08-مارس-2019

الروائية هدى بركات

الروائية اللبنانية هدى بركات كاتبة مقيمة على الأرض. ربّما من الصعب شرح توصيفٍ كهذا، أو من السهل فعل ذلك، ولكنّنا بكلّ الحالات، نقصد بالعبارة السابقة أنّ من كتبت "حجر الضحك"، لا تتجاهل الحدث اليومي لصالح كتابة قادمة أو مبتكرة في دماغها فقط. بل تتحوّل، في الآن ذاته، وعملًا وراء آخر، إلى شاهدٍ على زمنٍ مستمرٍّ في الانزياح والانزلاق عن طبيعته الإنسانية دون هوادة، مُنشغلةً في الوقت نفسه ببشرٍ مهمّشين، تلتقط حكاياتهم من الشوارع الخلفية للحياة اليومية البائسة، أي تلك التي يعيشون.

تُعيد هدى بركات في روايتها الجديدة "بريد الليل" تشييد عالمٍ متهدّم

تُعيد بركات في روايتها الجديدة "بريد الليل" (دار الآداب، 2018)، تشييد عالمٍ متهدّم. تُحاول إعادة بنائه مجدّدًا، ببطءٍ وهدوء، فكرةً فوق فكرة، وحجرًا فوق حجر، بنفسٍ طويل، وخبرةٍ واعتناء في العمار. إعادة البناء أو الإعمار تحدث في هذه الراوية لغرضٍ واحدٍ فقط، هو إزالة بركات للأنقاض من فوق قصص بشرٍ يرفعون الصون بحدّة للإشارة إلى فقرٍ طويل الإقامة، وقهرٍ متوغّل في القدم أيضًا، فنخرج بخمس حكايات يرويها أصحابها على شكل رسائل موجّهة إلى خمسة أشخاص آخرين، ويتشارك الجميع، مُرسِلًا ومُرسلًا إليه، البؤس وسوء الحظ.

اقرأ/ي أيضًا: الحرب الأهلية اللبنانية في خمس روايات

هكذا، تكون كلّ رسالة في "بريد الليل" حكاية تستعيد ماضيًا مضى، أو تستهجن حاضرًا يحدث لتوّه. والحكاية في الرواية مشتقّة من الحكاية التي سبقتها. ومن خلالها، تمهّد هدى بركات للحكاية التي سوف تتبعها، فيقف القارئ أمام سيل حكايات تختلف وتنعطف بحيث تكون كلّ واحدةٍ منها متمايزة عن الحكاية التالية. ولكنّها، في الأصل والجوهر، مترابطة ومتّصلة ببعضها البعض، وتلتقي جميعها في حكاية واحدة، يخرج بها القارئ في نهاية العمل، وهي حكاية العطب الداخلي المزمن، ذلك الذي ينخر روح شخصيات الرواية في الوقت الذي تُحاول فيه، من خلال الكتابة، إعادة ترميم حياةٍ مضت وانتهت دون نفع.

تفعل أوّل شخصيات العمل ما سبق وأن ذكرناه، أي تكتب لغرض إعادة بناء ما يُمكن بناؤه من حياةٍ ضلّت الطريق فجأة، وانحرفت عن المسار الصحيح. يقود الزمن هذه الشخصية، وككلّ شخصيات "بريد الليل"، إلى مآلٍ غير متوقّع، فتجد في الكتابة والبوح مرآةً تًحاول أن تعرّي ذاتها أمامها بخفّة، وعلى مرأى من نفسها ومن القارئ أيضًا. هنا، تتحوّل الكتابة، أو مُخاطبة الآخرين، إلى نوعٍ من الاعتراف بما يؤرّق هذه الشخصيات. ويشكّل الاعتراف بدوره بورتريهًا للمتكلم عند القارئ أوّلا، وعنده ثانيًا، أي المتكلّم الذي يعيش غربةً عن نفسه، وعن الآخرين، وعن المكان كذلك.

وعدا عمّا سبق، يكتب الراوي في الرسالة الأولى بداع التحرّر، فهو حين يقول، مُخاطبًا الفتاة التي يُحب: "وأنا، ينبغي لي القول، خائف، مرعوب، وحيد، مستوحش وعدائي مذ تحرّك القطار. وعندي رغبة عميقة في إيذاء شخص لا أعرفه، حتّى لا أجد له أعذارًا (...)، أطلق رغباتي من دون استعمال عقلي، إذ يبدو لي أحيانًا عقلي هو عدوي الأوّل"، إنّما يريد أن يتخلّص من مما ذكره، وأن يبرّر الأذى الذي يُلحقه بتلك الفتاة.

من خلال اعترافاتٍ كهذه، يُصارح الراوي نفسه بها قبل القرّاء أو عشيقته، نعرف أنّ القطار، ذلك الذي وضعته أمّه فيه صغيرًا، مُرسلًا إلى المدينة، لأنّه أشدّ إخوته ذكاءً، يتشارك مع أمّ الراوي مسؤولية البؤس الذي يعيشه الأخير الآن. نعرف كذلك هذه الحادثة شكّلت عنده رغبةً في الانتقام من والدته التي كانت "تُعنى بالدجاجة المريضة (...) ولا تتركها إلّا بعد أن تتعافى"، في الوقت الذي كانت قد قذفته هو في "قطار الأرياف ككيس قمامة". ولكنّ الأمّ ماتت، أي أنّه لم يعد هناك مجال للانتقام. ولكنّ الفتاة التي يحب تنوب عنها في تلقّي أذى الراوي، فهي قبلت بأن تكون له أمًّا صغيرة، وفي أوقات متقّطعة، وهو قبل هذه اللعبة ليُفرغ ما يعتمل في صدره فقط.

نعرف، كقرّاء للعمل، ومنذ الرسالة أو الحكاية الأولى، أنّ من ألّفت "ملكوت هذه الأرض" دفعت بهذه الشخصيات لأن تروي، في شكل رسائل، سِيَرَها بنفسها دون تدخّل من أحد، لسببٍ واضح، وهو أن تضعها أمام فرصة أخيرة للتصالح مع الذات. وأيضًا، للتحرّر والتطهّر والتخفّف من عبء السيرة.

تتحوّل الرسالة نفسها هنا، عند هذا الحد، إلى صنفٍ من أصناف مساءلة أو محاكمة الذات. بل تقطع مسافاتٍ ابعد من ذلك، حين يتحوّل السرد إلى فسحةٍ لتعرية الذات أمام مرايا متعدّدة الوجوه والانعكاسات، بالإضافة إلى محاكمةٍ للماضي والحاضر، أي اللحظة التي تُكتب فيها الرسالة أو الحكاية، لا فرق. وكذلك، في جانبٍ آخر، تُمارس هذه الشخصيات فعل الكتابة بهدف إمّا إعادة تأسيس حياة جديدة، وتكوين نفسها من جديد، أو لتؤسّس لنهايةٍ لا يتدخّل أحد في صياغتها نيابةً عنها، بعد أن صاغ الآخرون كلّ ما عاشوه قبلًا.

كانت شخصيات العمل تعيش وفقًا لخطٍّ مستقيم لا يشوبه أي انحراف، قبل أن ينحرف الخط فجأة، ليتحوّل الطريق المُفرد إلى طرقٍ متعدّدة، والطريق المستقيم إلى آخر بانعطافاتٍ حادّة، متوازية تارةً، ومتقاطعةً تارةً أخرى، متقاربة ومتباعدة، منحنية وملتفّة في الآن ذاته. فالمومس في "بريد الليل" تكتب مُخاطبةً شقيقها لتتصالح مع فكرة أنّها مومس، ولكن لتنفي كذلك، في الوقت ذاته، فكرة أنّها عاهرة وأنّها تُمارس الجنس مع الرجال لأنّ أمّها شديدة التذمر مما ترسلهُ لها من أموالٍ نهاية كلّ شهر، فاضطّرت لأن تتحوّل إلى مومس لتجني أموالًا أكثر. تقول: "كسرتني الخدمة. صرت خادمة لكلّ شيء، ولأي شخص... لو كان هناك نشيد لخدّام الأرض لحفظته ولم أتوقّف عن ترداده. (...)، هذه ليست حياتي، لا أدري كيف انزلقت فيها، ولا من دفعني دفعًا لأتسربل بمصيري هذا وأقفل كلّ الأبواب ورائي".

تكتب هدى بركات في "بريد الليل" حكاياتٍ بشرٍ ذهبوا بحالٍ وعادوا إلى أنفسهم بحالٍ أخرى

الجلّاد يُخاطب أمّه لينفي عنه هذه الصفة، وليؤكّد لها أنّه تحوّل من ضحية إلى جلّاد حتّى لا يتحوّل إلى جثّة هامدة في أقبية أجهزة الأمن. ولكنّه صار يتلذّذ لاحقًا بقوّته وطعم تحوّله العجيب. "صرت أنا من يرهب الخليقة، فيصبح الناس عند قدميّ كالجرذان المصعوقة، وينادونني "سيدي". مصير كهذا لم يختره الراوي بنفسه إذًا، ولن يختار المصير الذي سوف يتلوه أيضًا، حين تهجم جموع البشر على مراكز الأمن، فيفرّ هاربًا إلى دولةٍ أخرى، دون أوراق لجوء أو إقامة من الممكن أن تدلّ على مهنته السابقة كجلّاد. يقول: "سيحاسبني ربّي، وسأسأله ماذا كان في إمكاني؟ ماذا كان في إمكاني بعد أن رميتني في الأتون؛ في أتون جهنم، وبعد أن تخلّيت عنّي؟؟".

اقرأ/ي أيضًا: 5 من أبرز الروايات النسائية العربية

تكتب هدى بركات في "بريد الليل" حكاياتٍ بشرٍ ذهبوا بحالٍ وعادوا إلى أنفسهم بحالٍ أخرى انكبّوا على اكتشافها من خلال رسائل أقرب إلى الاعترافات كما بيّنا أعلاه، أو اعترافاتٍ خالصة تتستّر في شكل رسائل. وكما في كلّ أعمالها، تنشغل بمعاينة التفاصيل المهملة، تلك التي تسقط عادةً من السرد، أو لا يلحظها في حركته المتسارعة. وفي الآن ذاته، تطرح جملةً من الأسئلة، من قبيل: من أين تأتي مأساة أشخاص سارت حياتهم في بداياتها مغمورةً بالراحة والطمأنينة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

الروائية روزا ياسين حسن: لا نجاة لنا بغير الفنّ

أديل الخشن: أيتها الريح توقفي خارجًا