06-مارس-2019

من مقبرة النجف (Getty)

تتقاطع الرؤية التي قدمها محمود درويش في "الجدارية" عن الموت مع رؤية ملحمة جلجامش له، التي ذهبت إلى ربط خلود الفرد بالإنجازات التي قد قدر له القيام بها في حياته الفانية، حتى ولو اقتصرت على بناء كوخ متواضع من القصب، ذلك الكوخ الذي ارتأت الآلهة أن يكون مسكن "أوتنابشتم"، الإنسان الفاني الذي قررت الآلهة منحه هبة الخلود تكريمًا له على جهوده التي بذلها في إنقاذ بعض أبناء جنسه البشري.

القبر في الحضارة المصرية هو محطة لالتقاء روح الميت بجسد صاحبها من جديد

في الجدراية، يقابل درويش الكوخ بالاسم، ذلك أن اسم المرء هو الرمز الذي يصيره فردًا مستقلًا في جماعة لا تنفك تنمو باضطراد قاهر لقوى الموت والعدم من جهة، وعلى تصييره شخصًا متميزًا لا ينفك عن إغناء وجوده عبر الخلق من جهة أخرى، فالاسم ليس دلالة على وجودنا الفيزيقي أو الطبيعي وحسب، وإنما شريط غير مرئي لتتبع جميع الإنجازات والفنون التي أوجدناها بأنفسنا، أو ساهمنا مع غيرنا في إيجادها خلال فترة حياتنا القصيرة: "هذا هو اسمك، قالتِ امرأة، وغابتْ في ممر بياضها. هذا هو اسمك، فاحفظِ اسمك جيدًا".

اقرأ/ي أيضًا: العالم من منظور السحر

نجحت العقائد السومرية على نحو خلّاق في تخطي عجزها المتمثل في ضمان الخلود الفردي الأبدي لمعتنقيها، عبر القيامة وفق النموذج المسيحي، من خلال جعل الخلود خاصية من خصائص النوع البشري، سواء عبر ضمان استمرارية الوجود البشري عبر طقسي الزواج والولادة، أو من خلال المساهمة في الفنون الجماعية ذات الطابع الطقسي الخاصة باحتفالات رأس السنة الزراعية أو مواسم الحصاد أو الموت، أو عبر المشاركة الفاعلة في بناء المظاهر الحضارية على مستوى ممالك المدن كالأسوار والقلاع العملاقة والمعابد والقصور وغيرها، الأمر الذ ي نجده حاضرًا في الجدارية على شكل احتفاء بقدرة العمل الجماعي على قهر قوى الموت، التي قد تصيب الفرد الأعزل في مقتل بينما تعجز فاعليتها السحرية عن قهر روح الجماعة الكلية: "هزمتْك يا موت الفنون جميعها، هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين. مِسلّة المصري، مقبرة الفراعنةِ، النقوش على حجارة معبدي هزمتك وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك الخلودُ".

القبر هو الغائب الحاضر في معركة الكائن البشري ضد الموت، ففي حين تغيب صورته عن الحضور والفاعلية في الحضارات أقامت تصوراتها العقائدية على خلود النوع البشري، نراه يحضر بأشكال ودلالات لا تنتهي في الحضارات التي تحفل بقيامة الموتى على نحو شخصي كما في المسيحية والإسلام.

القبر في هذه الحضارات علامة من العلامات الكبرى للقيامة، معبر باتجاهين متضادين يتمثل الأول بحركة هبوط نازلة نحو الأرضي والموحش، فيما يتمثل الثاني بحركة صعود طالعة نحو السماوي والمديني. القبر في الحضارة المصرية هو محطة لالتقاء روح الميت بجسد صاحبها من جديد الذي يجب أن يكون قد أُعد أو حُنط على نحو جيد كي لا تضل عنه، ثم لتواصل معه رحلتها في عالم الخلود الأبدي، مصحوبًا بعدد كبير من الأدعية والأدوات التي قد يحتاجها صاحبها. القبر في المسيحية مكان للألفة حيث يتم الاحتفاء بالميت كما لو كان ذاهبًا إلى حفلة عبر تغسيله وتعطيره وإلباسه أفضل الثياب، أما القبر في الإسلام فهو رحلة محفوفة بالمخاطر، ذلك أن وضعية الجسد في البرزخ أو القبر تتوقف على طبيعة روح صاحبها، فإما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.

عظام بشرية في خان الربيعة قرب مدينة النجف (Getty)

فيما نجد محمود درويش لا يقيم بالًا للقبر سوى تذكيرنا بحصته من التراب التي لا يريدها أن تبلغ أكثر من المتر والخمس والسبعين سنيتمترًا، المقابل لطوال قوامه، وما ذلك إلا أنه لا يقيم بالًا للقيامة "لي مِتْر و75 سنتمترًا، والباقي لِزهرٍ فوْضوي اللونِ، يشربني علي مهلي".

يرى الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه أن الحضارة الغربية ذات التصورات اللادينية قد عمقت لدى الإنسان الإحساس بالقلق تجاه مرحلة ما بعد الموت، الذي وإن مكنته من العيش لفترة زمنية أطول إلا أنها تركته يموت بلا أي أملٍ في خلودٍ ما. فيما يرى مواطنه إدغار موران أن التكنولوجيا الطبية الحديثة وإن لم تفتح الأفق لفكرة الخلود فإنها فتحت الأفق لاستبعاد الموت لفترة طويلة نسبيًا. ومع ذلك فإن مقاربة كل منهما لموضع القبر تبدو ظريفة، حيث يميل ريجيس لامتداح المقبرة من حيث كونها مكانًا أليفًا للالتقاء وتبادل الذكريات، كما هي موعد الأصدقاء. فيما يحرص إدغار على التأكيد على أهمية البحث في طقوس وداع للأشخاص اللادينيين، كالاستماع إلى موسيقى يحبونها أو إلقاء أشعار كانت تعني لهم الكثير، الأمر الذي يجعل مراسم الوداع نوعًا من التطهر النفسي، الذي يجعل الأحياء يغوصون في منبع الحياة، بينما هم يغرقون في هاوية الموت.

المعنى، معنى الوجود البشري في هذه الحياة الفانية، هو مغامرة روحية أو فكرية غايته الخلاص، أي البحث عن عزاء يعنينا لتحمل قسوة تبدد تجربتنا الشخصية

في كتابه "الإنسان إلهًا"، يتنبأ يوفال هراري بحدثين وجوديين سيغيّران وجه الإنسانية الحالية ومصيرها، ويقلبان كل تصوّراتها وتراتبياتها الرّاهنة: هيمنة الذّكاء الصّناعي على الذّكاء الطّبيعي، والانتصار على الموت الطّبيعي. حيث تتّجه البحوث الطّبية حاليًا نحو دمج الذكاء الصناعي في علم التناسل، أي تحسين النّسل بتزويد المواليد الجدد بمعطيات صناعية ومعلوماتية، وهذا من شأنه أن يخلق أجيالًا جديدة تُهيمن بسهولة على الإنسانية الحالية وتجبُّها. ومتى ما وصلت إلى ذلك فإن الأجيال الخالدة الجديدة ستقطع نهائيًا مع المنظومات الثقافية والسياسية والقانونية التي بنتها الإنسانية الحالية على واقعة الموت والتناهي في الزّمن، سيكون عليها تأسيس أنظمة ثقافية وسياسية وقانونية بناءً على واقعة الخلود. إن إنسانًا خالدًا مزوّدًا بقدرات عقلية صناعية هائلة هو "الإنسان الإله".

اقرأ/ي أيضًا: البكاء في مواجهة الموت

يلفت لوك فيري، في كتابه "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، انتباهنا إلى أن القيامة والموت يقعان في صلب الدرس الفلسفي العام الذي يتجلى في البحث عن محاولة تحديد معنى الحياة، وأن المعنى لم يكن له أن يوجد لولا إحساسنا العميق بقسوة الموت الذي يصر على تهديد وجودنا المتعين في الحياة. المعنى، معنى الوجود البشري في هذه الحياة الفانية، هو مغامرة روحية أو فكرية غايته الخلاص، أي البحث عن عزاء يعيننا على تحمل قسوة تبدد تجربتنا الشخصية التي كوناها بالأنفس والمهج، سواء اختراع وهم العودة الأبدية المظفرة في الحياة الآخرة، أو عبر التفتيش عن سبب مغرٍ يجعلنا فخورين بما أنجزناه في حياتنا الغاربة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السحر وامتلاك العالم

الجسد الشرقي في منفاه الثاني