09-فبراير-2017

التعليم الخاص مكلف للغاية في مصر ويخضع للمحسوبيات والطبقية (الأناضول)

حين تتحول خدمة أساسية مثل "التعليم" في مصر إلى خدمة غير مجانية، ما الذي يمكن أن يفعله الآباء في عدم قدرتهم على تحمل هذا العبء؟ كيف يمكن التخطيط لمستقبل الأبناء إذا كانت المصاريف الدراسية أرقامًا "فلكية" تزداد كل عام، وكل وعود عدم الزيادة لا يُلقى لها بال من أي مسؤول مصري؟ هل الزيادة في المصروفات والمساحات الخضراء الواسعة والملاعب المجهزة تجهيزات فخمة تعني أن المدرسة أيضًا ستعتني بنفس القدر بالإنسان الذي هو المقصد الحقيقي من وراء العملية التعليمية كلها؟ وإذا استطاع القادرون من أبناء البلد الاستفادة من تجاربهم ومجاراة الغلاء ولو بشق الأنفس، فماذا يفعل السوريون من غير أهل البلد؟ هل يتكيف الأبناء؟ هل يقدرون على الاستمرار في المدارس وسط الاختلافات الكبيرة في المناهج التعليمية؟

تعاني العملية التدريسية في مصر من إقحام التجارة في التعليم الخاص والرسمي يتدهور بسبب قلة الرقابة وتطوير المناهج

 

كنا نبحث دومًا عن آراء الآباء لأنهم "المطحون الأول" في قصة العملية التعليمية في مصر، التي تتعدد فيها أنظمة التعليم الأمريكية والبريطانية والألمانية، والعادية الحكومية. يتألف نظام التعليم العام في مصر من 3 مستويات: مرحلة التعليم الأساسي من سن 4-14 سنة: رياض أطفال لمدة سنين، ثم 6 سنوات مرحلة ابتدائية، وبعد ذلك 3 سنوات مرحلة إعدادية. ويتبع ذلك المرحلة الثانوية لمدة 3 سنوات من سن 15-17 سنة ثم مرحلة التعليم العالي. ومعظم من تحدثنا معهم كان أبناؤهم في مرحلة من رياض الأطفال إلى الابتدائية، لأنها المرحلة التي نعرف جيدًا أنها أول احتكاك للآباء بنظام التعليم. سألنا الآباء حول مصاريف المدارس وعملية القبول، ومستوى المدرسة من حيث الأخلاقيات وجودة التعليم، والكيفية التي يختار بها الآباء المدارس والخبرات والخلاصات النهائية التي خرجوا بها من تجاربهم.

اقرأ/ي أيضًا: من طبَّق لأول مرة مجانية التعليم في مصر؟

تحدثنا مع السيدة رانيا تهامي، وهي أم لطفلة في الثالث الابتدائي تقول: "كانت تجربتي على سنتين الأولى في التقديم لابنتي في المدرسة ثم في التحويل، وكان عندي عدة شروط أهمها، أن تكون المدرسة مهتمة بالجانب الديني إلى حد ما، وأن تُعنى المدرسة بالجانب النفسي والسلوكي للطفل. بالنسبة للجانب المادي كنت أبحث عن معدل لا يزيد كبداية عن 12000 جنيه مصري أي ما يعادل تقريبًا 630 دولارًا منذ عدة سنوات كان هذا الرقم معقولًا جدًا، وكان من الممكن أن أجد مدرسة بهذه الأسعار"، موضحة: "كانت التجربة كارثية رغم كل ما يبدو براقًا في البداية. فلا هناك اهتمام بالنظام ولا بالمعلومة ولا بمدى تلقي الطفل، لذا بدأت أبحث عن مدرسة بديلة ووسعت الميزانية المخصصة أملًا مني في أن أجد شيئًا أفضل".

 تستطرد رانيا: "ستجدين كل الشكاوى من المدارس واحدة ولن تجدي أحدًا يقول شيئًا مختلفًا. قصة التعليم الناشونال والإنترناشونال والفروقات المادية بينهما. الجميع يسعى إلى حشو دماغ الطفل ويتعامل مع دماغه على أنه صندوق. وأنا هنا أجاهد في البيت لكي أحطم هذه الفكرة، حتى وصلت إلى أن ابنتي لا تقدس العلم من المدرسة وتعلم أن هناك أشياء كثير يمكن أن تكون مصدرًا للمعرفة. وهي الآن أيضًا ترى أن الامتحان ليس مقياسًا وكلما وجدت أحد المدرسين يفهم ذلك انطلقت وعبرت عن نفسها بشكل أفضل".

تتعامل بعض المدارس الخاصة في مصر بطبقية وتمييز بين الطلاب وبعض المدارس تهتم بمظاهر المدرسة ومكوناتها وتتناسى التعليم

لكن بالتطرق إلى نظام المدارس والقدرة على إدارتها فإن الأمر صعب ولأنها مشاريع تجارية فهي مرتبطة بشخص المدير، هذا ما أشارت إليه السيدة وفاء المنشاوي، وهي ربة منزل وأم لأربعة أطفال. تقول: "نعم المدير هو عصب الإدارة، وهو الشخص الذي ترتكز عليه الإدارة في المدرسة. إذا مرض أو مات قد تنهار الإدارات وهناك مدارس لا تعود كما كانت"، وتضيف فيما يخص معاييرها في اختيار المدرسة: "التجربة الأصعب كانت مع ابني الكبير الذي غيرنا له المدرسة ثلاث مرات. كنت أبحث عن مدرسة تراعي الجانب الأخلاقي مع العلمي. وتمنح المساحة للأبناء ليمارسوا مزيدًا من الخطط خارج المدرسة. وأن تتفهم المدرسة الفروق الفردية بين الأطفال، كنت في مدرسة تعاير فيها المعلمة ابني بمستواه وذهبنا إلى أخرى قالوا لنا فيها من ليس معه مصاريف النظام الأجنبي فليلتحق بالعربي. ورأيت مدارس بها معامل مجهزة تجهيزات عالية وملاعب فخمة وأبنية جميلة لكن الاعتناء بالطالب صفر. ثم اهتديت في النهاية إلى المدارس القومية وهي مدارس خاصة ولكنها تتلقى دعمًا حكوميًا وهي 39 مدرسة على مستوى الجمهورية".

هناك بندان ينمان عن استغلال رهيب لأموال الآباء منها، بند التقديم وهي الورقة التي يتم ملؤها لاستكمال بيانات الطالب وقد يصل سعرها إلى 200 دولار (حوالي 4000 جنيه مصري)، وهي مصاريف لا يتم استردادها وإجباري دفعها حتى وإن لم يتم قبول الطالب في النهاية، والبند الآخر هو بند الباصات التي يصل سعر الاشتراك فيها إلى أكثر من 250 دولار شهريًا (4000 جنيه مصري).

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. انسفوا "حظيرة" التعليم العالي

أما الدكتورة صفاء عبد المنعم فلها تجربة تمتد إلى أكثر من عشرين عامًا في التعامل مع المدارس وخاصة في الإسكندرية، فهي أم وطبيبة أطفال كانت تدخل "مطابخ الإدارات في المدارس" تجربتها روتها لـ"ألترا صوت" فيها حقائق مذهلة حول عبثية وشللية نظام التعليم.

تقول السيدة صفاء: "إحداهن كانت كابتن ألعاب رياضية ثم تقاعدت وقررت أن تنشئ مدرسة. ساعدها أحد أقربائها لأنه كان يعمل بالإدارة التعليمية. تبدأ المدارس بدايات واعدة. تشرف الإدراة على كل شيء وتتأكد من كل شيء ويتم الاستعانة بالكوادر ذات الخبرات الثقيلة في المجال مع إعطائهم مرتبات خيالية. ووعود للأهالي أن المصروفات لن تزيد بين كل مرحلة تعليمية وأخرى. تمتلئ المدارس بسرعة بسبب سمعتها. وبعد أن تتكدس الإدارات بطلبات الالتحاق يبدأ المستوى بالانحدار. أول شيء تزيد المصروفات بشكل سنوي قد يصل في بعض الأحيان إلى زيادة تعادل 30% متبعين سياسة الأمر الواقع. ثم يبدأ الانحدار ليطال مستوى المدرسين فيستقدمون مدرسين أمريكيي الجنسية قد لا يكونوا وصلوا في تعليمهم إلى الثانوية العامة لمجرد أنهم أمريكان، أو يستجلبون مدرسين من بعض الدول الخليجية من المصريين الذين عاشوا هناك دون أن يكونوا من ذوي الخبرة في التدريس. يعاني الآباء من نطق الأبناء بشكل سيئ ومن سلوكيات مضطربة من بعض المدرسين، هناك من الآباء ما يكون تغيير المدرسة بالنسبة له أمرًا صعبًا فيرضخ بعضهم للأمر الواقع".

تستقطب بعض المدارس أساتذة أمريكان من دون أي خبرة تعليمية أو حتى شهادات فقط لأنهم أمريكان

 تستطرد: "بعض المدارس الأخرى التي عاينتها تتبع استراتيجية تسويق مختلفة، فجاؤوا بأمريكية مسلمة وضعوها كواجهة للمدرسة. كانت تدخن أمام الطلاب -وكانت مثالًا سيئًا لهم- وكان الوتر الذي لعبوا عليه هو الجمع بين كونها أمريكية مع المسحة الدينية. كانت المظاهر الدينية تتلخص في حصص تحفيظ قرآن وبعض مظاهر الصلاة أما جودة التعليم في النهاية فهي لا شيء".

"الدبلومة" الأمريكية والبريطانية هي أحد الأنواع التي تفصل التعليم في المدرسة الواحدة بين ناشونال وإنترناشونال. طبقية تعليمية عبثية للطلبة في المدارس تحت سقف واحد يقوم فيها التمييز على أساس المال الذي في جيوب الآباء، تجعل من أصحاب الإنترناشونال لهم حديقة أوسع ومقاعد ملونة وصالات "جيم" مميزة بينما الناشونال تتعقد فيه الأمور إلى الحد الذي يُمنع فيه الطالب من ارتداء جاكيت بلون مختلف وقد يُعاقب بأخذ الجاكيت منه حتى لوكان يومًا باردًا شديد البرودة مثل معظم أيام الإسكندرية. أما الكارثة التي علمت عنها فيما بعد هي أن إحدى المديرات في المدارس كانت تقوم بعمل عقود سنوية قابلة للتجديد لأبناء العاملين بالإدارات التعليمية في مدرستها، بغض النظر عن تخصصاتهم لمجرد أن آبائهم في الإدارة التعليمية يقدمون لها تسهيلات وخدمات. وحين يخرج هؤلاء الآباء إلى المعاش أو يتقاعدون تقوم باختراع أي حجة لوقف تجديد العقود لهم، لأن الخدمات في الإدارات التعليمية من آبائهم توقفت، في حين أنه قد لا يتم التجديد لأحد المعلمين الممتازين مثلًا".

اقرأ/ي أيضًا: جامعة الأزهر.. "عزبة" عبد الحي عزب!

إذًا العملية التعليمية عملية تجارية في مصر من الدرجة الأولى فكيف نجا السوريون من هذا الأتون؟

تقول أم عمر وهي سورية تعيش في مصر: "عندي طفلان عمر 12 سنة ورهف عشر سنوات رفضت الإدارة التعليمية أن تُلحق أبنائي بالمدارس المصرية. كانت رحلة عذاب بحثت فيها عن مدارس لأولادي حتى وجدت أحد المدارس التي تبدأ وهي تابعة للإدارة التعليمية بمصر ولكن بكادر سوري. اللهجة السورية سهلت اندماج أبنائي في المناهج المختلفة. المدرسة تم إنشاؤها في حي 6 أكتوبر في مصر منذ عام مضى كانت مساحة صغيرة ثم أخذوا عمارة بأكملها مع مرور الوقت وبها طلاب مصريون أيضًا. مصاريفها حوالي 4000 جنيه مصري أي حوالي 200 دولار تقريبا بدون الزي والكتب وكلما تقدمت مراحل التعليم زادت المصروفات. أكبر معاناة كنا نعانيها كانت مع اللغة الإنجليزية. تعلمين أن التعليم بسوريا كان بالعربية، ثم بدأ بعض المدرسين بتقديم مراجعات للأولاد لمساعدتهم لأننا لا نقدر على مصروفات الدروس الخصوصية".

كانت الخلاصات التي حصلن عليها من الآباء هي أن التعليم في مصر واحد تقريبًا طالما أنه ليس باللغة الألمانية التي من بين كل ما سبق ذكره من تعليم تحقق نجاحًا غير مسبوق منذ عقود في مصر على المستوى الأخلاقي والأكاديمي. فمن الأفضل توفير مصروفات الدراسة المبالغ فيها إلى خطط أخرى كرحلات تعليمية أو ترفيهية أو لشراء مستلزمات مهمة لهم، وأن الجميع يُلحق أبناءه بالمدارس (أو كثيرًا منهم) فقط للشهادة وهم يعلمون أن العلم لا يُستقى أبدًا من منظومات تجارية.

اقرأ/ي أيضًا:

إلغاء خانة الديانة "جامعياً" في مصر: اشتعال أزمة

بمناسبة عودة الدراسة: العلم ومنظومة التعليم