أمامية في صفوف المجتمع المسلم. الجيل الجديد يحمل في جعبته بعضًا من الأمل حيث تبرز أسماء شخصيات من النساء ومن الرجال، حصلوا على مستوى رفيع من العلم وانخرطوا في الحياة العملية ضمن أطر الجمهورية دون أن يتخلوا عن أصولهم وعن ثقافتهم. هناك أزمة في تعريف "المسلم الجيد"، فمن جهة الطرف الرسمي هو الذي يهاجم أترابه ويعتبر كل ما يقترفونه انحرافًا ويتبنى الخطاب السائد. ومن جهة المتشددون، فالمسلم الجيد هو الذي يرفض قوانين الجمهورية ويعلي عليها قوانين الشريعة الإسلامية. وما عداهما، وهو يشكل الغالبية العظمى، فهو متروك على قارعة الطريق ينتظر الثغرة المناسبة ليمر منها عبر العقل والمنطق والتوافق.

سلام الكواكبي: الاكتفاء بتعزيز الأمن عدة وعتادًا هي سياسة تجانب الصواب حيث إن مسألة الضواحي تحتاج إلى خطط إنعاش اقتصادية وخطط تنوير ثقافية وخطط إدماج جمهورية

في الختام، أذكر أنني وعند حصولي على الجنسية الفرنسية منذ عقدين من الزمن، كتب الرئيس الراحل جاك شيراك بخط اليد في أسفل الوثيقة: "أهلا بك وبثقافتك التي ستُغني بها ثقافتنا وستغتني أنت بثقافتنا". بالطبع فالعبارة هي ليست لي وحدي، وإنما كانت ترافق كل شهادات التجنس. لا أعرف إن تم الحفاظ على هذا التقليد، ولكني ألاحظ أن العكس هو المرجو بأيامنا هذه، أي، "أهلا بك منفصلًا عن ثقافتك التي ستدعها حيث هي وتتمتع بثقافتنا فقط". أتمنى أن يكون هذا الاعتقاد خاطئًا تمامًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد هجوم نيس الإرهابي.. فرنسا ترفع حالة التأهب القصوى