25-مايو-2020

كاريكاتير لـ عماد حجاج

في أحد شتاءات مولدافيا القاسية، وبينما كنت متوجهًا صباح يوم ثلجي نحو مبنى الجامعة، اعترضني شاب قوي البنية، يحمل مجوعة من الصناديق الكرتونية المخصصة لنقل البضائع، طالبا مني العون بإخراج مفتاح منزله من جيب البنطال! ثم أن أفتح له باب المنزل. لم يكن بإمكاني تجاهل الطلب أو الاعتذار عنه، فمن المتعذر على الشاب وضع الصناديق على الأرض المبللة، ومن المحرج التغاضي عن وجود صديقته بقربه حاملة مثله بعض الكراتين.

حصلت جامعة كورنال يونيفرسال سيتي على حقوق حفظ وترميم برامج المايكرفون الخفي والكاميرا الخفية، في عام 1964

هكذا وبدون تردد مددت يدي في جيبه كي أخرج المفتاح. ولكنني ويا لهول المفاجأة، ألفيت نفسي ممسكًا بقضيب الرجل!

اقرأ/ي أيضًا: برامج الكاميرا الخفية في تونس.. تخمة الترهيب

قفزت من مكاني ساحبًا يدي مصعوقًا، غضبت ولكنني هدأت حين أخبرني بأن هنالك كاميرا تصورنا، وأن ذلك معدًا ليكون من ضمن برامج الكاميرا الخفية.

في طفولتي، أذكر أن شهر رمضان كان يأتي محملًا بالبرامج المسلية والمسلسلات التلفزيونية، غير أن أكثر البرامج التي كانت تستحوذ على شغفي كما تستحوذ حاليًا على جزء من الذاكرة كان الكاميرا الخفية.

أزعم بأن كل شخص منا قد حلم في يوم من الأيام بأن يكون صانع المقالب الذي يمازح الناس في الشارع، ثم يستولي على محبتهم بعد كشف الكاميرا المخبأة بعناية.

قد يعتقد البعض بأن الكاميرا الخفية كفكرة بشكلها الراهن حديثة المنشأ، لكن الأمر يعود في الحقيقة لتاريخ 28-6-1947، ففي ذلك اليوم بدأ بث برنامج بعنوان "المايكرفون الخفي" لمقدمه المدعو دوريان سان جورج في راديو إي بي سي الأمريكي، واستمر حتى تاريخ 23-9-1947، ثم انتقل البرنامج لتلفزيون الأي بي سي في العام التالي وذلك بون تغيير اسم البرنامج.

الخطوة التالية كانت في العام 1949 حيث بدأ تلفزيون إن بي سي الأمريكي ببث حلقات من الكاميرا الخفية تحت عنوان "الكاميرا الخفية"، ومن الجدير بالذكر أن العراب لفكرة الكاميرا الخفية كان اليهودي الأمريكي آلان ألبير تفانت، الذي أنجز فليمين وثائقيين يعتمدان على فكرة الكاميرا الخفية، الأول "ماذا تقول لسيدة عارية؟" أنتج عام 1970، وكانت الفكرة الرئيسية تصوير ردود فعل الناس بعد أن يدخل شخص عاري تمامًا عليهم فجأة، والفيلم الثاني "المال يتكلم" الذي أنتج عام 1972، وظهرت فيه شخصيات مهمة اعتباريًا كمحمد علي كلاي.

المتابع لحركة الكاميرا الخفية والمتتبع لها يدرك إذا أن الفكرة الأساسية كانت في جانب من جوانبها فكرة بحثية

حصلت جامعة كورنال يونيفرسال سيتي على حقوق حفظ وترميم برامج المايكرفون الخفي والكاميرا الخفية، في عام 1964، ثم اندلعت برامج الكاميرا الخفية كالنار في الهشيم في التلفزيونات في مختلف أنحاء العالم مع اختلاف الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أثبت رامز جلال أن الشهرة لا تعني النجومية؟

المتابع لحركة الكاميرا الخفية والمتتبع لها يدرك إذا أن الفكرة الأساسية كانت في جانب من جوانبها فكرة بحثية، لا تهدف للتسلية والترفيه فقط بل تهدف لإبراز جوانب مهمة من النفس البشرية قد نعجز عن رصدها في الأحوال العادية، وترصد أيضًا الحركة الاجتماعية في المحيط العام الحيوي الذي تتواجد فيه.

بذلك تغدو الكاميرا كعين المراقب، الذي يحمل هم مجتمعه، سابقة بذلك البرامج الواقعية وملغية الكثير من الزيف الذي يقدم للمشاهد، الذي يضع نفسه فورًا في موضع من ألقت عليه تلك الكاميرا نظراتها.

الفكرة أيضًا تأتي في سياق فني عام، تتنازعه المذاهب والمدارس الفنية من كل حدب وصوب، وفي سياق اقتصادي واجتماعي يتبدل بسرعة خارقة في تلك الأيام، متناسبًا مع سرعة التطور العلمي الذي يشهده العالم.

ولولا الشق القانوني والأخلاقي الذي نهض بقوة ليقف في وجه تيار الكاميرا الخفية، مناديًا بحق الإنسان في رفض تصويره دون علمه وما يترتب عليه من مشاكل شخصية واجتماعية، لسارت الأمور في اتجاهات لا يمكن التنبؤ بمدى أهميتها أو خطورتها بالمعنى الأدق.

هذا السد القانوني والأخلاقي أودى نوعًا ما بالبحثية التي كانت إحدى ثمار الكاميرا الخفية، ونحى بها بعيدًا عن الرصد نحو الترفيه والتسلية، ضامنًا لها مكانًا ضمن برامج هزلية كانت تعد للتفريج عن الناس ساعات القيلولة والاسترخاء.

تباينت لاحقًا الأفكار التي تعتمدها البرامج، فرغم أن المبدأ الرئيسي واحد، غير أن الأفكار كانت تتراوح بين جيد وممتاز وتافه، فمثلًا تم بث "Hidden Videos Totally".

لولا القانون الذي وقف في وجه الكاميرا الخفية، حيث نادى بحق الإنسان في رفض تصويره دون علمه، لسارت الأمور في اتجاهات لا يمكن التنبؤ بأهميتها أو خطورتها

على قناة فوكس الأمريكية منذ عام 1989 وحتى عام 1992 وبنجاح منقطع النظير، راصدًا بخفة دم خفايا المجتمع الأمريكي، وبرزت بوضوح الزويا الكاريكاتيرية المضحكة.

اقرأ/ي أيضًا: مثقفون جزائريون يدينون إهانة بوجدرة في برنامج تلفزيوني

مشهد من المشاهد التي أذكرها، أن فرقة من العساكر الذين تم حجبهم بسبب التدريب عن الخروج للشارع فترة زمنية طويلة، عانوا خلالها كل الحرمان من المتع، أتي بهم للتدريب لضفة نهر، وهناك فجأة تأتي فتاة جميلة لتفرش بساطها أمامهم، ثم تتعرى لتتعرض للشمس. الكاميرا ترصد نظرات الشباب واحدًا واحدًا، وألمهم حين يطلق المدرب الأوامر بالالتفات نحو الخلف أو الجهة التي لا يتمكنون فيها من التنعم بالنظر.

بطبيعة الحال يمكن التكلم كثيرًا عن الكاميرا الخفية في الغرب، غير أن ما يهمني حقًا هو الكاميرا الخفية في بلادنا بالشرق الأوسط، ولا أزعم بأنني سأتمكن من الإحاطة بكل شيء يخصها هنا في مقالة واحدة، لكن لا بد لنا من تسجيل بعض الملاحظات الشخصية حول الأمر. فالملاحظ بأن برامج الكاميرا الخفية العربية التي بدأت بالظهور على تلفزيوناتنا العربية كانت توظف للتسلية الرقيقة في البدايات، واعتمدت أسلوب المبالغة نوعًا ما، وذلك بالنسبة لي مفهوم، بسبب طبيعة الإنسان الشرقي واختلاف الثقافات، وطابع النكتة بشكل عام الذي يتميز بالوقع القوي.

النكتة تتناسب اطرادًا وشدة وطأة الحياة والمعاناة التي يعيشها الشرقي، وتحاكي همومه، وهواجسه، وتراعي أيضا عاداته ودينه ومعتقداته، وهذه القيود تلزم صانع الأفكار بالانصياع لها، وتوحي له من جانب آخر بأن مخالفتها قد تثير الحفيظة أو الغضب لدى من يرصد انتهاكها، وبالتالي فإن أي توتر أو غضب أو استفزاز قد يتعرض له مواطن ما، نتيجة لانتهاك العادات أو الموروث، سيثير الضحك في نفوس المشاهدين ممن يعتنقون مفاهيمه، لاعتقادهم بأن صاحب البرنامج ومعده متواطئ معهم قلبًا وقالبًا، وأن الاعتراف النهائي بعد كشف الكاميرا الخفية، سيكون اعترافًا بالمفاهيم والعادات ورسوخها، هذا سيثير الرضى والطمأنينة، بالإضافة إلى أن الغضب الذي يرشح من دخيلة المواطن الضحية والمغالاة في ردود الأفعال ستكون بمثابة التطهير الذي يقبل به المشاهد كما لو أن الفعل وقع عليه، وستكون بمثابة المرهم الذي يغطي جروح العجز التي ترهق المشاهد، العجز أمام المال والسلطة ومتعلقاتهما.

بدأت الكاميرا الخفية في بلادنا تتعسف بحق الإنسان طرديًا، فكلما ازداد الوجع ازدادت المقالب قسوة

ولذلك فمع تدهور الأوضاع سياسيًا واقتصاديًا في بلادنا، ومع ترافق ذلك بانفتاح هائل على عوالم الإنترنت، والاختلاط بين الجنسين، ومع استفحال القهر والعجز وتمكنه من النفوس، بدأت الكاميرا الخفية تتعسف بحق الإنسان طرديًا، كلما ازداد الوجع، تزداد المقالب قسوة، لأن ما يحمل المواطن على الضحك والتطهير سيكون بالضرورة معياريًا على نفس المستوى، وهنا فقدت الفكرة الشريفة في الكاميرا الخفية وضاعت تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: رامز جلال ومحمد رمضان.. هل حقًا الجمهور "عايز كده"؟

هل تتذكر يا سيدي القارئ، أو تعلم بأمر ذلك المقلب، الذي كانت فكرته ترتكز على التغرير بأي مواطن يمر بالقرب من سيارة متوقفة وقد دهست بالصدفة عملة ورقية من فئة الخمسمائة ليرة سورية؟ الكاميرا تقول لنا ما نتوقعه، أن أي موطن فقير سيحاول انتزاع الورقة النقدية بحرص كي لا يمزقها، وحين سيفشل سينتظر بصبر أن تتحرك السيارة، خلال ذلك سيسعى كي لا ينتبه لها أي شخص آخر، وستحدث المنازعات حين سيمر بالقرب منه متواطئ ما من أسرة البرنامج وينتبه بالصدفة للورقة النقدية أيضًا.

إذا سيتحول الصراع بين الشخصين إلى صراع على الوهم، فبدلًا من أن يكون السؤال: لماذا يضطر المواطن للانتظار ساعات من أجل خمسمئة ليرة سورية، مهدور الكبرياء والكرامة؟ سيصبح السؤال: كيف أحافظ على لقمة عيشي بوجه المواطن الآخر الذي يهددني؟

قد يعتقد القارئ الكريم بأنني أبالغ حاليًا، لكن العودة المتئدة لمشاهدة كل ما أنتج ممن برامج كاميرا خفية في السنوات التي سبقت الربيع العربي، ستفضح له الكثير من الأمور القاسية، التي ستكون أكثر بشاعة لو كانت غير مقصودة بأحسن الأحوال.

بعد الثورات العربية، أخذ الشكل بالتغير، وباتت المقالب جلفة ورديئة ومفتقرة للخيال والطرافة عمومًا، وانتهجت سبيلًا مختلفًا عن السنوات السابقة، فاعتمدت الطول وابتداع قصص ملفقة ثم إقحام المواطن بها، وتجريحه وإهانته والرمي عرض الحائط  بأحاسيسه، دون اكتراث بوضعه النفسي أو الاجتماعي، فالكاميرا الخفية التي تعتمد على تهييج المواطن المصري وخنقه حين يعلم بأنه قد ركب سيارة أجرة يعمل بها سائق إسرائيلي في القاهرة، تظهر لنا كرامة المصري وعزته ورفضه للتطبيع، لكنها تكرس واقعًا مفاده: المعاهدة مع إسرائيل تتيح للاسرائيلي بالتجول والسياحة بل والعمل، كما أن آخر همومهم ما يمكن أن يحدث للمواطن لاحقًا من أذى نفسي أو حتى جسدي، في ظل انعدام فرصه تقريبًا للمطالبة بأي تعويض قانوني.

ألا تشبه هذه الكاميرات الخفية شكلًا تلك الأنظمة التي تيسر لصانعيها عملهم وتضمن لهم قانونيًا الاستمرار؟

ماذا يعني لو أن مواطنًا رفض عرض المقلب الذي طبق عليه؟ هل سيكون له أحقية الشكوى؟ وماذا سيلغي عدم البث حقيقة أنه تم انتهاكه وانتهاك حقوقه؟

الأسئلة كثيرة فيما لو أردنا التبحر، وذلك ما يدركه القائمون على تلك البرامج المتعسفة والربحية، ولذلك فمن المفهوم تمامًا أن البرامج كلها اتجهت فجأة نحو اعتماد "الضيف النجم" كضحية للكاميرا. ذلك سيضمن لهم كما أرى الابتعاد عن إثارة الحنق، فبعد الثورات، لم يعد التعسف بحق الضحية مضحكًا للمشاهد، لأن نار البوعزيزي باتت أشد قوة كأثر ورسوخ في الذاكرة الحاضرة، وعبارات مثل: "أنا إنسان ماني حيوان " لم تبارح الوجدان بعد.

الاتجاه في الكاميرا الخفية نحو النجوم يعزز فكرة تريدها كل الأنظمة المديرة للمحطات، بأن الشارع بخير، وأنه يطلب الترفيه

كما أن الاتجاه نحو النجوم سيعزز فكرة تريدها كل الأنظمة المديرة للمحطات، بأن الشارع بخير، وأنه يطلب الترفيه، وأن الترفيه المطلوب ترفيه مبستر من الهموم، هو ترفيه مسعور، يساوي بين المواطن المسحوق والنجم المحبوب، ويحقق العدالة بينهما، فالاثنان يعانيان ويصرخان، ويتعذبان.

اقرأ/ي أيضًا: ألو جدة: بن علي سيعود

لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، فالخمسمائة ليرة التي كان المواطن ينتظر أن تتحرك السيارة لينالها، ولما يفعل.. تتحول في برامج ما بعد الثورات لعشرات الآلاف من الدولارات التي توضع في جيوب نجوم المرحلة. كما أن عذاب الكراسي المتشقلبة في الإستوديوهات لا يضاهي عذاب الكراسي والدواليب في المعتقلات.

إن ما نتابعه اليوم على الشاشات لا يختلف عما حدث معي حين حاولت إخراج المفاتيح من جيب المولدافي حامل المفاتيح. كلنا سيمسك القضيب فيما لو استمر بتصديق الكذبة الكبرى، كذبة أن الصناديق ثقيلة وأن حامل الصندوق بحاجة لمن يفتح لهم الباب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"اليوتيوبرز" في الجزائر.. قوة المنصات الحرة الناعمة

بن علي يحاور ساسة تونس على الهواء في رمضان!