02-يونيو-2018

ما زالت العنصرية تلاحق منجز مارتن لوثر كينج الفكري (Getty)

لقد تمت سرقة مارتن لوثر كينج، ورُوجت صورته باعتبارها جزءًا من التراث المعرفي الذي كان يناضل هو نفسه ضده. هذه فكرة رائجة في الأوساط الثقافية النقدية، لكنها بحاجة إلى توضيح متأنٍ، خاصة أن منتج المفكر والمناضل المعروف، اعتمد على نزعة من الإصلاح، لا الانقلاب الثوري الكامل على القيم الأمريكية جميعها. لكنه سعى، بقدر ما أمكن له، تطويع هذه القيم لإقناع الناس بالتغيير.

تبين هذه المقابلة المنشورة عبر مجلة جاكوبين، مع مجموعة من الباحثين من جامعة هارفرد، الذين أصدروا كتابًا عن فكر لوثر كينج السياسي، أن هناك تعاملًا أحاديًا مع كينغ في الأكاديميا الأمريكية، باعتباره ناشطًا وخطيبًا، وحسب المقابلة التي سننشرها على قسمين، يتم تجاهل منجزه الفلسفي، نتيجة للبنية العنصرية التي تحكم النظر إلى المفكرين السود في هذه الأوساط.


غالبًا ما يتم تذكر مارتن لوثر كينج بسبب خطبه الرنّانة. غير أنّ التشديد الشائع على بلاغته لا على أفكاره يسمح، في كثير من الأحيان، للمُحافظين بأن يدجنّوه، والأسوأ، بأن يقوموا باستخدام كلماته المنزوعة من سياقها لمناصرة قوى الاضطهاد نفسها التي كافح كينج في القتال ضدّها.

إن التشديد الشائع على بلاغة لوثر كينج لا على أفكاره يسمح، في كثير من الأحيان، للمُحافظين بأن يدجنّوه

وقد صدر كتاب جديد حول الفلسفة السياسيّة لكينج،  يحمل عنوان "أن تشكّل عالمًا جديدًا: مقالات حول الفلسفة السياسيّة لمارتن لوثر كينج" (To Shape a New World: Essays on the Political Philosophy of Martin Luther King)، وهو مُحرَّر بالاشتراك على يد براندون إم. تيري وتومي شيبلي، ويتناول كينج بجديّة باعتباره مفكّرًا وليس مجرّد خطيب أو ناشط. وقد أُتيحت الفرصة مؤخراً لدانيل دينفر أن يتحدث مع باحثين في جامعة هارفرد حول الفلسفة السياسيّة الثريّة لكينج. وما يلي هو نسخة مختصرة ومعدّلة قليلًا من محادثاتهم.

دانيل دينفر: ينبني كتابك الجديد على الحجّة القاضية بأنّ مارتن لوثر كينج لم يُتناوَل جديًّا أبدًا كفيلسوف سياسيّ. فليتك تشرح لماذا كانت الحالُ كذلك، وكيف تمّ تأطير كينج.

تومي شيبلي: لا يذهب الاتجاه السائد إلى التركيز عليه كمفكّر نسقيّ وشرح أفكاره، وإنّما يتمّ التركيز على الوضع التاريخيّ الاجتماعيّ له، وعلى دوره داخل حركة الحقوق المدنيّة، وأحيانًا يجري التركيز على ممارسته البلاغيّة. وبالتأكيد، تجدون تركيزًا جدّ كبير على دوره داخل الكنيسة والثيولوجيا.

اقرأ/ي أيضًا: هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟

لكن داخل الحقل الشاسع للفلسفة السياسيّة والنظريّة السياسيّة وحتى داخل بعض عناصر التاريخ الفكريّ، فإنّ الناس لا يميلون إلى تمضية بعض الوقت في استكشاف أفكاره تفصيليًّا وفي العمل من خلال كتبه ومقالاته وخطبه المتعددة، لمحاولة القبض على رؤيته النّسقيّة للعالم وموقعته في صلب تاريخ الفلسفة السياسيّة بشكل أكثر عموميّةً، وفي التقليد السياسيّ الأسود بشكلٍ أخصّ.

دانيل دينفر: لكن بعدم اعتباره مفكّرًا لكن خطيبًا أو ناشطًا من النشطاء الأبطال، فإنّنا نختزله إلى تلك العناصر وننطلقُ أساسًا من الفرضيّة القاضية بأنّ كينج لم يقل لنا أيّ شيء جديد، إنّه يكرّر فحسب المنابع القديمة لثقاقتنا الديمقراطيّة السياسيّة، تلك هي العقيدة الأمريكيّة. ولا نفكّر حتى في النظر إليه كمصدرٍ لأفكار جديدة أو منبع لأيّ شيءٍ يقوم بالتحدي. يبدو كينج كمألوف تمامًا.

تومي شيبلي: هذا إشكالٌ معقّدٌ. أعني أنّه من الطبيعيّ، من ناحيةٍ، عندما تحاول أن تحثّ الناسَ على التغيير، حتى عندما يكون هذا التغييرُ أساسيًّا تمامًا، أن تُحدّد الأشياء التي يؤمنون بها، والأشياء التي هم بالفعل قابلون لها أو حتّى تلك الأشياء التي قد يكونون معتزّين بها ويعتبرونها مقدّسة. بالفعل قام كينج بذلك، حيث اعتمد بكثرةٍ على الكتاب المقدّس، وعلى إعلان الاستقلال، وعلى الدستور، وعلى الأفكار المألوفة من التراث السياسيّ الواسع حتى يستطيع أن يحشدنا معًا للتركيز على الأشياء التي نلتزم بها ظاهريًا بالفعل.

بيد أنّني أعتقدُ أنّه من المهمّ أن ننظر إلى السُّبل التي يعتقدُ كينج أنّه بحاجةٍ إليها، كما سيقول هو نفسه في كثير من الأحيان، كي يدفع من أجل "ثورةٍ في القيم"، في محاولةٍ للإشارة إلى أنّ كلّ فكرةٍ أو مبدأ أخلاقيّ أو قيمةٍ نحن نحتاجها تكون مؤسّسة بالفعل في الدستور، مثلًا.

اقرأ/ي أيضًا: عنصرية ترامب ضد المهاجرين السود تفتح ملف الجرائم الأمريكية في أفريقيا

لذا؛ فإنّني أعتقدُ أنه يسيرُ على خطّ رقيقٍ بين الاعتماد على هذه المصادر التي قد تجعله يبدو محافظًا، مثل استدعاء الحلم الأمريكيّ في بعض الحالات، بينما يحاول في الوقت ذاته أن يدفعَ الأمّة/الشعب والعالم إلى ما يعتبره هو اتجاهًا تقدميًّا أكثر عدلًا، وهو الأمر الذي قد يعني الانسلاخ عن بعض الأشياء التي هم ملتزمون بها.

دانيل دينفر: على إثر ذلك، هناك نوعٌ من الديناميكيّة في علاقته بمادّة الثقافة السياسيّة الأمريكيّة. فهو لا يقوم بعمل قطيعة معها، ولكن هذه الديناميكيّة متجذّرةً في التصورات التاريخيّة المُحافظة.

براندون تيري: نعم، أعتقدُ ذلك صوابًا. مرّة أخرى، إذا كان جُلّ ما تتوقّعه هو بالنسبة إليه أن تكرّر وتجترّ ما هو مألوف وتحاول أن تُمسْرح الإقصاء الأساسيّ للعرق، فأعتقدُ بأنّك فوّت الكثير. وكما أشار تومي شيلي من قبل، كان لدى كينج مجتمع عادل لكافّة أنواع الأفكار حول ما هو مطلوب من أجل هذا المجتمع بالفعل، الأمر الذي من شأنه أن يقتضي بعض التعديلات المهمّة للدستور، سواء أكانت أشياء مثل الدخل السنويّ المكفول أو إطارًا أكثر اتساعًا من أجل المساومة الجماعيّة التي تمتدُّ إلى أشياء مثل تنظيم الاستئجار، وتنظيم حقوق الرعاية الاجتماعيّة، أو حتّى أشياء مثل نقد العسكريتاريّة (militarism)، الأمر الذي قد تكون على إثره مترتبات كبيرة لكيفيّة تنظيم السلطة في الولايات المتحدة.

 اعتمد كينج بكثرة على الكتاب المقدّس، وعلى إعلان الاستقلال، وعلى الدستور، وعلى الأفكار المألوفة

دانيل دينفر: هل تسهّل العنصريّة من هذه الفكرة السائدة بأنّ مارتن لوثر كينج كان صاحب كلمات وليس لديه أفكار؟

براندون تيري: أظنُّ ذلك. وبصراحة تمامًا، فإنّنا ما زلنا لا نمنح المفكرين الأفرو-أمريكيين أو المفكرين الملونيين الاحترامَ الذي يستحقونه في الأكاديميا وفي المجال العموميّ. حيث يُنظَر إليهم كأناسٍ يضيفون أسلوبَا خطابيًّا أو تكملةً تجريبيّة للأفكار الموجودة للمفكرين البيض ذائعي الصيت.

دانيل دينفر: إنّ أحدث سوء استخدام لكينج، وهو الذي أريد السؤل عنه، ربّما يكون الأكثر خطرًا وانتشارًا، ألا وهو الاستدعاء المتكرّر للمحافظين لحلم مارتن لوثر كينج بمجتمع متعامٍ عن قضيّة اللون. فليتك تخبرني عن المنبع الذي نشأ منه سوء الاستخدام هذا، إذ أعتقد أنّه شيءٌ مهم جدًا بالنسبة إلى اليمين.

براندون تيري: لأنّ منزلة كينج رفيعة جدًا في البانتيون الأمريكيّ للعظماء، ولأنّ الناس لا يعرفون فكر كينج حقّ المعرفة أو يظنون أنّه لا فكرَ لديه ليعرف، فإنّ هذه الاستدعاءات المعيبة له قوية للغاية. وذلك يثير غضب الناس الذين ينشرون هذه الأفكار لأنهم لا يريدون أن يفكّروا في أنفسهم باعتبارهم عنصريين أو يساهمون في الإجحاف العنصريّ.

لكن بطبيعة الحال عندما تنظرون إلى الفكر الحقيقيّ لكينج، فإنّه ليس هناك أدنى شكّ بأنّه على الرغم من كون كينج يحلمُ بمجتمع رحيمٍ حيث الشبكات الاجتماعيّة للناس، وحيث لا يتم بناء فرص الازدهار فيه على أساس العرق (وبالتأكيد ليس بالنسق العرقيّ للطبقة)، إلّا أنّ كينج يدرك بأنّه لكي يحصل أيّ شيءٍ كهذا، فإنّه يتوجّب علينا أن نحمل العرق في صدارة اعتباراتنا. وعليه، تُطرح الأسئلة المتعلقة بالعدالة التصحيحيّة لإصلاح المعايب التاريخيّة المتجذّرة. وستكون هناك حاجةٌ لجهود مكافحة التمييز العدوانيّ بواسطة الحكومة الفيدراليّة، وبواسطة الحكومات المحليّة. وستغدو هناك حاجة أيضاً لمجال عموميّ نَشط ومجتمعٍ مدنيّ منظّم حول منع الإذلال والتمييز النَّسقيّ في الإسْكان، وفي البيروقراطيّة الاجتماعيّة، وما شابه. 

دانيل دينفر: لقد كتبت، برفيسور تومي شبيلي، بأنّ محاربة مارتن لوثر كينج من أجل تحقيق العدالة الاقتصاديّة كانت ذات تحدّ كبير أكثر بكثير من المرحلة الأولى، مثل إبطال قانون جيم كرو. فهل بإمكانك أن تحدّثنا عن السياسات الطبقيّة التي تعملُ عملها في هذا المضمار؟

تومي شيبلي: اعتقد كينج بأنّ همّ المرحلة الأولى، أي الحركة الجنوبيّة، كان متعلّقًا إلى حدّ كبير بإلغاء قوانين جيم كرو والتخلُّص منها، وهي القوانين التي حرمت الناس من المشاركة في الحياة العموميّة، والتي حالت بين الشعب وبين ممارستهم لحقّهم في حريّة إنشاء جمعيّات.

لكنّه ظنّ أيضًا أنّنا بحاجةٍ إلى حل إشكالات الفقر، والتمييز في العمل، والبطالة، ومنع التهديد الذي يطال سستمة المعايير المعيشيّة للنّاس، والوصول إلى الأعمال الفاضلة التي تدرّ أجرًا على الناس. إذ يحتاج الناس إلى المدارس الجيّدة، وإلى سكنٍ لائق، وإلى حريّة اختيار مكان معيشتهم، وإلى القوّة الاقتصاديّة التي تمكّنهم من هذه الحريّة. وتتطلب هذه الأشياء موارد هامّة من أجل نقلها إلى الناس الذين كانوا مُفقرين سابقًا ومهمّشين اقتصاديًّا. فإذا سمحتَ للناس حقًّا بأن يكونوا متساوين في جوّ يُفترض أنّه الديمقراطيّة، فإنّهم، إذًا، يحتاجون إلى أن يكونوا مكفولين اقتصاديًّا لممارسة حريّاتهم المختلفة على أحسن وجهٍ. ومن الواضح أنّ هذا يعني نقلًا للموارد للسكان المهمّشين والمحرومين -أي المكاسب غير المشروعة، والمكاسب المُجتباة من نظامٍ غير عادل-.

وبالطبع، لا يرغبُ الأثرياءُ في التنازل عن هذه الموارد. والحال أنّ إقناعهم أنّ هذا هو ما تقتضيه العدالةُ، وإقناعهم بأنّنا لا يمكننا تحقيق العدالةِ إلّا ببعض تضحيةٍ، لهو أمرٌ صعب للغاية. إذ يعني ذلك أنّ كثيرًا من الناس الذين قد يكونون متعاطفين مع الحملة الجنوبيّة ضدّ قوانين جيم كرو يمكن أن يكونوا أقلّ نضالًا في المراحل الثانية.

دانيل دينفر: بروفيسور براندون تيري، لقد كتبت كتابًا بالاشتراك حول مارتن لوثر كينج والجندر. فهل تتفضّل بإخبارنا ما اعتقده كينج بشأن مسألة الجندر؟

براندون تيري: بالفعل، هذا عملٌ مدهش ورائع، عليك قراءته إن سنحت لك الفرصة. هناك كثيرٌ من الناس يكتبون طلبًا للنصحية في أمور مثل: "خداع زوجي لي، إنّه يشربُ كثيرًا، ماذا عليّ أن أفعل؟". لكنّك تعرفُ الكثير عن كيفيّة تفكير كينج في الأسرة من خلال هذه الأشياء. وبالتالي، تفهم بعضًا من خطبه.

والحال أن إحدى الطرق للتفكير في ذلك هي أنّ كينج كان يقوم بأعمال ذات أغراض متعددة. فمن ناحية، فإنّه اكتسب هذه الدفاعات من الأعمال غير العنيفة المباشرة ومن العصيان المدنيّ ذي الجودة الكونيّة الرائعة، إذ إنّه كان أكثر شمولًا من أعمال التمرّد العنيفة... حيث ينتقدُ كينج بشدّة لا تلين فكرة أنّ السياسة يجب ألّا تشمل مجموعة واسعة من النّاس، وأنّها يجب أن تكون نطاقًا للخبراء أو هؤلاء الذين لديهم قابليّة القيام بأعمال عنيفة.

كما إنّ كينج يؤيّد أشياء من قبيل الحدّ الأدنى للدخل باعتباره تأسيسيًّا لكرامتنا واحترام مجموعة واسعة من قدراتنا، وليس فقط كهؤلاء الذين يحصلون على معاش العمل.

لكنّه، من ناحيةٍ أخرى، امتلك تلك الأفكار الرجعيّة حقًا حول الجنس والجندر. فكثيرًا ما يتمّ تنظيم اجتماعات مؤتمر القيادة المسيحيّة الجنوبيّة بطريقةٍ لا يُسمح فيها، بالأساس، للنساء بأن يتحدّثن أو يطرحن عناصر جديدة. وعندما ينظمون الأعمال الكبرى، فغالبًا لا تُستدعى النساء للحديث.

وعندما يكتبُ كينج عن ما يُفترض أن تكون الأسرةُ عليه، فإنّه يكتب بالأساس أنّه يجب تنظيم الأسرة حتى يستنّى لكلّ أحد أن ينضمّ إلى منجزات وأعمال الآخر، ولكن ذلك كلّه موصول بالاعتراف بطبيعة الرجل والأنثى. فالرّجلُ فاعلٌ، ويحتاج أن يكون خارج المنزل، وعليه أن يقارن نفسه بمنجزات الرجال الآخرين. أمّا المرأةُ، حتى وإن كانت لديها نشاطات واهتمامات خارج المنزل، فإنها تحقق نجاحها الأساسيّ داخل فضاء المنزل وفي تربية الأسرة.

وإنّ أحد الأشياء التي حاولنا أن نقومَ بها في هذا الكتاب الجماعيّ هو ليس أن ننقد تلك الأفكار فحسب، بل أن نظهرَ أيضًا كيف أنّ العناصر الأخرى من تفكير مارتن لوثر كينج يمكن أن تكون عناصر قويّة جدًا لرؤيةٍ نسويّة يساريّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثمار الإعدام "الشعبي" الغريبة.. تاريخ الأفارقة الأمريكيين على المقصلة البيضاء

محاكم التفتيش الإسبانية.. إما المسيحية أو الموت