08-مايو-2020

يحيى حسن (1995 - 2020)

النبي الكذّاب

يجب أن يكون حزن البشرية عميقًا لخسارة شاعر لا يُولَدُ مِمّن هُم على موهبته الفذّة كثر. ظاهرة لا تتكرر بتطويع اللغة لنحت الفظّ المقزز، الفجّ، الوعر، المهين، الموجع، الخام، الخشن، المقرف لغويًّا.

لا يمكن إلا أن تكون آلهة في السموات قد خصَّت يحيى حسن (1995 - 2020) بتكليمه، ولكن هذا الرسول وجد نفسه يصرخ صرخته هو، الصرخة المليئة بالذنوب والأخطاء، وبباطل البشرية المقنّعة من حوله. أراد أن يخلّصهم ويخلّص نفسه من الزيف المهلك.

وقف الشاعر الراحل يحيى حسن نحيفًا يافعًا منفعلًا يتلو مثل نبي ما أُوحي به إليه، ولكنه في كل مجاهرة يخسر شيئًا من روحه

نعم، وقف نحيفًا يافعًا منفعلًا يتلو مثل نبي ما أُوحي به إليه، ولكنه في كل مجاهرة يخسر شيئًا من روحه، يصعد في نصّ ساحر بغرابته، صادمٍ بألقه الخاص. لم يأت الى العالم من دون رسالة أو معنى كما يظن. قال الحقيقة، قالها بوحشية شاعر لا واعية، تحرّك كلّه كقصيدة موقوتة، لذا لم يكفّ محيطه عن إعلان زعامته المهدَّدة بشتى الطرق، كان من الضروري مَحْقَه، وبالمرة تلقين الصغار جيلًا بعد جيل درسًا في الأخلاق والقيم والعادات.

الغاوي

الحدس، الرهافة، البصيرة النافذة، القلق الروحي، التأجج، الأصالة، الصدق، الجرأة. هذه كلها قد لا تجتمع على الدوام في نصّ من نصوصه، ليست في كل نصوصه، ولكنها اجتمعت وتفرّد بها وارتقى عبر الكثير منها، بالمقابل تهافت الناس على الحضور أينما حلّ وقرأ. وصار غاويًا لعله يشعر بجسده بطريقةٍ ما، من أحدٍ ما أو مكان ما. في كل نصّ له يريد لك أن تتوجع تغضب تنذهل وتبكيه، هذا الطفل المرتبك. تأمل بشدة لهذه الروح اللائبة أن تهدأ قريبًا، وأن يكبر الطفل ويلتفت إلى نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: الحكاية التي في عينَي يحيى حسن

الابن المنبوذ

ما الذي يعرفه صحفي يعمل لصالح واحدة من تلك الصحف الصفراء عن طفل نشأ في غيتو للأجانب؟ كانت الأحزاب السياسية تستخدمه في كل مرة كورقة مضمونة للكسب في برنامجها الانتخابي، من دون أن تقدّم بعد ذلك حلولًا جذرية لمشاكل عوائل اللاجئين والمهاجرين المكدّسة في هذه الغيتوهات. نسلٌ مكدّس يتراكم من اتحاد سادية الأب بعجز الأم التي لم تكن أمامه سوى حجاب. وما الذي يعرفه عابرون مترفون يدرك حسن أن قلقهم لا بد وأن يكون بشأن مدى فعالية إحدى شركات التأمين؟ من يعرف سرّ كلِّ نزق هذا المراهق وروحه الهدّامة وسط التناقض الصارخ الذي وجد نفسه لسوء الحظ غاطسًا إلى ما فوق العنق فيه؟

ما معنى الولاء؟ أي ولاء نختار؟ ومَن من الجهات أكثر ولاء لما تدّعيه هي؟

 لذا التيه بين العائلة، البيئة المحيطة، اللغة، المجتمع والدولة التي تمثلها المؤسسات.

المهاجر المثالي

إن صادفتْ عينُك شِعرًا بحروف كبيرة (كابيتال) وحجم كبير فاعلم أنها تعود إليه، أو توميء إليه. إن سمعتم تلاوة شعرية لن تخطيء الأذن أبدًا في التعرّف عليه عبرها!

إن حاولتَ أن تفتح قاموسًا على النَتْ أو تستخدم "غوغل" ستجد أن التسمية præmieperker ولنقل إنها "المهاجر المثالي" استخفافًا. أجل له العديد من التسميات عن حق وعن باطل. المهاجر المثالي والذي أُطلق عليه من قبل ميديا الدولة المضيِّفة هو الختم الذي نحاول جهدنا نحن أجانب ولاجئين الهروبَ منه كقدر. ختم العبد المعتوق، حرف النون الذي استخدمته داعش، ورقم سواعد نزلاء المعسكرات النازية.

حين صدر ديوانه الثاني، أواخر العام الماضي، كان آنذاك نزيل قسم الأمراض النفسية. أمسَكَ بسيجارة أشعلها له محرره الأدبي الذي رافقه مذ كان بعمر السادسة عشرة. حاول أن يثبت لنا تماسكه رغم الهشاشة التي كانت بائنة على هيأته. ظهوره هذا في حفل توقيع ديوانه "يحيى حسن 2" في معرض الكتاب كان حدثًا كبيرًا بعد غياب، تصدّر نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي.

من أنتَ يا يحيى حسن لتتوهّم الدور البطولي هذا؟ لتعلن تمردّك واحتجاجك ضد قوانين البشرية المكتوبة وغير المكتوبة؟

أهمّ شاعرات وشعراء وأديبات وأدباء وفناني الدنمارك نعوه. هم وحدهم من اقتربوا منه وأحبّوه لأنه أحيا الشعر الذي قاربَ على الموت. بالشِعْر أعاد إلينا نظرنا، أنبأنا عن أمكنة مفاعلات العنف والقسوة، من أين النزيف وعمق الجرح، ولكنه كان طوال الوقت أيضًا يشير إلى صمتنا.

اقرأ/ي أيضًا: استراحة على شرفة من لا عيد لهما

وما طُرِحَ حينها بالنتيجة كان على سياق ما قبل وبعد شعر يحيى حسن. ودّعوه عبر مقالات، خطب، لقاءات في التلفزيون، في الصحف والإذاعة، وعبر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، شيِّع بالممكن من جمال اللغة، وهي في عوزها الدائم، لا سيما في تسطير كلمات وداعٍ من هذا النوع!

نعم، من أنتَ يا يحيى حسن لتتوهّم الدور البطولي هذا؟ لتعلن تمردّك واحتجاجك ضد قوانين البشرية المكتوبة وغير المكتوبة؟ تجرّأ هذا الطفل ليرفضها علنًا، واضطر إلى أن يكبر مبكرًا ليحارب وحيدًا، ومن هنا أُعلنَتْ الحرب عليه، إن لم يكن هو بنفسه من أقام الحرب على نفسه!

هذا الطفل أصبح شاعرًا كبيرًا، وكان سيصبح عظيمًا لو لم يمت قبل يومين، لو كان يملك جنسية كالتي يملكها أطفال العالم (أصرّ يحيى حسن على تقديم نفسه فلسطيني من دون دولة حاملًا للجواز الدنماركي)، لو لَمْ يُحشَر في هذا الغيتو الذي أطلق عليه يحيى وهو لم يكمل بعد الثامنة عشرة: سجنًا من دون قضبان! لماذا سمّاه سجنًا؟ لأن من يدخله قد يكون بريئًا من التهمة التي ثبتت عليه، لأن من يدخله عليه أن يطيع قوانين السجناء بالتراتبية التي ترسمها كل زنزانة بعيدًا عن الرايات والمثل التي سمع عنها، لأن من سيُفرَجُ عنه ويغادر هذا السجن سيظل مختوم الروح، تمامًا كما جاء إلى هذا العالم، معذّبًا ملعونًا مهما ابتعد!


مختارات من ديوان "يحيى حسن" دار غولديندال 2013

من "قصيدة طويلة"

يقولون اصْحَ وتشممْ الفَرْج

لكني أُشعِلُ النارَ في الكلمات

أَنظرُ بعيدًا

إنهم يعانون

لكنها ليست معركتي

لحمي مستَلَب

الرصيفُ ليس لي

أبتسمُ في ضوءِ شمسٍ وأجواء

أريدُ أن أتكلّم

ولكن ليس حول هذا

أُدوّن إني خائف

إني أمجّ سيجارة أخرى

ابعِدْ بنفسِكَ عن هذه العتمة

كل الذين يحبونك ينصحونك بهذا

سرعان ما ستُلقى ميتًا في حفرة

خَنْقًا بِشِعْرِكِ

خصلاتُ شَعْرِكَ الأجعد الطويل لن تنقذكَ

ولكن من المبكر جدًا أن تصير عاطفيًّا

مبكرًا جدًا أن تدخّن لفافةَ حشيش

وتصير أحد الذين يسلكون طرقًا جانبية

من دون أن يكون لك مُهمّة مع الله

أسلِّمُ بيدي مُلوّحًا مثل طفلٍ صغير

1- 2 - 3 في وسط الزوال.

 

من "كسوف"

أغادرُ بحثًا عن بطن أمي

جعلتموني رهينةً

جعلتموني قادرًا على جَرح أمي

عندما قطعتُم حبل سرّتي

ما كان يجب أن تفعلوا ذلك

كان عليّ أن أكون كلب أمي

مربوطًا بسلسلة

الرماد أليس هو ذاك الذي لم يعد له وجود

الظلمة أليست هي ما لا يصير أبدًا

ولكن انظروا ما خلّفه الشيطان وراءه

شعلة أبدية من جحيمه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بندر عبد الحميد وبيته

أمجد ناصر في رحيله.. راعي العزلة الأبدية