11-مارس-2020

سد النهضة (AFP)

إثيوبيا تنسحب من اجتماعات واشنطن وترفض التوقيع على الاتفاق. السودان يرفض وضع اسمه إلى جانب مصر في بيان للجامعة العربية يتضامن مع الحقوق التاريخية للدولتين في مياه النيل، ويتحفظ على البيان.

أزمة سد النهضة بالنسبة للمصريين ليست أزمة سياسية أو تراشق كلامي بين دولتين، لكنها أزمة وجودية

السيسي يجتمع بقيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة ويطلب منهم الاستعداد لتنفيذ أي عمليات قتالية توكل إليهم لحماية الأمن القومي.

اقرأ/ي أيضًا: خيبة أمل وميكرفون صريع.. لماذا فشلت مفاوضات سد النهضة الأخيرة بالخرطوم؟

عناوين مثيرة، وربما مخيفة وتنبئ بسيناريوهات سيئة قادمة، لكنها ليست إلا قمة هرم جليد ما يختفي منه تحت سطح الماء أضعاف مايظهر.

أزمة سد النهضة بالنسبة للمصريين ليست أزمة سياسية أو تراشق كلامي بين دولتين، لكنها أزمة وجودية، تتعلق بمياه النيل التي هي مصدر المياه الوحيد تقريبًا لمائة مليون شخص، أدت إليها سياسات فاشلة لأنظمة سياسية تنافست فيما بينها على من يفاقم الأزمة أكثر، بدءًا من حسني مبارك الذي بدأت التحركات الإثيوبية للسيطرة على مياه النيل في عهده، مرورًا بالمجلس العسكري الذي أدار الفترة الانتقالية ولم يتخذ إجراء واحدًا للرد على إعلان أديس أبابا بناء السد، ومحمد مرسي الذي أذاع اجتماع إدارة الأزمة على الهواء ليصل إلى إثيوبيا والعالم أن مصر تتآمر عليها وتلجأ لألاعيب مخابراتية غير أخلاقية، ووصولًا إلى عبد الفتاح السيسي الذي تعامل في هذا الملف منفردًا ليوقع مرة على اتفاق مبادئ يعترف لأول مرة بالسد ككيان شرعي، ويُحلّف رئيس إثيوبيا على عدم الإضرار بمصالح مصر، في سابقة سياسية للتعامل بين الدول ربما تكون الأولى من نوعها.

سبق ذلك كله عقود من الغياب عن أفريقيا، فمصر التي كانت ملهمة لكل دول القارة في عهد عبد الناصر، تركت فراغًا كبيرًا في عصري السادات ومبارك، بعدما ولت وجهها شمالًا وغربًا وتعالت على عمقها الأفريقي، هذا الفراغ ملأته قوى أخرى من داخل القارة وخارجها تعادي مصر أو على الأقل تتعارض مصالحها معها، وحتى السودان الذي كان جزءًا من تراب مصر لقرون طويلة يقف الآن إلى جانب إثيوبيا لا مصر، لأن مصالحه المباشرة السياسية والاقتصادية مع أديس أبابا.

لكن الأكيد أن آخر ما يشغل بال المصريين الآن سؤال: من المتسبب في هذه الأزمة؟ لأن الأولية دائمًا لسؤال كيف نتجاوز هذه الأزمة؟

تحتاج مصر اليوم إلى "فؤادة" التي تفتح هويس سد النهضة ليشرب الناس والأرض، تحتاج في سبيل تأمين حصتها من مياه النيل لعدة تحركات عاجلة، لأن أي نقص في هذه الحصة ينذر بكارثة محققة في بلد يقبع أصلًا تحت خط الفقر المائي.

أولًا: أن تواصل حضورها في واشنطن وعملها مع المؤسسات الدولية التي تبدي استعدادا للتوسط، حتى وإن غاب طرفا الأزمة الآخرين، إثيوبيا والسودان، لتكون رسالة للمجتمع الدولي تكشف من يريد حل الأزمة ومن يريد تصعيدها وتعقيدها، ربما يؤدي ذلك لغضب أمريكي وغربي على طريقة إثيوبيا في التعاطي مع وساطتهم، ومن ثم لاتخاذ قرارات وإجراءات تحاصرها اقتصاديًا وسياسيًا وتدفعها للتراجع.

ثانيًا: أن تتحرك مصر ناحية الدول التي تمول مشروع السد وتعمل شركاتها فيه، وهي دول أغلبها تتمتع بعلاقات صداقة مع القاهرة، مثل ألمانيا وإيطاليا والصين، لمحاولة إبطاء إيقاع بناء السد وتشغيله عبر تجفيف أو تقليل مصادر تمويله، وإذا كانت هذه الشركات لا تعرف إلا لغة المصلحة فلتكن مصلحتها في القاهرة لا أديس أبابا، تقدم لها مصر في المقابل مثلًا حوافز استثمارية وإعفاءات ضريبية، أو تسند إليها مشروعات قومية مصرية كبيرة، تدفعها للتوقف عن تمويل السد والعمل فيه ولو مؤقتًا لحين الوصول إلى اتفاق.

ثالثًا: من حق السودان أن يبحث عن مصالحه المباشرة، لكن بقليل من الإجراءات الممكنة ستصبح مصالحه مع مصر أعمق وأقوى من مصالحه مع إثيوبيا، القرب المكاني والمشتركات الحالية والتاريخية، وحاجة كل دولة إلى الأخرى بوجود أشياء لدى كل طرف يحتاجها الطرف الآخر، يمكن أن تؤسس لعلاقة جديدة قائمة على الندية والتكامل وتحقق لكل طرف مسعاه وأكثر.

رابعًا: استغلال الأزمة الحالية في تخليق مصادر مياه جديدة وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من المصادر الحالية، المشروعات القومية الكبرى ليست فقط طرق وكباري ومدن جديدة سينال منها العطش مع أول تهديد لمياه النيل، محطات تحلية مياه البحر ستكون حلًا، الاستفادة القصوى من مخزون المياه الجوفية سيكون حلًا، استغلال مياه بحيرة ناصر سيكون حلًا ولو مؤقتًا، ورد النيل وحده يقتطع من حصة مصر ملياري متر مكعب سنويًا، عدم الاهتمام بتطهير وتسيير الترع والمصارف يستهلك رقمًا أكبر، تغيير ثقافة الناس في استخدام المياه أصبح لازمًا، أشياء كثيرة يمكن فعلها إن لم يكن لتفادي نقص حصة مصر في حالة تشغيل سد النهضة فلتجاوز خط الفقر المائي الذي يستقر تحته المصريون منذ سنوات.

خامسًا: أن تبقى كل الخيارات مفتوحة وألا ترى إثيوبيا من مصر فقط وطوال الوقت الوجه الناعم البشوش، لكن أن ترى أيضًا الوجه العابس الجاد المخيف، لا يرغب أحد في حرب يدفع ثمنها الأبرياء في البلدين، لكن الحرمان من المياه أيضًا اعتداء مباشر على بلد له سيادة سيدفع ثمنه أيضًا الأبرياء، ولابد أن يستوعب الطرف الآخر أن الرد عليه سيكون قويًا.

في مصر، بعد أن تؤدي السياسات المنفردة إلى كوارث، يتم استدعاء الشعب لمواجهة هذه الكوارث!

كالعادة دائمًا في مصر، ترتكب النخبة الحاكمة الأخطاء والحماقات دون استشارة ولا إشراك في اتخاذ القرار، وبعد أن تؤدي هذه السياسات المنفردة إلى كوارث، يتم استدعاء الشعب لمواجهة هذه الكوارث!

اقرأ/ي أيضًا: أزمة سد النهضة.. في الطريق نحو التصعيد؟

لن نخاطب النظام الحكام لأن آذانه مغلقة طوال الوقت، لكننا نخاطب الناس، فعندما طالبنا بمجال مفتوح وبسلطة رشيدة وحكم ديمقراطي، كنا نسعى لتفادي لحظات كتلك يودي بنا إليها الحكم السلطوي والقرار المنفرد وإقصاء الجميع، لو كان الأمر كذلك ما وصلنا إلى هنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ارتفاع جديد لأسعار المياه وحلول الحكومة المصرية: "معلش"

مصر.. إنها حرب المياه