12-يناير-2022

للقهوة دور في كثير من التغييرات التاريخية عالميًا

هذه المقالة منقولة عن برنامج Terra X في القناة التلفزيونية الألمانية ZDF ومصادر أخرى مع بعض التصرف.


كانت الطرفة في أصقاعنا الريفية تقول إن امرأة تزعم أمام جاراتها أن زوجها "مثقف" ولما سألتها الجارات ما تقصد بذلك، ردت بأنها لا تدري، "بس هو من يقعد الصبح يشرب قهوة" والشاي هو المشروب الشعبي الأكثر انتشارًا في تلك الأقاصي البعيدة عن العواصم وكثيرًا ما تربط القهوة، المرة تحديدًا، مع السياسيين والمثقفين.

السردية الأكثر تداولًا عن القهوة تقول إنه تم اكتشاف شجيرات البن البرية للمرة الأولى في القرن التاسع الميلادي في جبال أثيوبيا

السردية الأكثر تداولًا عن القهوة تقول إنه تم اكتشاف شجيرات البن البرية للمرة الأولى في القرن التاسع الميلادي في جبال أثيوبيا، حيث لاحظ راع أن عنزاته تضج بالنشاط بعد أن تأكل من ثمار تلك النبتة. وكانت الثمرة تهرس وتعجن غذاء للمحاربين الذين يبدون بسالة أكبر بعد تناولهم لتلك العجينة. ولم تبدأ النساء بتحميس البن ليعددنها من ثم في شكل مشروب إلا في وقت متأخر نسبيًا.

اقرأ/ي أيضًا: القهوة.. كيف أمكن لمشروب بُنّيّ اللون أن يغزو العالم؟!

وعن طريق اليمن وصلت القهوة إلى الحجاز ويبدو أن أولى القلاقل السياسية ذات العلاقة بالقهوة حدثت 1511. كانت القهوة مشروب الجماعات الصوفية ويقال إن أتباع الطريقة الشاذلية كانوا يتناولونها في حلقاتهم في اليمن. افتتح أول مقهى في مكة عام 1500 وانتشر تناولها هناك أيضًا بين حلقات الصوفية التي كانت شوكة في أعين النظام المتزمت وحراس الأخلاق. نظرًا لأن الصوفية كانوا يعقدون حلقاتهم في البراري ليلًا، كانوا يعمدون إلى شرب القهوة التي تنشطهم. وبما أن النظام الرسمي كان يعتبر الحركات الصوفية عمومًا نوعًا من أنواع المعارضة السياسية، فقد اعتقل الباشا حاكم مكة مجموعة صوفية، لم يعد يعرف الآن أي طريقة كانت تتبع، سنة 1511 وقدمها إلى القضاء بذريعة تناول القهوة التي صنفت في خانة المسكرات. خاصة أنهم كانوا يصبونها من أباريق حمراء ويتداولون الفناجين/الطاسات، الحمراء بدورها، كما تدار أقداح الخمر. قدم شيخ المجموعة فنجانًا من قهوته للقاضي داعيًا إياه إلى شربها ليتأكد بنفسه من أنها ليست مسكرًا، لكن هذا أبى أن يشرب "عمل الشيطان" وأمر بمعاقبة الصوفية نزولًا عند طلب الباشا، خاصة أن هذا جاء بطبيب، شاهد إثبات على أن القهوة مسكرة مثل الخمر. وعلى إثرها تم تحريم القهوة وصودر البن في جميع المقاهي، التي أغلقت، والمنازل وأحرقت الحبوب رغم غلاء سعرها، لما لها من أخطار على الشعب، ما يذكر بمحارق الكتب في عصور تالية. طبعًا لم يحسب السادة لحظتها خسارة الضرائب الناتجة عن استيراد البن.

بعد دخول العثمانيين إلى مصر 1517 انتشرت موضة شرب القهوة بشدة، بل إن عقود الزواج كانت تتضمن بندًا يحق للمرأة بموجبه طلب الطلاق إذا كان الزوج مقصرًا في تأمين القدر الكافي من القهوة. بالمناسبة اعتقل العثمانيون من حرموا القهوة في مكة ونكلوا بهم.

عن طريق مصر ودمشق وصلت القهوة إلى القسطنطينية، حيث انتشرت بيوتات اختصت بتقديمها باسم "كاهفه هان/خان"، الكلمة التي ستتحول في أوربا إلى "كافا"، "كوفا"

عن طريق مصر ودمشق وصلت القهوة إلى القسطنطينية، حيث انتشرت بيوتات اختصت بتقديمها باسم "كاهفه هان/خان"، الكلمة التي ستتحول في أوربا إلى "كافا"، "كوفا"، ومن ثم "كوفيه" وأشباهها تاليًا. افتتح أول مقهى في إسطنبول عام 1554 على يد حلبي ودمشقي وأطلق عليها لقب مدرسة المتعلمين كما سميت القهوة بحليب المفكرين.

اقرأ/ي أيضًا: مقاهي الإسكندرية.. التاريخ في القهوة والشاي

في مقاهي إسطنبول كان يلتقي ممثلون عن جميع اثنيات وأديان الإمبراطورية العثمانية ويتبادلون الأفكار في الأحوال العامة، وبذلك تحول المقهى إلى منتدى تعقد فيه الاجتماعات وتنشأ فيه أفكار جديدة من خلال حلقات النقاش بعيدًا عن أعين السلطة. لم يعد المقهى مقتصرًا على شرب القهوة فقط، بل تحولت مع الزمن إلى مسرح تعرض فيه مسرح العرائس وخيال الظل وتعزف فيه الموسيقي. كما انفتح المقهى على مواد أخرى باتت تخلط بالقهوة، مثل الزعفران والفلفل، ثم ابتكر المشرفون على تلك الدور إضافات جديدة، وباتوا يقدمون لزبائنهم كريات العسل والحشيش، أو العسل والعنبر، بما له من فوائد جنسية في اعتقادهم، ومن ثم بالأفيون. بذلك تحولت المقاهي إلى دور لهيبيي ذلك الزمان.

يبدو أن هذه السلطة لاحظت الانتشار السريع لتلك الدور وبدأت ترتاب فيها، نظرًا لأن الأغنياء يرتادونها لأن الفقراء غير قادرين على تأمين ثمن فنجان القهوة. في عام 1633 زار السلطان مراد الرابع، متخفيًا، مقهى وسرعان ما لاحظ أن رعاياه يسبون حكومته ويهزؤون بشخصه وهو الذي كان يعاقب على أدنى مخالفة بالقتل. إثر ذلك ودرءًا لأي معارضة محتملة، كما حدث للسلطان قبله، أمر مراد الرابع بمنع القهوة وإغلاق جميع المقاهي، وكان المعترضون على هذا الأمر السلطاني يوضعون في أكياس ويرمون في البوسفور. وحقًا خلت إسطنبول من المقاهي على مدى عشرات السنين. ما دعا عشاق القهوة إلى الهجرة نحو أوروبا وافتتاح المقاهي هناك. بدأت هذه من البندقية 1647، مارسيليا 1671، باريس 1671 وفيينا 1685 ومن ثم إلى أمريكا، نيويورك 1696.

يروى أيضًا أن العميل البريطاني جون سميث الذي قاتل ضد العثمانيين في المجر اعتقل بعد خسارة المعركة وبيع عبدًا إلى باشا تركي، ولاحظ خلال فترة حبسه أن الناس تشرب مشروبًا يسمى "كافا" وهو الذي نشر القهوة من ثم في أوروبا. في هذه الفترة التاريخية حلت القهوة محل البيرة التي كانت المشروب اليومي لسكان شمال أوروبا، نظرًا لأن الماء لم يكن صالحًا للشرب، بينما يقي الكحول من انتشار الجراثيم.

في مقاهي إسطنبول كان يلتقي ممثلون عن جميع اثنيات وأديان الإمبراطورية العثمانية ويتبادلون الأفكار في الأحوال العامة

في عام 1669 قام سليمان آغا، السفير العثماني في فرساي، بزيارته الأولى إلى "ملك الشمس"، ولأنه لم ينحن بما يرضي الملك، طرده هذا، لكن سليمان آغا كان بحاجة إلى معلومات عن النوايا السياسية حال هاجمت سلطنته فيينا، إن كان الملك الفرنسي سيقف في صف آل هابسبورغ. لانقطع الصلة المباشرة بالبلاط الفرنسي لجأ الآغا إلى استقاء المعلومات من سيدات البلاط دعاهن إلى مقره الجديد، خارج فرساي، وأمن لهن طقوس زيارات لا يعرفنها من قبل. كان يسحر السيدات بالطقوس الشرقية، يقدم لهن صحونًا فيها ماء ورد ليغسلن أيديهن، البخور للاسترخاء، وطقوس القهوة المثيرة وغير المعهودة، فيجلسهن على الأرض، ليثرثرن من ثم كما يشأن بينما هو يكتفي بالاستماع عليهن وبذلك حصل على معلومات أكثر مما لو سأل الملك بشكل مباشر. انتقلت أنباء هذه الجلسات وغدا شرب القهوة موضة. افتتح مقهى بروكوب، أحد أهم مقاهي باريس عام 1686 في ثلاثة طوابق وارتاده شخصيات مثل فولتير، روسو، هيغو وغيرهم من الفنانين والمثقفين. هنا كانت تجري المناقشات الحاجة وبما أن الطابق الثالث يحتوي على مطبعة صغيرة، فقد كانت الأفكار الجديدة تطبع مباشرة وتنشر في مدينة يسكنها حوالي نصف مليون نسمة حيث ارتفع سعر الخبز فيها بشكل فاحش، دون أن يعبأ الملك لويس السادس عشر بالأمر. وكان مقهى دوفون، أحد قلاع الأفكار الثورية، وفي 17 حزيران/يونيو 1789 وقف كامي دي مونار ليحشد الجماهير ضد الملك وصب تلك الاحتجاجات في أول بيان عالمي لحقوق الإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: صعوبات فنجان من القهوة

طبعًا حاول الملك أن يمنع تلك المقاهي في فرساي، لكنها كانت ملك كونت اوليون، أي أنها منطقة حرة لا يحق لجنود الملك التدخل فيها بشكل مباشر، ورغم بث الجواسيس والأعين فيها لم يستطيعوا منع الأفكار الجديدة التي ولدت في تلك المقاهي.

في القرون السابقة للثورة الفرنسية كان سكان شمال أوروبا يفضلون شرب البيرة على الماء لقذارة الأخير بل كانت الطبخ يتم بالبيرة. كان المواطن العادي، والأطفال أيضا، يشرب حوالي 3 لترات بيرة يوميًا، بينما يشرب الموظفون وعلية القوم أكثر بكثير. كما كانت عقود الجنود تحتوي شرط تأمين خمس لترات بيرة يوميًا للجندي. كانت أوروبا في عصر ظلامي تعيش شعوبها مخدرة، حرفيًا، وقبل انطلاق الثورة الفرنسية ازداد استهلاك القهوة بشكل ملحوظ خاصة في باريس. يمكن القول إذًا إن تلك المقاهي ساهمت مساهمة فعالة في الثورة الفرنسية بل وكانت منطلقًا لها.

وصلت القهوة إلى إنجلترا عن طريق السفن التجارية وسرعان ما تحولت المقاهي إلى مقار تجارية لرجال الأعمال، دون عامة الشعب، نظرًا لأسعار البن العالية. كان شعار المقاهي هو Enter Sirs Freely، أن الدخول كان مقتصرًا على الرجال دون النساء، بذلك تظل النساء في البيوت بينما يتنقل الرجال بين المقاهي.

تقدمت النساء على إثرها عام 1674 بالتماس إلى عمدة لندن يطالبن بإغلاق المقاهي وجاء في بيانهن أن "الرجال ينشفون فيها مثل الصحراء التي جاءت منها القهوة"، تلميحًا إلى برود جنسي أو عجز تسببه القهوة، فتقدم الرجال بدورهم بالتماس وادعو في بيانهم أن "القهوة تدعم بذورهم بالروح". تثبت بعض الوثائق التاريخية أن التماس النساء جاء بدفع من الكنيسة والسلطة المدنية، لأن دور اجتماع ونقاش، ما قد يؤدي إلى قلاقل اجتماعية وسياسية، وحاول الملك من خلال تلك الالتماسات منع المقاهي، لكنه أخفق.

إذا كان مفعول القهوة وتأثيرها في أوروبا حصرًا على النخبة، فقد تحولت في أمريكا إلى رمز للاستقلال وساهمت في تأسيس أولى الديمقراطيات في العالم. كان الإنجليز بيعون العبيد من أفريقيا إلى أمريكا هؤلاء العبيد يعملون في مزارع البن، البرازيل مثلًا، وحين عودة السفن إلى إنجلترا تعود محملة بالبن. كانت الإمبراطورية البريطانية تفرض ضرائب عالية على سكان المستعمرات الذين ترغهم على شراء الشاي البريطاني. في عام 1773 قام 90 مهاجرًا أبيض، متنكرين في ثياب السكان الأصليين (الهنود الحمر) بالاحتجاج على ضرائب الشاي فيما يسمى "حفل الشاي في بوسطن". هجموا على سفينة لشركة شركة الهند الشرقية في ميناء بوسطن ورموا حمولتها من الشاي، 342 صندوقًا، في البحر، بذلك جعلوا من القهوة المشروب الأمريكي الوطني نظرًا لأن الشاي رمز المستعمرين البريطانيين. وهكذا صارت القهوة بيانًا سياسيًا، من ثم في بيان الاستقلال الأمريكي الذي كتب بدوره في مقهى.

ساهم إنشاء المقاهي التي جاءت من الشرق مساهمة فعّالة في الثورة الفرنسية، بل وكانت منطلقًا لها

في القرن التاسع عشر انخفضت أسعار القهوة وغدت مشروبًا يتناوله أيضًا العمال خلال العمل بدلًا من البيرة. لم يعترض أرباب المعامل اعتراضًا شديدًا على هذا التحول، لما فيه من فائدة. فمن ناحية لم يعد العمال يكثرون من شرب البيرة ويعملون في حالة من السكر، ومن ناحية أخرى وجدوا أن القهوة تنشط هؤلاء العمال بل وتقيهم حتى من الشعور بالجوع، ولذلك لم يتم الاعتراض على استراحات القهوة خلال عمل اليوم الطويل. بذلك يمكن القول أيضًا أن القهوة ساهمت في تطوير الصناعة في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة البن.. لماذا عاد اليمنيون لزراعة البن في زمن الحرب؟

بقراءة سريعة لتاريخ القهوة، يبدو أنه لها دورًا في بعض التغييرات التاريخية عالميًا، فقد كانت المقاهي شوكة في أعين السلاطين والمستبدين وحاولوا على مدار التاريخ إغلاقها منعًا للتجمعات، وبالتالي لأي حركة اعتراض سياسية محتملة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مدن معولمة تدمغها ستاربكس

الهويات الفردية بين البيت والمقهى والكرنتينا