31-أكتوبر-2020

الأكاديمي وعالم السياسة الفرنسي فرانسوا بورجا

أصبح مصطلح "اليسار الإسلامي"  IslamoGauchisme أحد أبرز اللعنات الشائعة اليوم داخل الحقل السياسي الفرنسي، والموجهة بالتحديد لقوى معيّنة، قد لا تكون بالضرورة سياسية، لكنها بالضرورة تطعن في سردية الصراع القائم على أنه صراع دين ضد دين، ثقافة ضد ثقافة ومنظومة أخلاقية ضدّ أخرى. هذه السردية التي يتخدها اليمين المتطرف "أصلًا تجاريًا" لمشروعه القائم على عداء الغريب. فيما وصمة العار التي ذكرنا آنفًا، ومع ما يستجدّ من زخم بالبلد الأوروبي، لم تعد حكرًا على هذا اليمين بل انتقلت في شكل عدوى مرضية، أخذت تتردد بذات الكيف على لسان اليمين المعتدل بل وجزء من اليسار اليوم يردد ذلك.

ضيف "ألترا صوت" هو الأكاديمي وعالم السياسة الفرنسي فرانسوا بورجا، أحد أبرز الباحثين المختصين بالمجتمعات الإسلامية

وقد يتساءل أحد عن علاقة هذه المقدمة بما نحن بصدد طرحه اليوم؟ الإجابة أن ضيفنا اليوم لا يتحرّج من وصمة "اليسار الإسلامي" التي لاحقته مرارًا من خصومه، بل ويرفعها شعارًا ساخرًا لا مراد منه إلا إغاضتهم: "أن أكون يساريًا إسلاميًا أهون عندي من أن أنغص حياة المسلمين بعنصريتي كلّ صباح!".

اقرأ/ي أيضًا: حوار| نجيب آزرقي: ماكرون يدقق خطاب اليمين المتطرّف

ضيف "ألترا صوت" هو الأكاديمي وعالم السياسة الفرنسي فرانسوا بورجا، أحد أبرز الباحثين المختصين بالمجتمعات الإسلامية، مدير أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، كما تقلّد مناصب بحثية في عدة مراكز درسات داخل العالم عربي.

يحضر معنا متحدثًا عن فحوى"أزمة الإسلام" التي تضمنها خطاب ماكرون، عن المسلمين ومشاركتهم في الحقل السياسي، وعن انفتاح هذا الحقل أمام مشاركة المسلمين. كما عن صعود خطاب اليمين المتطرّف وتغذيته النزعات الإسلامية المتشددة، ويحلل هذه الموضوعات كلها من وجهة نظر الباحث، في أجوبة مفصلة.

  • "الإسلام ديانة تعيش أزمة في العالم كلّه"، هكذا أعلنها الرئيس ماكرون. إلى أي مدى تعبّر هذه الجملة عن قناعة سائدة بين السياسيين الفرنسيين، وصورة الإسلام داخل الساحة السياسية الفرنسية؟ وهل يحاول الرئيس ماكرون عبر هذه الجملة، والخطاب ككل، تقليد خطاب اليمين الشعبوي استدراكًا لما خسره من أصوات لصالح أمثال لوبان؟

الرئيس ماكرون يعلم جيدًا، وهو يلجأ إلى الدفع بهذه الحجة، أن فئة واسعة من المجتمع والرأي العام الفرنسي -للأسف- يشاطرونه نفس الاعتقاد. حيث يشترط، دون غيره، وجود هذا الانحراف الخطير الذي بلغ حدَّ التأثير على اشتغال الجمهورية بأسرها، داخليًا وحتى على مستوى سياستها الخارجية. فعندما يعلن ماكرون أن "الإسلام يعيش الآن أزمة في العالم كلّه"، ما علينا فهمه في الحقيقة، هو أن مستقبله السياسي الذي يعيش أزمة. وأنه يستعيد، بهدف إنقاذه، كرَّ هذه الخطابة الانتخابية البالية، متّكلًا على النفخ في جمار الإسلاموفوبيا لاجتذاب الناخبين الذين دفعتهم سياساته الاجتماعية إلى الابتعاد عنه. "الإسلام في أزمة" هذا يعني كذلك أن "العدو هو الآخر". هذا الخطاب ليس جديدًا. بل يذكّرنا بذاك الذي روّج له  "مرض الإسلام" (عنوان الكتاب المثير للجدل، لكاتبه الفرنسي من أصول تونسية عبد الوهاب مدب)، والذي تبنته منذ عقود كل من الأنظمة السلطوية العربية والغربية لمهاجمة خصومهم في المعارضة والمقاومين لسياساتهم الأتوقراطية. 

تلتزم منا  المصداقية القول، بأن ماكرون الرئيس خلال خطابه بميرو، قد عاد إلى مواربة باب الوضوح الذي أحكمَ إغلاقه منذ اعتلائه رأس السلطة، بعد أن كان ماكرون المرشح قد فتحه قبلها لمدة وجيزة. "هذه الانعزالية نحن الذين أوجدناها" قالها فعلًا ماكرون، وهو نفسه الذي تحدث عن "تربتها الخصبة" التي سمحت الجمهورية بتكونها داخلَ الأحياء حيث "ركّزنا الفقر والوضعيات الصعبة"، و"ركّزنا الصعوبات التعليمية والاقتصادية"، وحيث "لم تف الجمهورية بوعودها". لكن المشكل ظلّ في باقي ما جاء به الخطاب وفي الغالبية الساحقة لإجراءاته السياسية، ما جعل وضوحه في التطرق إلى الجذور العميقة لـ "الانعزالية" يتوارى إلى الخلف. فيما ماكرون نفسه الذي شطب باحتقار السنة الماضية مخططًا (مخطط بورلو) لإعادة تهيئة الضواحي، اختار التحقير كجواب، والتشكيك الذي لا يستهدف فحسب هوامش المجتمع  الواقعة في حبال إغراء السلاح، بل الشريحةالواسعة للمواطنين الذين لا يعدون كونهم ممارسين للعبادات الإسلامية. اختار الجواب الذي أتى على عكس ما تتطلبه فاتورة معالجة النسيج الوطني، هذا إذا ما افترضنا وجود خطر محدق بالجمهورية من هذا الجانب. 

هذه الأحادية القديمة في الموقف الفرنسي تجاه المسلمين تغوص جذورها -في الحقيقة-  عميقًا في تاريخ البلاد الكولونيالي. لأن هذه "الانعزالية" التي يدان بها المسلمون في فرنسا اليوم هي نفسها التي فرضتها فرنسا الاستعمارية على أجدادهم. بالمقابل، ما كان علينا قوله بوضوح هو " أن العالم بأكمله يعيش أزمة"، هذا يعني: أننا أيضًا نحمل جزءًا من المسؤولية فيها. لكن ما يميز ليس فقط فكر ماكرون بل الشكل الذي تطور فيه هذا الفكر منذ أول وصول له إلى السلطة، هو عدم قدرته على تمثّل فكرة مسؤولية من هم غير مسلمين في التوترات الداخلية للمجتمع كما في التوترات التي تمزق العالم ككل. 

في الأخير، إنه لأمر محزن أن نشهد ماكرون الآن غارقًا في هذه الكاريكاتورية أكثر من أي وقت مضى. وأمرٌ صائب إذ نسجّل لصالحه أن خطابه تضمن في جزئيته الصغرى اعترافًا بإمكانية وجود ولو ذرّة من مسؤولية للجمهورية. لكن الخطيرَ هو أن نرى هذا الاعتراف والتنازل الرئاسي لصالح الفطنة والوضوح يقابل بكمّ الهجومات التي انهال اليمين المتطرف بها عليه، والعداء الذي أطلق هذا اليمين عنانه ضده. 

  • بالمقابل، إلى أي مدى ينفتح الحقل السياسي الفرنسي أمام مشاركة أحزاب سياسية مسلمة (كالاتحاد الديموقراطي لمسلمي فرنسا على سبيل المثال)؟

بطبيعة الحال لن تقبل الأغلبية السياسية الفرنسية هذا الأمر. لكن أيضًا، وعلى غير عادتي، سأكون في هذه الحالة جزءًا من تلك الأغلبية السياسية! لأنني لا أدعم بتاتًا تشكيل حزب سياسي للمسلمين أو لأي اعتقاد آخر ديني أو مناطقي. توجه كهذا يدخل في منطق "لبننة" libanisation الواقع السياسي الفرنسي، لكن مهمها دفعتنا الأوضاع الحالية للتشاؤم، ما آمله حقًا هو قدرة فرنسا على تخطيها.

  • كيف تتوزع مشاركة المسلمين داخلَ الساحة السياسية الفرنسية؟ وبأي باراديغمات يمكننا قراءة هذا التوزيع؟

عرفت ميكانيزمات التمثيل السياسي لمسلمي فرنسا تطورًا مهمًا على مد التاريخ المعاصر. دعنا نوضح ذلك أكثر! فغداة استقلال المستعمرات السابقة، بالأخص المغاربية منها، ظلّ المغاربيون في فرنسا ممثلين من قبل السلطات في بلدانهم الأصلية. الحكومة الفرنسية كانت تتفاوض مع المسلمين من أصل جزائري عبرَ مسجد باريس، الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بسلطات الجزائر العاصمة. لم يكن إذن لدى الفرنسيين من أصول مسلمة الكثير ليقولونه في هذا الصدد. لكن، ومع الوقت، هذا الشكل من التواصل عبر مؤسسة الإسلام الفقهي فقدت وظيفيتها. والمؤسسات الداخلية للإسلام في فرنسا بقيت رهينة تدخلات مزدوجة، فرنسية وخارجية، كلتاهما تفتقدان الشرعية، ولم تحقق كلتاهما لا مكسب تمثيلٍ  حقيقي للمسلمين ولا مصداقية حقيقية.

ويومًا بعد يوم، أخذت هذه المنظومة في فقدان جدواها. ومن الجيل الأول إلى ثالث جيل، تنامى لدى مسلمي فرنسا أكثر فأكثر إحساس بانتماء للبلد، وأكثر فأكثر انفصالٌ عن السلطات في البلدان التي تعود أصولهم إليها. رغم ما شاب ذلك من قصور، فقد خرج عدد مهم منهم من دائرة الأمية المتفشية بين آبائهم، بل وخاض عدد منهم الدراسات الجامعية، فأخذت الأنظمة السياسية في البلدان المغاربية تتغيّر في أعينهم، وبالتالي كانت الهوة التي تفصل مسلمي فرنسا عن ممثليهم المفترضين من مؤسسات، داخلية أو خارجية، قد حفرت.  وإن هي إلا المحاولات التي خاضها هؤلاء المسلمون للتملص من هذه الوصاية المزدوجة، هي ما ولّد توترات داخل الدولة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة. ذات الدولة التي لن تقبل بأن يهرب جيل كامل من أبنائها إلى ممارسات موروثة من حقبة زمنية أخرى، ونفسها الدولة التي سمحت لهذا الجيل في الحفاظ على هذه الممارسات تحت رقابتها الصارمة.

  • "ربما هو ضغط تاريخ نشرالكتاب مع اقتراب موعد الانتخابات الذي دفع الباحث إلى إهمال الصرامة العلميةهكذا علّقت السيدة مريم الدرقاوي، العمدة السابق لبلدية أوبيرفيليي، على كتاب "الأراضي التي احتلتها الإسلاموية" الذي أصدره الباحث برنار روجيه أول هذه السنة. هل يمكننا حقًاالحديث عن استغلال للحقل الأكاديمي الفرنسي ضد المشاركة السياسية للمسلمين؟ 

ليس هناك من جديد في الوضعية التي ذكرتموها. بما أن العلوم الاجتماعية ليست علومًا دقيقة، الانتاجات الأكاديمية في حقل العلوم السياسية تمتاز بتعددية كبيرة، ومنها أيضًا – في حالات قليلة هامشية–  إنتاجات متناقضة، وهذا الوصف ينطبق تمامًا على أعمال كلّ من بيرنار روجيي وجيل كيبيل. تمثّل أقلية داخل الحقل الأكاديمي، بوصفها تلك التي تطمئن عجز الحس الجمعي وتحظى برضى ودعم السلطة السياسية. 

  • في أحد مقالاتكم كتبتم أن "صعود الإسلاموفوبيا في الشمال الأوروبي يؤدي بشكل معاكس إلى تغذية النزعات الهوياتية الإسلاموية عند المتلقي في الجنوب". هلّا وضحتم لنا أكثرَ وجهة النظر هذه؟ 

ظرفية هذا الافتراض الذي ذكرتَه، والتي ليست مهمة في نظري، هي كالآتي: فقد طرحتُ سؤال إلى أي مدى ستصمد النزعات الإسلامية أمام سريان الزمن، بمعنى كم يلزم من الوقت لتبقى فيها الحركات الاسلامية قائمة إلى أن تنتهي باعتبارها ناجزة، وقلت كذلك إن سيرورة الاضمحلال الطبيعية هذه لقدرتها التعبوية يتم كبحها بفعل الصعود الهستيري للإسلاموفوبيا الذي يجتاح فرنسا وأجزاء كبيرة من الغرب. طرحت أيضًا الافتراض بأن ردود الفعل العاطفية بالمقابل تمنح قيمة لهذا العداء الذي يتبناه الغرب. 

  • "اليسار الإسلامي" إذا ما أسعفني الفهم، هذا جوابكم للنموذج الجمهوري الحالي، وبذات الكيف على التطرّف الإسلامي. على أي أسس يقوم هذا الجواب؟ 

في الحقيقة "اليسار الإسلامي" ليس إلا تسمية قدحية يعير بها المنتمون إلى صفوف اليمين أولئك الذين يوافقونهم الرأي في تجريم المسلمين. وليس ذلك إلا بدافع السخرية والاستفزاز، وفي قالب فكاهي، نحن عدد من الأشخاص الذين أخذنا في المطالبة بها، بطبيعة الحال مع الرفض التام للتهمة الموجهة إلينا بأننا "ننكر المبادئ الجمهورية!"

"اليسار الإسلامي" ليس إلا تسمية قدحية يعير بها المنتمون إلى صفوف اليمين أولئك الذين يوافقونهم الرأي في تجريم المسلمين.

إذن ما هي مقومات جوابنا بـ "الإسلامية اليسارية" على اليمين المتطرف، على اليمين وأيضًا على اليسار الذين يتكتّلون من أجل تغدية الفنتزمات الفرنسية المعادية للمهاجرين؟ إذا وجب علينا التوجه مباشرة إلى ما هو ضروري في القضية، سأقول إن من يتهمهم اليمين المتطرف بـ "اليسار الإسلامي"، هم من يعارضون التوزيع الأحادي للمسؤولية في العنف السياسي الذي يقوم به خصومهم في اليمين التقليدي، وهم الذين يعلنون أنه ليست هناك نجاعة في  محاربة الإرهاب دونما الأخذ بعين الاعتبار العنف المتأصل في السياسات، محلِيّة كانت أو خارجية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 "اليسارية الإسلامية" عوضت "البلشفية اليهودية".. دومينيك فيدال يكتبُ