28-ديسمبر-2015

أعمال بناء سد النهضة الإثيوبي (Getty)

لا أحد في مصر -لا المسؤولون ولا الإعلاميون- تعامل بجدية مع قرار إثيوبيا بتحويل مجرى نهر النيل. الكل يتصدر المشهد العبثي بالفعل، مضيفًا إليه عبثيته الشخصية، لا أحد صرخ في وجه أحد ليقول له إن المياه قضية أمن قومي. 

ما الأمن القومي؟ وما مصادر تهديده في مصر؟

تعاني أغلب المناطق العربية من ندرة المياه نظرًا للموقع الكائن في المنطقة الجافة، وشبه الجافة، من الأرض

جذور المفهوم تعود إلى القرن السابع عشر، خاصة بعد إبرام معاهدة ويستفاليا عام 1648 التي أسست لولادة الدولة القومية أو الدولة. يمكن اعتبار عام 1947 المحطة أو المنصة لانطلاق مصطلح الأمن القومي في المسرح الأمريكي، وبداية التشكيل التنظيمي المؤسساتي له بصدور "قانون الأمن القومي لعام 1947" عن الكونغرس الأمريكي، لكن بقية العالم تأخر في استخدام هذا المصطلح منطلقًا من الاهتمام بـ "الدراسات الاستراتيجية" كوسيلة لصياغة اجتهادات في التخطيط السياسي النشط حول رؤى مستقبلية"، وذلك وفقًا لإحدى الوريقات البحثية التابعة لـ"جامعة نايف للعلوم الأمنية".

يشير الدكتور شراقي عباس محمد في دراسة حول ذات الموضوع إلى أن أغلب المناطق العربية عانت وتعاني من ندرة المياه نظرًا للموقع الجغرافي الكائن في المنطقة الجافة، وشبه الجافة، من الكرة الأرضية، حيث قلة الأمطار وارتفاع درجة الحرارة وزيادة معدلات التبخر. ومنذ أكثر من ستين عامًا فقدت الأقطار العربية جزءًا هامًا من مياهها نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لبعض الأراضي العربية، بما فيها من مصادر للمياه العذبة مثل مرتفعات الجولان (سوريا) ونهر الأردن (الأردن)، وعلى جزء آخر من المياة الجوفية في الضفة الغربية وغزة في فلسطين.

كما تتجه معظم الدول العربية نحو نقص حاد في الموارد المائية وذلك لعدة عوامل داخلية وخارجية، أما العوامل الخارجية فأهمها على الإطلاق وهي ما يهمنا: التهديدات الخارجية من دول منابع الأنهار غير العربية مثل المنابع الاستوائية والإثيوبية لنهر النيل التي تشكل 85% من إيراد النهر، ومما زاد الطين انفصال جنوب السودان بعد استفتاء كانون الثاني/يناير عام 2011، وتوتر العلاقات بين مصر ودول منابع النيل، وعلى رأسها إثيوبيا. كانت النتيجة المترتبة على ذلك قيام دول الحوض إثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وكينيا، وبوروندي بتوقيع معاهدة إعادة تقسيم مياه نهر النيل فيما بينها، ضمن ما سمي باتفاقية عنتبي.

كيف أدرات الدولة هذا الملف؟

مصر أكثر دول حوض النيل اعتمادًا على النهر نظرًا لأنه لا يوجد بديل غيره لقلة هطول الأمطار بها وشح مصادر المياه الجوفية، وتتمثل الإمكانيات المتاحة لمصر من الموارد المائية في حوالي 60.7 مليار متر مكعب من مياه النيل. 

أعمى من لا يستطيع أن يرى أن للإدارة الصهيونية يدًا في إضعاف وإرهاق مصر والسودان للسيطرة على موارد المياه

أعمى من لا يستطيع أن يرى أن للإدارة الصهيونية، التي ليست بعيدة، يدًا في إضعاف وإرهاق مصر والسودان للسيطرة على موارد المياه في المنطقة، واستخدامها كورقة ضغط ضد المنطقة كلها حين يحين الأمر. هذا ليس ترويجًا أجوفًا لنظرية المؤامرة التي أدمنها النظام، وإنما قراءة في أجندات مستفيدة بالفعل من أي نزاع قد ينشأ في المنطقة على خلفية تغيير مجرى النيل الأزرق الذي قامت به إثيوبيا بالفعل.

المشكلة التي تواجه دول حوض النيل ليست في ندرة مواردها المائية على أي حال، بل سوء إدارة هذه الموارد، وبالتالي ضخامة الفاقد من هذه الموارد الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى 90% من إجمالي الأمطار الكلية. من ممارسات نظام مبارك، على سبيل المثال، أنه لم يستفد من الدول التي وقفت على الحياد من اتفاقية عنتبي، وهي دول لا يقع النيل من ضمن أولوياتها المائية مثل بوروندي والكونغو وإريتريا. 

أكّد تقرير بعنوان "أزمة المياه في المنطقة العربية"، للجنة الشؤون العربية في "مجلس الشورى المصري" عام 1991، على تورط إسرائيل في إثيوبيا في إنشاء ستة سدود على النيل الأزرق، وفي عام 1996 كشف وزير الري المصري عن وجود اتفاق بين الصهاينة وإثيوبيا لإقامة سد لتوليد الكهرباء، والغريب أن البنك الدولي وافق على تمويل المشروع دون أن يشترط موافقة باقي دول حوض النيل. 

وقد كشف المحلل السياسي مايكل كيلو في كتابة "حروب مصادر الثروة" أن إسرائيل لعبت دورًا كبيرًا مع دول حوض النيل لنقض المعاهدات الدولية التي تنظم توزيع المياه بين دول الحوض، ساعدتها في ذلك أمريكا لانتزاع نفوذ فرنسا من بعض دول حوض النيل، ووفرت لها كل سبل التأثير على إثيوبيا وكينيا ورواندا وأوغندا والكنغو، وقد كشف الكاتب عن اجتماع عقد في تل أبيب بين أعضاء بالكنيست ووزراء إثيوبيين تناول الاجتماع إقامة مشاريع مشتركة عند منابع النيل تتضمن إقامة أربعة سدود على النيل لحجز المياه وضبط حركتها في اتجاه مصر.

كيف ستتأثر مصر بسد النهضة الإثيوبي؟

ضخامة الفاقد من الموارد المائية لدول حوض النيل، تصل أحيانًا إلى 90% من إجمالي الأمطار الكلية

الضرر المحدق من إنشاء سد النهضة على مصر يكمن في العجز المائي المتوقع من أثناء فترة ملء الخزان، فنتائج الدراسات العلمية تشير إلى أن تخزين 74 مليار متر مكعب من المياه المتجهة إلى مصر عبر النيل الأزرق سيهدد ببوار الأراضي الزراعية، في الوقت الذي تعاني فيه مصر فقرًا مائيًا، فمن المعلوم أن سد النهضة الإثيوبي سوف يترتب عليه خفض حصة مصر من المياه بحوالي 15 مليار متر مكعب من المياه سنويًا في الوقت الحالي. 

ومن المتوقع ارتفاع احتياجات مصر بحلول عام 2050 إلى ما يقرب من 21 مليار متر مكعب فوق حصتها الحالية لمواجهة الزيادة السكانية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى بوار خمسة ملايين فدان من الأراضي الزراعية لمصر، وما قد يترتب علي ذلك من تشريد أكثر من ستة ملايين مزارع أو فلاح مصري، وبالتالي ظهور المجاعات ومشكلات يصعب السيطرة عليها، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة تحلية مياه البحر لتعويض العجز الذي سوف ينتج من بناء سد النهضة.

يبدو أن مصر ستدخل معركة اختارت لها قيادة غير رشيدة أن تدخلها، وستدفع ثمنها أجيال ستسدد فاتورة هذا الاختيار. وللأسف ستكون حربًا عسكرية مصر ليست في حاجة لها ولا مستعدة لها أصلًا!

___

اقرأ/ي أيضًا:

مصر تحت حكم المماليك.. مشاهد ووقائع فاضحة

مصر التي تنتحر