25-فبراير-2019

لقطة من فيديو مستوحى من "الغصن الذهبي" (Short Movie Club)

لم يتمكن المخيال الشعبي ذو النزعة الدينية، رغم كل سطوته المستمدة من النصوص المقدسة والحضور الفاعل للسلطة السياسية المشبعة بالأيديولوجية الدينية، من إقصاء المخيال الشعبي ذي النزعة السحرية من الحضور الطاغي في الحياة اليومية للمؤمنين، ذلك أن الوعي الديني، كما يقال، تنويع على وتر سحري واحد يتم فيه تجميع وفلترة رغبات الإنسان وأمانيه ليتم نقلها عبر وسيط يدعى الإله، بعد أن كانت تنقل وترسل إلى القوى الروحية المهيمنة على عناصر الطبيعة أو المجتمع الإنساني وجهًا لوجه ويدًا بيد. فالاستستقاء مثلًا، الذي يأخذ شكل تضرع للإله المتعالي عن البشر بقصد رجائه للتكرم بنزول المطر بعد طول انقطاع، لا يخرج في جوهره عن الطقس السحري الذي كان يمارسه أسلافنا البدائيون لحض المطر على النزول، باستثناء أن التميمة في السحر، التي عادة ما تكون ذات طابع زجري أو آمر، غالبًا ما تتحول في الطقس الديني إلى دعاء واستجداء وتوسل إلى إله كلي القدرة.

في مسار الممارسات السحرية بدت الكلمات بالنسبة للإنسان ذات قوة سحرية عجيبة

في المواقف التي يفشل فيها بعض الأشخاص المتدينين في تحقيق رغباتهم الملحة والعاجلة من خلال الدعاء أو الصلاة، تراهم لا يترددون في المرور بطقوس التجربة السحرية رغم حرمة هذا السلوك دينيًا، ربما لإيمانهم العميق المتأتي من وعي جماعي سابق، الوعي السحري، بقدرتهم الشخصية على قهر القوى الروحية التي تقف في وجه تحقيق رغباتهم أو أمانيهم، دون الحاجة إلى قوة الجان أو الشياطين أوالآلهة على ما قد يظنه البعض.

اقرأ/ي أيضًا: السحر وامتلاك العالم

في كتابه "الغصن الذهبي"، يذهب جميس فريزر عميقًا إلى رصد القواعد الذهنية التي يعمل أصحاب التفكير السحري على اتباعها عند محاولتهم التوصل إلى معرفة طبيعة الظواهرالمحيطة بهم، أو التي يعيشون بين ظهرانيها بقصد التأثير عليها وتوظيف قواها الخارقة لصالحهم أو منفعتهم، ليجدها تندرج في قاعدتين رئيسيتين: ترابط التماثل وترابط الانفصال. وفق قاعدة التشابه تبدو الظواهر المتشابهة لعقل الإنسان الأولي متماثلة وقابلة للتأثير على بعضها البعض عبر الأثير أو الهواء. فمن أجل حض السماء على المطر، وفق أصحاب المعتقد السحري، لا يطلب من الناس أكثر من تقليد حركة الغيوم التي تتسبب بسقوطه، سواء عن طريق إحضار دلو كبير والقيام بتحريك الماء الذي فيه بواسطة غصن شجرة، ومن ثم القيام بهز ذلك الغصن المبلول لتقوم قطرات الماء العالقة بأوراقه بالتطاير بالهواء، في رغبة أكيدة لدفع الغيوم المحملة بالمطر لتحذوا حذو سلوكهم الطقسي.

تيرنر/ إنجلترا (ويكيبيديا)

السحر وفق مبدأ التشابه بسيط جدًّا وإن كان من العادة أن تنهض به مجموعة محددة من أفراد القبيلة أو المجتمع، كما في حالات استدعاء المطر أو الفتك بالأعداء أو إكثار المحاصيل أو علاج المرضى، إلا أنه لا يحتاج لتخصص يذكر كما في بعض المناسبات الاجتماعية كالأعراس مثلًا، الأمر الذي تقوم به إحدى النساء عند رشها الأرز والقمح فوق رأس العروسين اللذين يهمان بالمشاركة في ليلة الزفاف، وما كل ذلك إلا لاعتقادها أن نثر الحبوب كمحاكاة لعملية البذار لا بد لها أن تضمن للزوجين الجديدين العديد من البنات والبنين. أما قاعدة الانفصال فتقوم على اعتقاد باطل على كون الجزء يظل يحتفظ له بعلاقة مع الكل الذي ينتمي إليه حتى بعد انفصاله عنه، فالشعر المتساقط من شعر الإنسان البدائي يمكن في عرفه أو وعيه أن يتسبب له بمقتل فيما لو قام أحد الأشخاص بحرقه أو تمزيقه أو دفنه في باطن الأرض، الأمر الذي لا نزال نجده عميقًا في حرصنا الشديد على التخلص من مخلفاتنا في أماكن بعيدة عن أيدي أعدائنا.

في مسار الممارسات السحرية بدت الكلمات بالنسبة للإنسان ذات قوة سحرية عجيبة، الأمر الذي تم استثماره من قبل السحرة على نحو فاعل، ففي سبيل رغبتهم لإلحاق الأذى بشخص ما، كانوا يعمدون إلى إحضار جمجمة شخص ميت ومن ثم ذكر اسم الشخص المراد إلحاق الأذى به في حضرة الجمجمة قبل طعنها بحربة قاتلة.

الأصل في السحر التماثلي أنه ذو طابع طقسي يقوم على المحاكاة باليد أو الوجه أو الجسد كله كما في حالة الرقص، إلا أنه مع الزمن أصبح الكلام جزءًا لا يتجزأ منه إلى الدرجة التي اكتسب فيها معنى جديدًا، بحيث صار يعرف بالتعويذة التي تردد أو تنشد أثناء القيام بطقوس محددة. ففي بلاد الصرب كان الأهالي يعمدون إلى تجريد إحدى الفتيات من ملابسها ويقومون بتغطيتها بالأعشاب والأزهار ويطلقون عليها اسم دودولا، التي كانت بدورها تقوم بصحبة مجموعة من فتيات القرية بالتجوال في حارات القرية على نحو راقص دون أن يتوقفن عن ترديد تعويذة جلب المطر: "نحن في القرية نسير/ والسحب في السماء تسير/ فنسرع الخطا/ وتسرع السحب/ هاهي قد سبقتنا/ فبللت الذرة ورطبت العنب"، أما التعويذة التي كان يرددها بعض الهنود في أورينكو في معرض أدائهم لطقوس جلب المطر، فكانت تربط بين الضفدع والمطر لاعتقادهم أن الضفدغ هو إله المياه أو سيدها: "عجل يا ضفدع يا درة الماء/ أرسل علينا الطل !/ لينضج القمح والدخن في الحقل".

مع اختراع الكتابة عمل القائمون على شؤون الممارسات السحرية على توظيف القدرة السحرية للكلمات المكتوبة على نطاق واسع، وما يزال بعض الناس يؤمنون بالقوة العجيبة والغامضة للتمائم والتعاويذ السحرية التي يحصلون عليها من المشعوذين، التي يقومون بكتابتها ضمن أشكال هندسية مثيرة للدهشة والافتنان. إذا كان الكثيرمن التعاويذ التي كانت شائعة في وقت ما فُقدت للأبد بسبب الموقف المتشدد من رجال الدين، الذين أمروا بإتلافها لأنها بنظرهم عمل من أعمال الشيطان، فإن الحظ قد حالف "كتاب الموتى" الفرعوني الذي لم يكن في حقيقته سوى مجموعة من التعاويذ السحرية التي كتبها كهنة الدولة المصرية حوالي 1550 ق.م، بقصد مساعدة الشخص الميت في رحلته إلى الآخرة.

جيمس فريزر (Getty)

في معرض دراسة فريزر للسحر، نراه يقاربه مع العلم بدلًا من الدين، وذلك لأن السحر والعلم يتفقان في النظر إلى العالم كنتاج لمجموعة من القواعد والقوانين الثابتة. إلا أن مشكلة السحر وإن كان يوظف بعض العمليات الذهنية كالتشابه والتماثل والجزء والكل، إلا أنه يفشل في إدراك العلاقة السببية بين الأشياء، حيث يفترض خطأً أن التشابه يؤدي حتمًا إلى إحداث علاقة سببية تنتقل عبر الأثير، وهو أمر مناف للصواب، ذلك أن القيام بمحاكاة شيء لا ينشأ عنه أي أثر أو تأثر كما كان يعتقد أصاحب التفكير البدائي، كما أن علاقة الجزء بالكل ليست علاقة دائمة بل هي علاقة متغيرة، ذلك إن انفصال الجزء عن الكل والتوقف عن كونه جزءًا من وحدة أو منظومة يلغي العلاقة بينهما وينفيها، الأمر الذي حدا بفريزر لأن يطلق على السحر وصف العلم الزائف.

السحر في العمق محاولة لضبط الفوضى الكبيرة التي تملأ العالم عن طريق عقلها، أي فهمها، إلا أنه نمط تفكير يتطابق إلى حد كبير مع تفكير الطفل الذي لم يتجاوز عمر السبع السنوات كما رآه عالم التربية جان بياجيه، فالطفل المفعجوع بموت كلب العائلة يعجز عن السبب الذي تسبب بموته، وقد يخطر على باله أن يعزوه إلى قسوته على الكلب الذي لعب معه البارحة، ذلك أنه لا يدرك السبب الذي قد يجعل الكلاب أو الكائنات الحية تموت، كما لا يدرك الفرق بين موت الكلب أو تظاهره بالنوم من أجل خداعه، وما ذلك إلأ لأنه لا يدرك مفهوم الموت بوصفه غيابًا أبديًا لا رجعة منه.

يرى بعض علماء الأنثروبولوجيا أن الدين جزء من السحر أو تنويع عليه، كونه يحمل في داخله جميع الثيمات الرئيسية للسحر، حيث يقابل الدعاء التميمة وتقابل الاحتفالات الدينية الطقس. إلا أن هناك فرقًا جوهريًا بين الدين والسحر لناحية أن السحر هو إيمان عميق بقدرة الإنسان على إحداثه الأثر المرغوب في ظواهر الطبيعة أو الممارسات الإنسانية، الأمر الذي يُظهره كعلاقة ندية بين أطراف ذات إرادات متقاربة، أما الدين فهو إقرارعميق أيضًا بعجز الإنسان عن التأثير في مسارات الظواهر المحيطة به، كما هو إقرار بالخضوع لأرواح هذه الظواهر واستعداده لعبادتها والعمل على كل ما يرضيها ويمنع غضبها. إلا أن هذا الخضوع لم يكن دومًا حازمًا أوقاطعًا كما لو أن لا رجعة عنه، ذلك أن الإنسان المتدين يظل في أعماق عقله يحنّ للممارسة السحرية كلما فشلت الممارسة الدينية التي يقيمها في تحقيق ما يصبو إليه على نحو عاجل، أو يظل يمارسها على نحو غير واع كلما تعرض لموقف قد يفقده أعصابه، كما في حالات الشجار أو التهديد به الأمر الذي يجد نفسه وقد انفجر في وجه خصمه بسيل طويل من السباب والشتائم، التي ليست في حقيقتها سوى نوع من اللعنات أو التعويذات السحرية التي كانت جزءًا من الطفولة السحرية التي عاشها أسلافه الغابرون.

يكمن الفرق بين السحر والدين في أن الإنسان مع الأول يظن أنه قادر على التأثير بالطبيعة والحياة، فيما يقر مع الثاني بعجزه الكامل

في سياق الحديث عن اللعنة السحرية، لا يمكن للمرء التغافل عن أكثر اللعنات الشعبية تداولًا، تلك اللعنة التي تتوجه لتصيب مقتلًا في شرف الآخر، والتي قد يجد قائلها الغاضب نفسه ينطقها في وجه خصمه وفق الصيغة التالية " يا ابن..."، لا شك أن هذه اللعنة تحمل في ثناياها شحنة مشبعة بالعدوان، ذاك أنها تذهب في جرأتها حد اتهام أم الملعون بالخيانة الجنسية، وهي خطيئة لا يمكن التطهر منها إلا بالقتل، القتل المعنوي هنا أو التحريض عليه بحيث لا يطال الأم فحسب، بل يتخطاها ليطال الأب المفجوع بانتهاك شرفه.

اقرأ/ي أيضًا: نساء اليمن.. حين يغيب الإنصاف يحضر السحر!

في مجتمع شرقي يقوم على فكرة نسب الأبناء لأبيهم، يعني ذلك قطع كل صلات الأب بالوجود، الأب الذي بلا أولاد حقيقيين من صلبه وفق بنية الثقافة الذكورية هو رجل بلا رجاء ولا أمل لنيل الخلود، خلود اسمه بين قومه وربعه وعالمه. تنطوي اللعنة في طبيعتها على العدوى، فمن الأم إلى الأب وصولًا إلى الابن، ثالوث مقدس من اللعنات. الابن الملعون، شخص مقذوف إلى المنفى بكامل عريه الاجتماعي، حيث لا أب ولا أم ولا عائلة يعود إليها. اللعنة في العمق رجاء بحرمان الملعون من رحمة الله، من الغفران والعفو، الذي قد يسعفه في العيش في مجتمع الأبرار الأطهار من جديد، ذاك المكان الذي ندعوه " الجنة". اللعنة في الواقع المتعين نقد، محاولة سحرية للحط من كرامة الآخر، نقد وضيع بالأرجل.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

المهدي المنتظر.. بين الواقع والأسطرة

البكاء في مواجهة الموت