17-مايو-2020

الكورونا والمقهى (ألترا صوت)

البحث عن سيرة كاملة ومُفصَّلة للمقاهي العربية، لن يقودنا إلى الكثير؛ بضعة مقالات وتدوينات سريعة تصفُ للقارئ أشكالها وأوصافها والأحداث الكبيرة والفارقة، سياسيًا واجتماعيًا، المرتبطة بها، والمُتشابهة بشكلٍ يؤكّد أنّنا لن نحصل على أكثر ممّا هو متوفّر ومُتاح، ولن نعرف عنها أكثر من أنّها كانت نوادٍ ثقافية وسياسية، لربّما إلّا إذا تحوّلنا من البحث إلى الاستقصاء، وتفرّغنا لذلك تمامًا، وهو ما لا يبدو واردًا.

المُلفت في بعض ما كُتب حول المقاهي هو اعتبارها مكانًا يُعادل البيت عند روّاده، بل يتجاوزه من حيث وسعته التي لا تمتلكها البيوت الرتيبة

المُلفت في بعض ما كُتب حول المقاهي هو اعتبارها مكانًا يُعادل البيت عند روّاده، بل يتجاوزه من حيث وسعته التي لا تمتلكها البيوت الرتيبة، على عكسه تمامًا. وبينما يُعيد البعض السبب إلى طبيعة الأزمنة الحريمية، كنايةً عن المجتمعات العربية المُحافظة، حيث كان الناس يفضّلون المقاهي على البيوت للقاء ضيف أو صديق، يخطر في بال أي مُتتبِّعٍ لسيرة المقاهي العربية أسئلة مختلفة تبحث عن أسباب منطقية أكثر لهذه الأهمّية التي يحظى بها المقهى على حساب البيت الذي بدا، غالبًا، مُجرّد مكانٍ لتصريف ما تبقّى من وقتٍ تقاسمهُ العمل والمقهى، تمامًا كما لو أنّ البيت وعلى أهمّيته مجرّد مأوى لا أكثر ولا أقل، أو حيّزًا مكانيًا لتصريف وقتٍ لا أهمّية له.

اقرأ/ي أيضًا: الشياطين والأبالسة التى لم تصفد بعد

الأهمّية التي اكتسبتها المقاهي لا تأتي من كونها نوادي سياسية أو ثقافية أو أمكنةً تحريضية، أو مركزًا لحركات التحرّر الوطنية أيضًا، باعتبار أنّ هذه الأسباب تُحيل إلى علاقة "جماعية" مع المقهى، بينما تبدو علاقة الإنسان به علاقة فردية خالصة، خاصّةً وأنّ روّاد المقهى الأوائل كانوا بشرًا بسطاء وعاديين جدًا، أمّا المثقّفين ورجال الفكر والسياسة، ظلّوا بعيدين عنها لفترة طويلة جدًا، قبل أن تصير المقاهي مُرتبطة وإلى حدٍّ كبير بالثقافة والمثقّفين، ويصير هذا الارتباط صورة راسخة عن المقهى، لا تخلوا من منحه جانبًا أسطوريًا بأشكالٍ مختلفة.

هل المقهى مكان عادي أم أسطوري في جانب ما منه؟ يُمكن القول إنّ ارتباطه بالثقافة والمثقّفين، وفي مرحلة لاحقة برجال الفكر والسياسة، وعلاقته ببعض الأحداث السياسية البارزة، كالمظاهرات ونشاطات مرحلة ما قبل الاستقلال، وغياب صورته الأولى لصالح صورة جديدة لا تُشبهه؛ منحهُ في جانبٍ ما منه بُعدًا أسطوريًا بل وملحميًا أيضًا.

هذه الصورة السائدة عن المقهى. ويُمكننا العثور على صورة أخرى جاءت تُوازن بين كونه مكانًا عاديًا حينًا وآخر غير عادي حينًا آخر، ولكنّه ليس أسطوريًا، كما هو حالة في روايات نجيب محفوظ مثلًا، حيث يتجسّد العادي في كونه، المقهى، مكانًا مُعادلًا للبيت وأي مكانٍ آخر مأهول، بينما يتجسّد كلّ ما هو غير عادي في كونه مكانًا يخلقُ الأحداث والأفعال، ويظهر بمثابة نقطة انطلاق لشخصيات الرواية وافتراقها، تمامًا كشخصيات رواية "قشتمر"، حيث المقهى الذي تحمل الرواية اسمه شاهدًا على حركة الزمن وصيرورة الأشياء في وقتٍ واحد.

نعرف أنّ المقهى رمزًا وبنية اجتماعية وثقافية، عدا عن أنّه مكانًا للثرثرة وتزجية الوقت، وأنّ مهمّته دائمًا تأدية وظائف معيّنة تبعًا للمرحلة الزمنية القائمة وأحوالها. لذا، يمرّ نجيب محفوظ على هذه التفاصيل بخفّة وينصرف لبناء صورة المقهى داخل روايته بحيث يأتي وروحه معه، فيكتب سيرة روّاده وفي مقدّمتهم شخصيات الرواية التي تكتب بدورها سيرته أيضًا، بصفته المكان الذي "سيصغي بصبر وتسامح إلى حوارنا وأساطيرنا عمرًا طويلًا، بل ما زال يصغي مستوصيًا بصبره وتسامحه". هكذا، سوف "يمسي قشتمر عضوًا فينا، كما نمسي ركنًا فيه"، لا سيما وأنّه "المكان المستقر الوحيد مهما تئز العواصف من حولنا، ولا تحول جدرانه القديمة بيننا وبين الدنيا".

أوّل ما تغيّر قبل الحجر وبعده، وهو كيفية لقاء المرء نفسه، إذ كان سابقًا لقاءً سريعًا يخبرها فيه قناعته البسيطة والمريحة أنّه ليس الوحيد على هذه الحال

يقول الراوي في "قشتمر" إنّ المقهى أصبح "المكان الذي نخلوا فيه إلى أنفسنا". قد تُقرأ هذه الجملة على أنّها إشارة إلى أنّ المقهى مكان يُعادل البيت لجهة الألفة، حتّى أنّ الإنسان يستطيع فيه أن يخلوا إلى نفسه. ولكن، في زمن الكورونا والكرنتينا، يُمكن قراءة هذه العبارة بطريقة مختلفة لا تنفي فكرة أن يخلوا الإنسان إلى نفسه في المقهى، ولكنّها ترفض فكرة أن يتشارك هذه الفكرة مع المنزل، لأنّ الأخير على عكسه تمامًا، لا يخلوا الإنسان فيه إلى نفسه، وإنّما يواجهها بحيث يصير وجهًا لوجه أمام كلّ أسئلتها الوجودية.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعلنا وماذا سنفعل؟

هل يُمكن التعامل فعليًا مع المقهى كبيت آخر؟ لربّما تُقدّم لنا أزمة كورونا، كونها دفعتنا لقضاء أطول وقتٍ ممكن في منازلنا، مساهمة أو دفعة مهمّة للإجابة على السؤال الذي تشكّلت إجابته سريعًا بعد قراءة مقالة "البيت بوصفه اختبارًا للهوية" للصديق رائد وحش الذي قال فيها إنّ البقاء في البيت فتح أمام أعيننا أسئلة كبيرة حول شكل الهوية الفردية، وهذا ما يُفسّر حرفيًا حالة التيه وصعوبة الاستدلال إلى ما نريده حاليًا، لا سيما وأنّ الجميع باتوا في هذا الظرف بحاجة للجميع حاجة غريبة إلى حدٍّ ما، لأنّها وفقًا لصديقنا حاجة بشر بحاجة إلى بشرٍ آخرين ليخفوا ضياعهم في احتشادهم، مُعتبرًا أنّ الحشد غطاء لتمزّقات الذات، وصرف للانتباه عنها مؤقّتًا، عدا عن كونه تأجيلًا حتميًا لمواجهة قلق الوجود.

على هذا النحو يُمكن أن نستدلّ إلى أوّل ما تغيّر قبل الحجر وبعده، وهو كيفية لقاء المرء نفسه، إذ كان سابقًا لقاءً سريعًا يخبرها فيه قناعته البسيطة والمريحة أنّه ليس الوحيد على هذه الحال. أمّا بعد الحجر، بات اللقاء بها في البيت الذي يشكّل برفقة الوحدة أوّل عتبات تشكيل الهوية الفردية، كشفًا مُفزعًا عن كمّية النقص الحاصلة داخلنا.

عندما نتحدّث عن هذا النقص الذي تُضيئه وتكشفه لنا العزلة ومواجهة النفس وجهًا لوجه، وفي سيقاق الحديث عن المقاهي، لا نقول إنّ الأخيرة كانت تسدّ هذا النقص، ولكنّها كانت، إن تتبّعنا سيرتها وتأمّلنا ما آلت إليه أحوالها، تُشغِلُ الفرد عن التفكير بأمر هذا النقص، كونها تؤجّل أساسًا لقاء المرء بنفسه، وتصرفه عن فكرة ابتكار هوية خالصة لنفسه. فالمقهى يوفّر لنا ما يسمّيه رائد وحش الحاجة للآخرين لكي يعطوننا مرآةً تُعطينا بدورها تعريفًا لأنفسنا وتمثيلًا لما نريده في هذا الوجود، أي أنّها ستُزيّف لنا ما يسمّى تجاوزًا "هوية" يتكشّف زيفها حينما نكون بمفردنا عاجزين تمامًا عن إيجاد من نكون، وإدراك ماذا نريد دون الآخرين.

يُمكن لنا إذًا أن نتعامل مع المقهى بصورة مختلفة عن تلك التي كرّسته منبرًا ثقافيًا، أو وبيئة مفضّلة لمناقشة الأمور السياسية، وبؤرة للصراع الاجتماعي أو الطبقي، وشاهدًا على حركة الزمن وصيرورة الأشياء.

المقهى مكان لإنكار الذات، دون أن يكون هذا هدفه، وإنّما طبيعته التي اكتسبها مع الوقت

هو فعليًا كلّ ما ذكرناه لتوّنا، ولكنّه في المقابل حاجة اجتماعية كونه يوفّر للفرد فرصة للهروب من ذاته، والانصراف عن الأسئلة الكبيرة المتعلّقة بها أيضًا، الأمر الذي يجعل من المقهى اختراعًا لهذا الغرض تحديدًا، وإلّا كيف نُفسّر كثرة أعداد روّاده مثلًا؟ ليس الجميع بطبيعة الحال ساسة أو مثقّفين أو أصحاب فكر، وإنّما بشر عاديون يفضّلون الهرب إليه لإلغاء فكرة الوحدة والبيت معًا، وبطريقةٍ تُنقذ الفرد من ورطة إجراء مراجعةٍ لنفسه معها.

اقرأ/ي أيضًا: البيت بوصفه اختبارًا للهوية

بكلماتٍ أخرى، يكون المقهى مكانًا لإنكار الذات، دون أن يكون هذا هدفه، وإنّما طبيعته التي اكتسبها مع الوقت. ويُمكن لنا أن نُعيد السبب وراء أهمّيته واكتسابه كلّ هذه الشهرة إلى حاجة الجميع للجميع في وقتٍ لم يكن هناك ما يصرف المرء عن نفسه وأسئلتها الوجودية غير المقهى الذي وفّر هذه الحاجة، أي ان يجيب بشرٌ على سؤال بشر آخرين: من نحن؟ وماذا نريد؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

"المكان" لإملي نصر الله.. أسرار الكتابة وكواليسها

الحبيب السالمي.. بكارة المكان ومجهر الثورة