16-يونيو-2020

الشاعر والناشر خالد سليمان الناصري

لم يكتشف الإنسان في تاريخه سرًّا أعمق من الشعر في التعبير عن آلامه وأحلامه، فمنذ نصوصه الأولى التي حاول أن يفسر بها العالم، وحاول أن يفهم ذاته، والإنسان يقيم على هذا الكوكب الأزرق إقامة شاعر، قبل أن يفكّر في وضع قوانين لتلك الخيالات، ويحوّلها حقائق منزلة، وينضبط لها في المربّع الذي هندسه لوجوده، وسمّاه مدينة، ثمّ حرصًا منه على إبعاد كلّ شبهات تمس حقائقه بنار الشعر، طرد الشاعر من مدينته، وانتهى مجرد كائن يقيني بارد.

في كتاب "بلاد الثلاثاء" للشاعر خالد سليمان الناصري نسمع عواء الشعر ونجد كلّ ما يقلق راحة الكائن اليقينيّ

إنّ هروب هذا الكائن اليقينيّ من الشعر هو هروب من الهاوية التي تنفتح في ذاته، هروب من الأسئلة التي تجلده، هروب من فردانيته وإحساسه بالاختلاف عن الجماعة. وهو لم يكتف بهروبه من الشعر، بل حاول أن يروّضه، ويدخله في قوالب يقينياته، تمامًا كما روّض أجداده الأوائل الكلاب البريّة، وحوّلوها حراسًا لقطعانهم. لكن الشعر الحقيقيّ ظلّ مستعصيًا عن الترويض، يعوي تحت القمر، ويملأ ليل الكائن اليقينيّ بالخوف والشكّ والهواجس.

اقرأ/ي أيضًا: "منشورات المتوسط".. الاختراق عبر الكتب

في كتاب "بلاد الثلاثاء" (دار المدى، 2020) للشاعر خالد سليمان الناصري نسمع عواء الشعر ونجد كلّ ما يقلق راحة الكائن اليقينيّ، من إشارات واضحة للهاويات التي تنفتح في ذاته، ومن أسئلة صاعقة مصوّبة نحو رأسه، وسخرية من وهم جماعته. إنه كتاب ينتصر للشكاكين والهامشيين، المطرودين من المدينة دون أكاليل غار على رؤوسهم.

منذ النص الأول، يضعنا الناصري أمام عبثية الوجود، الركض مع ملايين الأشخاص، للجوء إلى بويضة دافئة، إنه السباق الوجودي الذي يولّد في الإنسان غريزة البقاء، ويدفعه لقتل أخيه، لأجل بويضة، وهذه البويضة قد تكون فكرة أو مدينة أو امرأة... إنها حرب الوجود التي لا تنتهي. إنّ هذا السباق هو الذي يفضح أنانية الإنسان، بل إنه هو طريقته العجيبة للوجود، المارثون الأول ضد العدم: من يصل يكون، ومن يتعثّر ينتهي.

"كانت قبيلتي قد رحلت

تاركةً لي خيمةً وحيدةً، عمودها مكسورٌ

ومضاربَ ضربها الجميعُ

فلجأتُ إلى مدينةٍ، وجدتها تكره الغرباءَ، وتُكثر منهم، فلم أفهمها، لذا كان لا بدَّ لي أن أولدَ فيها

فلجأتُ إلى خصْيتي رجلٍ غريبٍ، اسمه بالضّرورة: أبي،

وهناك سابقتُ ملايين الرّجال، وسبقتهم، ذاك أني في الصّحراء كنت قد اعتدْتُ الجريَ خلف أحلامي التي تفرُّ مني على ظهور أحْصنة عربيّة أصيلةٍ".

من المفارقات الساخرة، أن يكون هذا الركض، لأجل حياة تبدأ بيوم الثلاثاء، وهو اليوم الذي خُلق فيه الشرّ، حسب معتقد البلاد التي وجد الشاعر نفسه فيها، لكنه يصرّ على خلق أسطورته من خلال يوم الثلاثاء، فسفره من بلاد الثلاثاء، كان يوم الثلاثاء، وهو لم يذهب إلى أقصى الشمال، إنما كان سفره إلى جنوب الشمال، إلى بلاد تعتقد أنّ أشهر برج فيها عاش مائلا لأنّ ميلاده كان يوم الثلاثاء، المقاربة هنا تصبح بين الشاعر وبرج بيزا، هو لم يذكرها في الكتاب، لكن الإشارات قادتنا إليها.

يتحدث الشاعر عن سباقه الأول للوجود، بسخرية المخلوق المسيّر، الذي لم يختر أباه، ولم يختر يوما متفائلا لميلاده، ولم يختر بلادا تحب الشعر والحياة، ويبدأ الشاعر ثورته، بخلق اختياراته، بداية من أبيه، فاختار أن يكون الشاعر بودلير:

"أجلْ، وُلدْتُ. لكن، ليس بقرارٍ من القوى العلويّةِ،

يا بودلير، يا أبتي".

ثمّ اختار الشاعرُ بلادًا غير البلاد التي وُلد فيها، لكنه لم ينس أبدا أشباهه الذين شُرّدوا وقتّلوا ونُكّل بهم في بلاد الثلاثاء، واختار أن يكون صوتهم المكتوم، إنه يحاول أن يهرّبهم من بلاد الثلاثاء، إلى بلاد أكثر رأفة بخطاياهم الصغيرة:

سأكتبُ عن الموتى حتّى يتّسعَ الضّوءُ.

هكذا صرخ الشاعرُ، وهو يستحضر صور جثث المقتولين، في بلاد الثلاثاء، جثّة الطفل حمزة الخطيب، التي ثُقبت بالرّصاص، وقُطع عضوها، وجثّة المغنّي إبراهيم القاشوش، التي قطعت منها حنجرتها، وجثة سكينة أشتياني، المرجومة.. وجثث كثيرة مقطوعة الرّؤوس لم يذكر الشاعرُ أسماءها. يصل الشاعرُ إلى خلاصة قاسية، وهي أنّ الذي قطع في بلاد الثلاثاء، هو رأسُ الحكمة.

"وإنْ لم يجئ زمني، سأجيء أنا

سأجيء مخمورا يترنّحُ، لأذكّر الآخرين بالموسيقى،

سأجيء محمومًا يتعرّقُ، لأُشْعرَ المشرّدين في شتاءات المدينةِ بالدّفءِ".

في بلاد الثلاثاء، كان الشاعر يحسّ بالاختناق، لذلك عاد إلى الأبجدية السورية القديمة، الأبجدية الأوغاريتيّة، التي تُصنّف كأكثر الأبجديات اكتمالا، بثلاثين حرفا، وعنْونَ بها نصوصا كثيرة، واستحضرها في أشكال تحاكي القنابل والصواريخ والطائرات، في البلاد التي عرفت أقدم الأبجديات، تتعطّل فيها الحكمة، وتعوّضها لغة القنابل والصواريخ والطائرات.. هذه كانت إشارة الشاعر.

في بلاد الثلاثاء، كان الشاعرُ يحسّ بالاختناق، من غاز السارين، ومن غازات أخرى تخرج من فم الرّواة، الذين يزيّفون الوقائع

في بلاد الثلاثاء، كان الشاعرُ يحسّ بالاختناق، من غاز السارين، ومن غازات أخرى تخرج من فم الرّواة، الذين يزيّفون الوقائع، باختلاق روايات تحاول أن تجد تفسيرا للحالات الغريبة التي يسبّبها غاز السارين. الشاعر هنا، يقترح عليهم روايات مناسبة لمخيلاتهم في يوم الثلاثاء، بأسلوب فيه من السخرية، ما فيه من المرارة.

اقرأ/ي أيضًا: "ترجمة باخ" لبدر عثمان.. قصائد تُترجم الموسيقى

الشاعر خالد الناصري، وهو أيضًا مصمّم أغلفة كتب مبدع، يعرف أنّ غلاف الكتاب هو المحطة التي ينطلق منها القارئ، للسفر في عوالم الكتاب، لذلك حين يقترح على القارئ أن يضع قناعًا واقيًا من الغازات، قبل الدخول إلى بلاد الثلاثاء، لم تكن المسألة مجانية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يحيى حسن.. القصيدة الموقوتة

مختارات من شعر بندر عبد الحميد: من يفهم شِعري يعرف وجهي