قد تكون المصادفة وحدها من دفعت لأن يكون شهر نيسان/أبريل شهر الأزمات بين القضاء المصري من ناحية ونظام السيسي ومن قبله نظام مبارك من ناحية أخرى. 11 عامًا بالتمام والكمال منذ نيسان/أبريل 2006، حيث اعتصام القضاة الشهير في ناديهم بوسط القاهرة.
هذه المرة بدأت ملامح الغضب القضائي تتضح مع مناقشة البرلمان المصري في كانون الأول/ديسمبر الماضي، قانونًا عرف بـ"الهيئات القضائية"، إذ أعلنت الهيئات الرسمية للجمعيات العمومية للقضاء المصري ونوادي القضاة وشيوخهم، رفضهم لهذا القانون، فيما هدد بعضهم بتصعيد الرفض، لكن الرئيس المصري ذا الخلفية العسكرية عبد الفتاح السيسي، حسم الأمر بإقرار القانون، الخميس الماضي، ضاربًا برفض القضاة عرض الحائط.
الشد والجذب والتهديدات الصادرة من بعض نوادي القضاة المختلفة، يدفع البعض للشك في جدواه، وقدرة جيل القضاة الحالي على مقاومة سياسات النظام وقرارات الرئيس، بخاصة وأن الساعات الماضية كشفت عن هبوط في نبرة تضامن المعارضة المصرية للقضاة في معركتهم الحالية، على العكس مما كان عليه الحال قبل 11 عامًا، عندما قرر نادي قضاة مصر برئاسة المستشار زكريا عبدالعزيز الدخول في اعتصام، نهاية نيسان/أبريل 2006، رفضًا لتحويل كل من المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي للتحقيق الداخلي (التأديب) بتهمة إهانة القضاء، وأسست وقتها حركة تضامن ضخمة ومؤثرة في الشارع المصري.
يبدو أن القضاة المصريين لن يجدوا تضامنًا قويًا في معركتهم الحالية مع النظام، على عكس ما كان عليه الحال سابقًا
لماذا يرفض القضاة قانون السيسي؟
يرفض القضاة القانون منذ تقديمه، وذلك في 23 كانون الأول/ديسمبر 2016، حين تقدم النائب البرلماني أحمد حلمي الشريف، بمشروع لتعديل قانون السلطة القضائية والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة ومجلس الدولة. وتعد أبرز المواد المعترض عليها تلك التي تتيح لرئيس الجمهورية حق اختيار رؤساء الهيئات القضائية، خلاف الساري حاليًا وهو أن يقر الرئيس اختيار الجمعيات العمومية فقط.
اقرأ/ي أيضًا: أحكام عارض فيها القضاء الإداري قرارات الدولة
وتنص هذه المادة المثيرة للجدل على أنه "يُعيَّن رؤساء الهيئات القضائية بقرار من رئيس الجمهورية، من بين ثلاثة من نواب الرئيس في كل جهة، يرشحهم المجلس الأعلى للهيئة من بين أقدم سبعة نواب لرئيس الهيئة (...) وفي حالة عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكور، أو ترشح عدد يقل عن ثلاثة، أو ترشيح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة، يعين رئيس الجمهورية رئيس الهيئة من بين أقدم سبعة من نواب رئيس الهيئة". وأخيرًا أقرّ البرلمان القانون دون مناقشة ملاحظات مجلس الدولة عليه، وفقًا لما ينص عليه الدستور المصري.
ولم يكن رفض القانون حالة فردية، أو من نوادي القضاة فقط، ولكن أيضًا الهيئات القضائية المختلفة أعربت عن رفضها القانون، وعلى رأسها مجلس القضاء الأعلى، الذي هو أعلى سلطة قضائية في القضاء المدني المصري، بالإضافة إلى مجلس الدولة، وغيرها من الهيئات القضائية.
وأكد الرافضون في بياناتهم على مخالفة البرلمان نصوص الدستور المصري، في حال إقرار القانون، وهو ما فعله البرلمان، كما تمسكت جميع الهيئات بطريقة اختيار رؤساء الهيئات القضائية وفقًا لما جرى عليه العرف، وكما كان القانون القديم، معتبرين القانون الجديد إهدار لمبدأ استقلال القضاء. وعلى هذا المنوال، استمرت الحال إلى أن أقر البرلمان القانون منذ أيام وتبع ذلك إقرار السيسي القانون ونشره في الجريدة الرسمية.
قضاء في قبضة الرئيس!
رغم الخلاف الذي دب بين الدولة من جهة والقضاة من جهة أخرى، إلا أن نادي القضاة عندما حاول أن يعلن عن رفضه للقانون، قبل إقرار السيسي له بأيام، دعا القضاة لإرسال رسائل احتجاج لصالح صندوق "تحيا مصر"، كشكل اعتراضي "لطيف"، يُعطي صورة عن أن نادي القضاة "أليف"، وليس معارضًا شرسًا للنظام، بعد أن فشلت محاولاته السابقة والتي كان من بينها تهديد باستقالة جماعية، وتعليقٌ لعمل المحاكم، وهو ما قلل منه بعض رموز القضاء في مصر، التي دعت للتهدئة، ومن بينهم المستشار عادل الشوربجي، النائب الأول لرئيس محكمة النقض وعضو مجلس القضاء الأعلى، والذي قال في تصريحات صحفية، إنّ "من حق الرئيس تمرير القانون وقلل من تهديدات البعض بالاستقالات الجماعية بقوله غير وارد"، كما نقلت تصريحات صحفية عن المستشار عبدالعزيز أبوعيانة، رئيس نادي قضاة الإسكندرية، قال فيها: "لا نريد الصدام مع أحد، البلد لا تحتمل".
هذا ويٌنتظر ما ستسفر عنه قرارات الجمعية العمومية الطارئة لنادي القضاة، المزمع عقدها في الخامس من أيار/مايو المقبل، ومن قبلها ستكون جمعية عمومية طارئة لمحكمة النقض، أعلى المحاكم المصرية المدنية، وذلك يوم الثلاثاء القادم، الموافق الثاني من أيار/مايو المقبل.
ويبدو أن للسيسي قدرة كبيرة في السيطرة على القضاء المصري الذي أصدر منذ الثالث من تموز/يوليو 2013، أحكام إعدام بالجملة، وأحكامًا بالسجن على المئات من النشطاء السياسيين المعارضين للسيسي، وبالإضافة إلى ذلك، صدر عنه التصريح الأشهر في هذا السياق، حين قال للقضاة: يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين، ولكننا سنعدّل القوانين لتحقق العدالة بأسرع وقت"، وكان ذلك خلال جنازة النائب العام السابق هشام بركات، الذي لقي حتفه اغتيالًا في حزيران/يونيو 2015، فيما يتضح الآن أنّه تمهيدٌ من السيسي لاستصدار قانون الهيئات القضائية الحالي.
خمسة جهات مفقودة
حركة القضاة في مصر ومعارضتها الدولة، مستمرة منذ خمسينات القرن الماضي التي شهدت الاعتداء على المستشار عبدالرازق السنهوري، وفي الستينات حيث ما عرف بـ"مذبحة القضاة"، قبل أن تهدأ قليلًا في بدايات عهد السادات، إلا أنّ أزمة تصاعدت بين السادات ونادي القضاة في 1980، بعد إنشائه المحاكم الاستثنائية.
ومع تولي مبارك الحكم، تصاعدت من جديد الأزمات بين الدولة من جهة والقضاة من جهة أخرى، كان أبرزها في 2006، حيث الحركة التي دفعت نشطاء ومواطنين للتضامن مع اعتصام القضاة والتظاهر يوميًا داخل ما عرف وقتها بـ"مثلث الرعب" وهو منطقة نادي القضاة ونقابتي الصحفيين والمحامين في شارع عبدالخالق ثروت في وسط القاهرة، رغم الحصار الذي فرضته قوات الأمن، والاعتقالات والاعتداءات على المتضامين، والتي طالت أيضًا قضاةً من بينهم محمود حمزة عندما حاول تصوير تجاوز قوات الأمن المركزي.
يفتقد القضاء المصري في معركته الحالية لخمسة قطاعات كانت تدعمه سابقًا، من بينها النشطاء وبرلمانيو الإخوان والظهير الشعبي
وبين رفض القضاة في 2006، وتهديدهم بالتصعيد في 2017، خمسة قطاعات مفقودة لا غنى عنها في معارك القضاة، ولا يمكن إدارة أي معركة بدونها، يتمثل الوجه الأول في قيادات تيار الاستقلال من القضاة، ومن أبرز رموز ذلك التيار المستشار حسام الغرياني، رئيس محكمة النقض الأسبق ورئيس لجنة وضع دستور 2012.
اختفى حسام الغرياني تمامًا عن الصورة بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، وكذلك فعل كل من أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض، ومحمود مكي، نائب رئيس الجمهورية مدة شهور خلال عهد محمد مرسي، وكذا هشام البسطويسي. هناك أيضًا المستشار محمود الخضيري، الذي كان رئيسًا لنادي القضاة في 2006، قبل أن يعلن استقالته من القضاء في 2009 احتجاجًا على الأوضاع حينها، وهو الآن محكوم عليه بالسجن ثلاث سنوات، كما أنّه في صدد المحاكمة في قضية جديدة بتهمة "إهانة القضاء".
وفي هذا التيار يُمكن أيضًا الإشارة إلى المستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، الذي واجه محاولة لسجنه ثمنًا لإعلانه أرقام تشير للفساد في بعض الجهات السيادية المصرية.
برلمانيو جماعة الإخوان المسلمين يُمثلون الوجه الثاني، لتواجدهم القوي خلال تظاهرات القضاة في 2006، وكان من أبرزهم آنذاك سعد الكتاتني وكان رئيسًا للكتلة البرلمانية للإخوان، قبل أن يصبح رئيسًا لأوّل برلمان بعد ثورة 25 يناير.
لم يعد لبرلمانيي الجماعة وجود بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، إذ يواجه سعد الكتاتني حكمًا بالإعدام، ويُشاركه في الاعتقال عدد كبيرٌ منهم، على رأسهم محمد البلتاجي الذي كان وجهًا معروفًا خلال تظاهرات القضاة في 2006.
الوجه الثالث ما عرف في 2006 بالشباب النشطاء، أو المدونين، ومن أبرز المشاركين منهم في تلك الفترة علاء عبدالفتاح وكان معروفًا وقتها بعلاء سيف، واعتقل وقتها 45 يومًا قبل أن يُخلى سبيله. والآن يواجه علاء عبدالفتاح حكمًا بالسجن على خلفية خرق قانون التظاهر.
من بين أبرز النشطاء الذين شاركوا القضاة حينها في معركتهم، محمد عادل الشهير بـ"العميد ميت"، المدون السياسي وعضو حركة شباب 6 أبريل، واعتقل خلال تظاهرات القضاة في 2006، واعتقل كذلك بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، ويقضي حاليًا فترة المراقبة لمدة 12 ساعة يومًا، كعقوبة تكميلية.
الوجه الرابع الذي سيفقده القضاة في حالة التصعيد، الإعلام وصحف المعارضة، والتي كان لها دور بارز في تأييد تحركات القضاة من قبل. وكانت من أبرز الصحف التي دعمت تحركات القضاة في تلك الفترة، صحف المصري اليوم والدستور وصوت الأمة والعربي، أمّا في الوقت الحالي فيسيطر السيسي من خلال أذرعه الإعلامية على معظم الصحف والقنوات الفضائية، التي تأتمر بأمره ورجاله، بينما اختفى بعض رجال الصحافة القدامى المعارضين.
اقرأ/ي أيضًا: "لا أرى لا أسمع لا أتكلم".. خطة الإعلام المصري
قضاء بلا ظهير
والظهير الشعبي كان الوجه الخامس الداعم لتحركات القضاة في 2006، ولكنه اليوم يفتقد هذا الظهير، وقد ساهمت في ذلك الأحكام القضائية الصادرة ضد النشطاء والمعارضين، والتي خلقت حالة من الخوف العام من القضاء في مصر، بعد أن بات محسوبًا في زمرة النظام، فضلًا عن أن تدهور الأوضاع الاقتصادية التي ترمي بشررها أولًا على الشعب، قد لا تدفع بتضامن شعبي مع القضاة، إذ لا داعي من وراء ذلك.
ورغم وجود عدد من النواب والإعلاميين المتضامنين مع القضاة حاليًا، حضر بعضهم مؤتمرات تضامن، إلا أن تأثير هؤلاء النواب ضعيف، مع غياب التغطية الإعلامية والتضامن الشعبي والنشطاء، ليقف القضاة وحدهم، لو قرروا التصعيد. وعبر مواقع التواصل الاجتماعي عبر البعض عن ذلك، منهم المحامي الحقوقي نجاد البرعي، الذي أشار إلى أن القضاة هم السبب الأول في هذه "المذبحة".
سيناريو قاتم مفتوح أمام قضاة مصر و"حركتهم"، في ظل فقدان الكثير مما كان قد تحقق سابقًا، وابتعاد كثيرين ممن أثروا في مشهد الحراك القضائي أيضًا، وتقدم النظام خطوات في إحكام قبضته على هذا القطاع وعزله، بينما يبقى سيناريو 2006 القضائي لائحًا في خلفية المشهد!
اقرأ/ي أيضًا: