05-يونيو-2020

فتحت قضية جورج فلويد جراح العنصرية في فرنسا (أ.ف.ب)

في تحدٍ لحالة الطوارئ الصحية، والتي حظرت الحكومة الفرنسية بموجبها التجمهر، عصفت مسيرات حاشدة شوارع باريس. المسيرات التي انطلقت تضامنًا مع جورج فلويد، ضحية العنف العنصري للشرطة الأمريكية، أيقظت جراح العنصرية في بلد التريكولور، والتي لم تكن نائمة قط.

نادت مظاهرات باريس بما يزيد عن 20 ألف حنجرة: "العدالة لتراوري!"، باعثة قضيته من جديد بعد أن خيلَ أنها ماتت على رفوف المحكمة

نادت مظاهرات باريس بما يزيد عن 20 ألف حنجرة (حسب تقرير بلدية المدينة): "العدالة لتراوري!". باعثة قضيته من جديد بعد أن خيلَ أنها ماتت على رفوف المحكمة، بمستجدات تحمّل رجال الدرك تهمة قتلِ أداما تراوري، الشاب الفرنسي ذو الأصول الإفريقية الذي لفظ أنفاسه أثناء عملية اعتقاله سنة 2016.

اقرأ/ي أيضًا: مكارثية جديدة.. ما هي تداعيات تصنيف أنتيفا كـ"منظمة إرهابية"؟

عودة قضية تراوري

مقابلَ محكمة باريس الفرنسية تقفُ أسّا تراوري، شقيقة أداما تراوري، أمام 20 ألف متظاهرٍ قدموا للتضامن مع قضية شقيقها. قضية تعود أطوارها لسنة 2016، حيث عمد عنصران من درك مدينة بومونت سير واز، شمال شرق العاصمة، إلى اعتقال شقيق أداما الذي كان بصحبته، فيما آداما فرّ من قبضة الدرك لأنه لم يكن يحمل معه أوراقًا ثبوتية. خائفًا من المعاملة الشنيعة التي تطال المهاجرين السريين الذين يمكن أن يحسب عليهم، تابع أداما تخفيه قبل أن يلقى عليه القبض، ويقضي نحبه بعدها في داخلَ مخفر الدرك، عن سن لم يتجاوز الـ 24 سنة.

لم تجلب المحكمة حقًا لعائلة الفقيد، كما لم تحكم بمسؤولية الدرك عن وفاته، وأقفلت القضية سنة 2018. فيما واصلت عائلة تراوري نضالها من أجل حق ابنها، وأطلقت أخته آسّا حركة "العدالة لأداما تراوري". وصولًا إلى الأيام الأخيرة حيث ظهرت مستجدات في القضية، هي خبرة طبية محايدة أجرتها العائلة، تؤكدُ أن العملية التي اعتقلت بها الضحية بتثبيتها على صدرها مع الأرض، كانت سبب اختناقها. وبالتالي فرجال الدرك يحملون مسؤولية قتل آداما.

نتظاهر من أجل العدالة

إثر هذه المستجدات دعت عائلة الضحية إلى تظاهرة للمطالبة من خلالها بحق ابنها، تزامنت والموجة الاحتجاجية التي تسود أمريكا تنديدًا بمقتل جورج فلويد، حيث خطبت شقيقة تراوري في المحتجين مذكرة بأن ما حدث في الولايات المتحدة وقع ويقع في فرنسا منذ سنوات، معيدة سرد قصة أخيها ومؤكدة أنه مات كما جورج فلويد مخنوقًا تحت ثقل ثلاثة من رجال الدرك الذين ضغطوا عليه من أجل تثبيته على الأرض. كانت أسّا تصرخ، والجماهير ترد عليها في حماسة بهتافات: "الشرطة تقتل!" و"العدالة لفلويد! العدالة لآداما!".

جماهيرٌ مثّلَ جزء كبير منها شباب الضواحي من مغاربيين وأفارقة، هذه الفئة التي غابت عن الساحة الاحتجاجية بفرنسا طيلة سنتها الماضية الملتهبة، واعتزلت التظاهر سواء مع السترات الصفراء أو مع النقابات، عادت لتطالب بحقها بالأمن من العنصرية وبالعدالة. تصرخ الممثلة والمخرجة الفرنسية من أصول إفريقية، عيسة مايكا، أن مطالب الاحتجاج هي بالأساس تحقيق العدالة لكل ضحايا عنف الشرطة الفرنسية، وأن هذا النضال يجب أن ينطلق في كل الميادين دفاعًا عن مختلف الإثنيات والعرقيات المكونة لتعددية المجتمع الفرنسي.

هذا قبلَ أن تهجم الشرطة الفرنسية بكلّ عتادها على الجماهير، راشقة إيّاهم بقنابل مسيلة للدموع وقنابلَ صوتية، طالقة العنان لمشاهد عنف، أرغمت المحتجين على الهرب نحو الشوارع المحاذية، لتندلع بعدها بؤرُ مواجهات عنيفة، تراشق فيها الطرفان بالحجارة والقنابل لساعات طويلة بعدها، انتهت بفض التظاهرة واعتقال 18 من المشاركين فيها.

كسرُ الحظر

تعيش فرنسا، مثل باقي العالم، في حالة طوارئ صحية استوجبها استشراء فيروس كورونا الجديد، والذي حصد داخل البلاد ما يزيد عن 150 ألف إصابة وما لا يقل عن 29 ألف حالة وفاة. بموجب هذه الظروف حظرت الحكومة الفرنسية كلّ تجمهر في الشارع العام، عطلت بذلك السيرورة النضالية التي كان يقودها الشعب الفرنسي؛ سواء تلك التي قادتها حركة السترات الصفراء، أو الانتفاضة العمالية في وجه إصلاح التقاعد الجديد.

فيما كسرت مظاهرة باريس ضد العنف البوليسي والعنصرية جدار السكون القصري المطبق على الشارع الفرنسي. استثارَ هذا الأمرُ ردودَ فعلٍ عديدة، على رأسها رئيس بلدية باريس 17، جيوفروا بولار، الذي استهجن قائلًا: "لم أفهم كيف تمّت إقامة مظاهرة غير مرخصٍ لها وممنوعة بموجب الطوارئ الصحية!"، محملًا مسؤولية ما حصل إلى الشرطة التي في نظره لم تتعامل مع الوضع كما يجب.

هذا وغرّدَ وزير الداخلية الفرنسي، كريستوف كاستانير، قائلًا: "ليس للعنف مكان داخل الحياة الديموقراطية!"، في إشارة إلى الصدامات التي تلت المظاهرة. مضيفًا أنه "لا شيء يبرر الانحرافات التي همتّ سير المظاهرة"، مذكرًا بكونها غيرَ قانونية بموجب قانون الطوارئ الصحية. لكن وعلى ما يبدو أن المظاهرة نجحت في إيصال صوتها تحت قبة البرلمان، حيث تمت مساءلة وزير الداخلية عن العنصرية المتفشية بين رجال الشرطة، ليجيب متوعدًا بإقرار عقوبات صارمة لكل شرطي ثبتت فيه الإدانة بهذه الجرائم، ومؤكدًا على أن وزارته على تأهب تام لمواجهة الأمر.

اليسار يتحدث عن رفع الحجر النضالي

بطبيعة الحال، كانت مظاهرة باريس لتستثيرَ اليمين الشعبوي الفرنسي، كيف لا وأبطالها هم من يكن لهم هذا اليمين المتطرف العداء. هكذا فتحت ماسورة عنصرية عبر تعليقات الوجوه البارزة لهذا اليمين، وعلى رأسهم حزب التجمع الوطني بزعيمته مارين لوبان. والتي غردت واصفة المظاهرة بأنها "مدعاة للخجل"، محقرة المشاركين فيها بسخرية أنهم "لا ليس لديهم أوراق ثبوتية، لكن كلّهم يملك محمول أيفون!"، خاتمة تغريدتها بوسم "رحلوهم إلى بلدانهم!". 

كما علّق نائبها في رئاسة الحزب، جوردن بارديلا، في تغريدة هو الآخر أن "هناك أطراف داخلية تستمتع باستيراد الصراعات العرقية من الخارج ونشرها داخل المجتمع الفرنسي لخلق التفرقة"، مشيرًا إلى اليسار ممثلًا في رئيس حركة فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون، الذي أعلن تعاطفه مع الاحتجاجات الأخيرة ضد العنصرية وتضامنه مع حركة ANTIFA التي يلاحقها ترامب.

اقرأ/ي أيضًا: ولايات أمريكية تفرض حظرًا للتجول.. والاحتجاجات تمتد لأكثر من 75 مدينة

فيما كتب القيادي اليساري، جان لوك ملانشون، على مدونته مقالًا عنونه بـ "رفع الحجر الصحي عن النضالات الاجتماعية". والذي يفتتحه بالتعبير عن إعجابه بالظروف التي مرت فيها التظاهرة، واصفًا إيّاها بـ "المثيرة للإعجاب والتي نجحت في تملك الغضب والتعبير عنه بشكل حضاري أمام الاستفزازات اليمينية"، ورادًا الصفعة إلى خدّ اليمين المتطرف "أنهم هم من يجب أن يخجلوا من أنفسهم إزاء المستوى الذي أديرت به التظاهرة" وأن وسمه بـ "استيراد النزاعات من الولايات المتحدة" يجانب حقيقة قطاعٍ كبير من الشعب الذي "يعيش تحت الإهانة المستمرة بسبب لون بشرته".

الصراعات المشتركة التي تخوضها الشعوب، هي التي توحد ثائرًا في السودان بآخرَ في باريس، ومحتجًا في هونغ كونغ برفيقه في تشيلي، وتجعلُ من آداما تراوري وجورج فلويد ضحيتا جلادٍ واح

بعدها يعرج القيادي اليساري على تقديم وصفٍ للحالة الاجتماعية التي تعرفها البلاد، التي تواجه أكبرَ تحدياتها بعد الأثر القاسي الذي خلفته كورونا على الاقتصاد، مجبرة أكثر من 4.6 مليون فرنسي على فقدان وظائفهم، في حين أن كلّ مشاريع ماكرون لإنقاذ الاقتصاد تأتي على مصالح الطبقة وتدفعها خارج المعادلة. ومنها يؤكد أن هذا المشترك الاجتماعي والصراعات المشتركة التي تخوضها الشعوب، هي التي توحد ثائرًا في السودان بآخرَ في باريس، ومحتجًا في هونغ كونغ برفيقه في تشيلي، وتجعلُ من آداما تراوري وجورج فلويد ضحيتا جلادٍ واحد.