02-أكتوبر-2016

نقش يصور مشهد تعذيب خلال محاكم التفتيش الإسبانية، طبع في 1849. تصوير ستيفن رايت

المقال أدناه ترجمة لمقال نُشر في "Britannica"، لإدوارد أ ريان، رئيس جامعة سيدة الشهداء في أوريسفل، في ولاية نيويورك، بين عامي (1962-1964)، وأستاذ تاريخ الكنيسة، في كلية ودستوك، في ميريلاند، بين عامي (1936- 1962).


تعد محاكم التفتيش الإسبانية (1478-1834) مؤسسة قضائية أقيمت ظاهريًا من أجل مواجهة الهرطقة، وتعزيز قوة النظام الملكي المُوحد في المملكة الإسبانية، ولكن لم تتحقق هذه الأهداف إلا باستخدام أساليب وحشية سيئة السمعة.

لعبت محاكم تفتيش العصور الوسطى دورًا مؤثرًا في إسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر

ظهور محاكم التفتيش في إسبانيا
 
لعبت محاكم تفتيش العصور الوسطى دورًا مؤثرًا في إسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر، لكن الصراع القائم هناك ضد العرب الأندلسيين شغل قاطني "شبه الجزيرة الإيبيرية"، وعمل على تدعيم ركائز محاكم التفتيش، وبنهاية القرن الخامس عشر أضحت رغبة بعض الحملات التي أُقيمت من أجل استعادة إسبانيا من أيدي العرب أكثر علانية، وسرعان ما أصبح يهود إسبانيا هدفًا لهذه الحملات، كونهم الأكثر عددًا بين الجاليات اليهودية في أوروبا.

اقرأ/ي أيضًا: هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟

زادت أعداد الطائفة اليهودية في إسبانيا على مر العصور، وذلك على الرغم من طفو اللاسامية من وقتٍ لآخر، كما أنهم واجهوا اضطهادًا وضغطًا كبيرين لاعتناق المسيحية أثناء حكم الملك "هنري الثالث"، ملك قشتالة وليون (1309-1406).

لاقى المجتمع اليهودي الإسباني في ذلك الوقت الكثير من العنف والتهديد، واجتاحتهم العديد من المذابح الوحشية المُدبرة أواخر القرن الرابع عشر 1391، وكان عليهم الاختيار بين المعمدانية واعتناق المسيحية أو الموت.

اضطهد حينها بعض اليهود لادعاء اعتناق المسيحية حتى ينجوا من الموت، وعلى الرغم من ذلك تم قتل الكثير من اليهود، وأصبح زاعمو اعتناق المسيحية منهم محل اشتباه أكثر من أولئك الذين رفضوا اعتناق المسيحية وظلوا على دينهم؛ حيث شكلوا تهديدًا كبيرًا على صفو الأمن العام الإسباني، خاصة بعد اتحاد منطقتي "أراغون" و"قشتالة" عن طريق زواج الملك "فرديناند الثاني" من الملكة "إيزابيلا" 1469.

وفي عام 1478 أصدر البابا "سيكستوس الرابع" مرسوم يُجيز للملوك الكاثوليك البت في مسألة يهود إسبانيا، وتعيينهم كمحققين فى محاكم التفتيش، لكن لم يعنِ ذلك أن يعهد ملوك إسبانيا إلى الكنيسة بتولي الأمر برمته أو تسليمها دفة تحقيق الوحدة والكفاح في البلاد، ولكن على النقيض أحسن التاج الملكي استغلال محاكم التفتيش من أجل دعم نظام الحكم المركزي الاستبدادي وزيادة القوة الملكية في "أراغون".

عُقدت أولى جلسات محاكم التفتيش في مدينة "إشبيلية"، وأُثبتت محاولة البابا "سيكستوس الرابع" التدخل في الشؤون الداخلية، على الرغم من محاولاته للحد من صلاحيات محاكم التفتيش، ولكن ذهبت محاولاته هباءً، وأصبح لدى التاج الإسباني سلاح ثمين هو "محاكم التفتيش". 

تم إجبار مسلمي منطقتي "بالينسيا وأراغون" على تحويل ملتهم إلى المسيحية وترك الإسلام 1526

وُضعت أقاليم "أراغون، فالنيسيا، وكاتالونيا" تحت سلطة محاكم التفتيش عام 1483، وتم تعيين المحقق العام كرئيس لمحاكم التفتيش الإسبانية، وذلك بفضل السلطة التي خولت له من قِبل الفاتيكان، وتفويضه كنائب لها ومستمع إلى الطعون المقدمة، وعاونه مجلس مكون من خمسة مستشارين للاستماع والبت في هذه الطعون، وذلك وسط تأييد من الحكومة والمحقق العام على حدٍ سواء. لكن أثناء فترة حكم الملك "فيليب الثاني" (1556-1598) تم إعادة تنظيم المجلس وتحويل القرارات الفاعلة إلى أيدي القوى المدنية.

اقرأ/ي أيضًا: الأدب الأفريقي ومسألة اللغة

يعد الدومنيكان "توماس دي توركيمادا" أول محقق عام لمحاكم التفتيش الإسبانية، وكان اسمه مرادفًا للوحشية، التعصب، والتطرف. استخدم "توركيمادا" التعذيب والحرمان لإرهاب ضحاياه، وكانت أساليبه وليدة عصر كانت القسوة والوحشية هما السمتان السائدتان فيه؛ حيث كان يُعرض المتهم أمام حشد كبير من الناس في احتفال بهيج، ويكون ذلك في حضور الملك في بعض الأحيان، ومن ثَمَّ ممارسة بعض الإجراءات والطقوس الشكلية كمحاكمة.

أثناء تولي "توركيمادا" منصب رئيس محكمة التفتيش الإسبانية، زاد عدد المتهمين المحكوم عليهم بالحرق من البروتستانت الذين ينتقدون عمل المحكمة، ووصل عددهم حينئذ إلى حوالي ألفين متهم. ألح "توركيمادا" على الملك "فرديناند" والملكة "إيزابيلا" لإصدار مرسوم ملكي صدر في الحادي والثلاثين من آذار/مارس 1492، تم فيه تخيير يهود إسبانيا بين اعتناق المسيحية أو النفي خارج البلاد، وجرّاء ذلك المرسوم تم طرد مئة وستين ألف يهودي خارج إسبانيا.

واصل الكاردينال "فرانسيسكو خيمينيز دي سيسنيروز" -أمين سر الملكة إيزابيلا- المُضى على خطوات "توركيمادا" بنفس الحماس، إلا أن حملات القمع التي قام بها كانت ضد المسلمين وليس اليهود.

عام 1502 أُصدر قرار بحظر الإسلام في "غرناطة"، آخر مدن المملكة الإسلامية (الأندلس) سقوطًا في إسبانيا، وتم إجبار مسلمي منطقتي "بالينسيا وأراغون" على تحويل ملتهم إلى المسيحية وترك الإسلام 1526، ومن ثَّم تم حظر الدين الإسلامي في جميع أرجاء إسبانيا بسبب عدم قبول المسلمين بذلك.

تحول بعد ذلك انتباه محاكم التفتيش إلى الموريسكيين؛ وهم المسلمون الذين قبلوا اعتناق المسيحية والبقاء في إسبانيا. وفي عهد الملك "فيليب الثاني" 1566، مُنع الموريسكيون من إظهار أو استحضار أىٍ من شعائر ثقافتهم، وخلال الثلاث سنوات فتح اضطهاد محاكم التفتيش للموريسكيين باب حرب بينهم وبين التاج الإسباني، وتم إجلاء الموريسكيين عن غرناطة 1571، وبحلول عام 1614 كان قد تم طرد ما يقرب من ثلاثمائة ألف موريسكي خارج إسبانيا.

عند بدء حركة الإصلاح الديني بالتسلل إلى إسبانيا، تم القضاء على عدد لا بأس به من البروتستانت الإسبان من قِبل محاكم التفتيش، كما تم تطهير البلاد من عدد ضخم من اليهود، المسلمين، والموريسكيين. تحول بعد ذلك انتباه محاكم التفتيش إلى الروم الكاثوليك، وتم القبض على القديس "أغناطيوس لويولا" مرتين بتهمة الهرطقة، كما سُجن رئيس أساقفة "توليدو" المطران الدومنيكان "بارتولوميو دي كارانزا" لمدة سبعة عشر عامًا. انحرفت بعض الجماعات المسيحية عن عقيدة محاكم التفتيش "الأرثوذكسية" مثل أتباع "ألمبرادو"؛ مما جعلهم عُرضة للاضطهاد الشديد خلال القرنين السادس والسابع عشر.

المقاومة وتراجع محاكم التفتيش 

ضمت الهيئة العليا لمحاكم التفتيش أربعة عشر هيئة قضائية أخرى تحت لوائها، بعضها داخل إسبانيا والبعض الآخر في عدد من المستعمرات، وكانت الهيئات القضائية الممثلة لمحاكم التفتيش في "المكسيك" و"بيرو" هي الأكثر قسوة. تم إنشاء محكمة تفتيش إسبانية في جزيرة صقلية 1517، ولكن باءت محاولات إقامتها في "نابولي" و"ميلان" الإيطاليتين بالفشل.

عند بدء حركة الإصلاح الديني بالتسلل إلى إسبانيا، تم القضاء على عدد لا بأس به من البروتستانت الإسبان من قِبل محاكم التفتيش

اقرأ/ي أيضًا: عن الكتابة والامتثال والجوائز

أدخل الإمبراطور الروماني "شارل الخامس" محاكم التفتيش إلى بعض دول أوروبا؛ مثل "هولندا، بلجيكا، لوكسمبورج، والأجزاء الشمالية لفرنسا"، ولكن محاولاته للقضاء على البروتستانتية باءت بالفشل. أقام الملك "جون الثالث" ملك البرتغال هيئة قضائية ضد اليهود البرتغال تشبه محاكم التفتيش الإسبانية، وذلك بعد حصوله على إذن من البابا "بولس الثالث"، ولكن أساليبه جعلت البابا يقوم بسحب الإذن الذي كان قد أعطاه له قبل ذلك، ولكن تمت إقامة محاكم تفتيش بشكل فعلي في البرتغال عام 1547، وذلك في الوقت الذي اتسع فيه نطاق محاكم التفتيش.

ظلت محاكم التفتيش تُشكل قوة لإسبانيا ومستعمراتها لمئات السنين، وإن كانت التجاوزات التي ارتكبها "توركيمادا" تركت ندبة على جبين إسبانيا، ومن المفارقات أن الهيكل البيروقراطي الراسخ لمحاكم التفتيش ساعد في عزل إسبانيا عن تحمل تبعيات المحارق التي أقيمت للساحرات واجتاحت أوروبا، وحصدت عشرات الآلاف من الأرواح أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر.

قُمعت محاكم التفتيش الإسبانية من قِبل "جوزيف بونابرت" 1808، وأعادها "فرديناند السابع" 1814، وقُمعت مرة أخرى علم 1820، وأعيدت عام 1823، وقُمعت بشكل دائم ونهائي عام 1834، أما محاكم التفتيش البرتغالية فألغيت عام 1821.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دفاعًا عن الكاتبات المتزوجات والعاملات

مآلات العنف الداعشي