11-مايو-2018

بيروت مدينة أنانية سريعة التغيير (ألترا صوت)

كلنا أنانيون عندما يتعلق الأمر بالمدينة التي نحبها، نريدها أن تبقى كما هي، أن تبقى المقاهي في أماكنها، أن تحافظ على نفس عدد الأشجار، وألا تُغلق متاجرنا المفضلة، وألا تتجدد الكتب في المكاتب، وألا يكبر موزع الجرائد. ربما نريد أيضًا أن لو غبنا عنها عشر سنوات فنعود لنجدها كما كانت دائمًا!

بيروت من أكثر المدن أنانية لأنها تتغير دائمًا وتغيرك معها، وإذا ابتعدت عنها قليلًا فستجد حين عودتك أن كثيرًا من الأشياء قد تغيرت

في بيروت الأمر مختلف، لأنك في العلاقة معها، أي علاقة الفرد بالمدينة، لن تكون أنت الطرف الأناني، لأن بيروت من أكثر المدن أنانية، لأنها تتغير دائمًا وتغيرك معها، وإذا ابتعدت عنها لأسبوع وعدت، ستجد أن آلاف الأشياء قد تغيرت فيها. تعاقبك لأنك ابتعدت فتسلب منك أكثر ما تحب.

اقرأ/ي أيضًا: إخلاء أبنية بيروت القديمة.. من يطمس هوية المدينة؟

إذا رجعت 10 سنوات إلى الوراء، كنت ستتعثر خلال تجوالك في شوارع المدينة، بالمئات من باعة أوراق اليانصيب اللبناني، والبائع لم يكن يكتفي ببيع حلم الجائزة الكبرى للناس، بل كان يحمل معه صندوق أسود صغير ليسترزق ببيع الساعات والحلي والعطور المزيفة التي تحمل أسماء ماركات عالمية. أما الآن، قد تلتقي صدفةً كل شهر ببائع واحد، ليحاول أن يقنعك أنك أنت الفائز الأكبر، وأن ما بين يديه هو الكنز الذي كنت تبحث عنه طوال حياتك.

ومن جملة الأشياء المتغيرة، أعداد متاجر الخضار والفاكهة، ومتاجر بيع اللحوم والدجاج. الحي الذي أسكن فيه ببيروت، يطلق عليه حي سوق الخضار، لأنه في السابق كانت متاجر الخضار موجودة فيه على امتداد الشارع. لم يبقَ فيه سوى ثلاثة متاجر صغيرة، جميع المتاجر الأخرى أغلقت، بعد أن اجتاح المدينة فايروس "السوبرماركتس الكبيرة". وباتت الناس تشتري خيارة واحدة من هذه المكعبات الاستهلاكية، بنفس سعر كيلو الخيار في المتجر الصغير. واعتادوا على شراء اللحوم المثلجة بدلًا من وقوفهم في السابق على أبواب الملاحم في الصباح، لشراء اللحوم الطازجة.

طال الأمر محال الهدايا، ففي السابق إذا كنت مدعوًا لحضور حفل عيد ميلاد، أو أي مناسبة، لم تكن لتتردد في شراء دمية محشوة بالقطن، أو ساعة تعلّق على الحائط. كانت الهدايا شيئًا رمزيًا وعبارة عن عربون محبة، بالرغم من أن قيمتها المادية قد لا تساوي شيئًا.  لكن بعد أن تغير أسلوب حياة الشعب اللبناني، بدأت هذه المتاجر بالإغلاق الواحد تلو الآخر، وما لم يغلق منها بات خاويًا على عروشه، أو ببضاعته القديمة دون زبائن. 

وعلى الأرجح لا يوجد شخص لم يسمع بشارع الحمرا في بيروت، الذي يعرف بشارع الفن والثقافة. المهزلة أن هذا الشارع الذي اشتهر في أوائل السبعينات بمقاهي الرصيف وصالات السينما، بات اليوم شاهدًا على  إغلاقها واحدة تلو الأخرى، ما وضع الرومانسيين الشغوفين بالسينما أمام خيار وحيد، أن يلجؤوا إلى الشركات الكبرى مثل "VOX" وغراند سينما، لإشباع حاجاتهم السينمائية.

سينما الحمرا في السبعينات
سينما الحمرا في السبعينات

أسوأ ما في الأمر أن التغيير أصاب المباني أيضًا، وتحولت بيوت بيروت القديمة، ونوافذها و"أباجوراتها" الملونة، إلى شبابيك زجاجية شفافة، وشرفاتها المزينة بالورود لشرفات تختبئ وراء ستائر يغطيها الغبار.

المقاهي القديمة المليئة بالكراسي الخشبية، والرجال الكبار في السن، يتناقشون في السياسة، ويلعبون طاولة الزهر أو ورق الشدة، ويقرؤون الجرائد الورقية وإلى جانبهم أكواب عملاقة من الشاي الأسود، كل ذلك تغير وتبدل حاله.

في سنتي الجامعية الأولى كنت أقصد المرور من شارع صغير فيه مقهى قديم، أمام بابها قضبان حديدية زرقاء، وبداخلها تجمع رجالي. كنتُ كلما مررت بمحاذاتها شعرت بروح بيروت تسكنني. هؤلاء جلساء المقهى هم الذين عاشوا الحقب الأجمل، والشيب على رؤوسهم يحفظ جميع قصصهم التي أرغب في سماعها. لكن للأسف، أغلق المقهى، واسودّت قضبان الحديد، وافتتح مكانها متجر صغير لبيع الهواتف.

تتحول بيروت لسوق رأسمالي كبير، يأكل كل ما يقابله في مقابل أن يكسب. لذا إن كنت مصابًا بمرض التعلق، فإياك وزيارة بيروت

اعتبرتُ إغلاق ذلك المقهى أمرًا شخصيًا، وكأنها رسالة من العالم، بأن كل ما أحبه سيختفي، وسيتحول العالم لمول تجاري كبير نختنق بداخله جميعًا. لم تعد للأبنية ولا للطرقات ولا المقاهي، روح، بل أصبحت مملة وفارغة.

تتحول بيروت لسوق رأسمالي كبير، يأكل كل ما يقابله في مقابل أن يكسب. لذا إن كنت مصابًا بمرض التعلق، فإياك وزيارة بيروت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيروت مدينة من؟

بيروت.. علمينا كيف نكرهك!