25-مارس-2021

مظاهرة في إدلب، في الذكرى العاشرة للثورة، في 18 آذار/مارس (Getty)

منذ الانفجار السوري الكبير في الـ 18 من آذار/مارس 2011 والسرديات والسرديات المضادة، التي حاولت القبض على كنه الحدث ما فتئت تتوالد لا بقصد فهمه وحسب، بل بقصد تجييره في حالة الصراع الوجودي الذي وجد أصحاب تلك الرؤى المتصارعة أنفسهم في معمعانه. ففي الوقت الذي كان مناصرو الحدث يصرون على وضعه في خانة الفعل الثوري، في رغبة مضمرة منهم لربطه بكل ما هو جديد وخير، فإن رافضيه على الطرف الآخر ظلوا يستميتون لوضعه في خان التمرد، بكل ما يعني ذلك من خيانة ونكران جميل لصاحب النعمة الأوحد كما يتصورونه، وهو في حالتنا العيانية بشار الأسد، الذي لم يقصر يومًا في توفير الخبز والأمن والأمان لرعاياه.

الرغبة بالتغيير والخلاص من حالة الظلم غالبًا ما تتوقف على الطريقة التي يعي بها المظلوم أو صاحب الحق مظلوميته

في كتابه "الثورة والقابلية للثورة" يقارب عزمي بشارة الثورة من خلال ذرى الحقيقة الثلاث "المظلومية، الوعي بها، التحرك للخلاص منها"، لا ليميز بينها وبين أنواع الاحتجاجات الشعبية الأخرى كالهبات والتمردات المحلية، وإنما ليكشف عن طابعها أو محركها الداخلي المتمثل بوجود المظلومية. هذا مع علمه المسبق أن وجود المظلومية التي قد يتجلى على شكل شعور بوجود حق أو حقوق مستلبة، لا تنتج بحد ذاتها ثورة، وإن كانت تمهد الأرضية لحدوثها.

اقرأ/ي أيضًا: من هو المهزوم؟

ذلك أن الرغبة بالتغيير والخلاص من حالة الظلم تلك غالبًا ما تتوقف على الطريقة التي يعي بها المظلوم أو صاحب الحق مظلوميته، فشتان ما بين وعيه لها كنوع من القضاء والقدر أو اللعنة الإلهية، وبين وعيه لها كنتيجة لتعدي حاكم فرد أو جماعة حاكمة عليه. ومع أن لا أحد يجادل بدور الوعي في إشعال الثورة، فإن الكلمة الفصل في هذا المقام تظل منوطة بحركة الناس أو انتقالهم من حالة السلب المصاحبة للثرثرة والشكوى المكبوته، إلى حالة الايجاب المصاحبة للخروج بقصد المطالبة بالحق والخلاص من عبء المظلومية.

نجحت سردية الناس في وعيهم لحراكهم الاحتجاجي كفعل ثوري، لا يهدف للمطالبة باستعادة حقوقهم المستلبة خارج مؤسسات السلطة الأسدية وحسب، بل لهدمها أيضًا "الشعب يريد إسقاط النظام" في إصابة الأسد في مقتل. فلقد كشفت تلك الاحتجاجات زيف إدعاءاته المتعلقة بالإصلاح والتطوير في كونها لا تعدو مجرد وسيلة من وسائل إدامة السيطرة والتحكم. الأمر الذي أسقط في يديه، وجعله يلجأ للمنطق السجالي الذي يتعمد الهروب من البرهنة على حجة الخصم وهي هنا "فكرة الخروج إلى الحق" إلى البرهنة إلى تهافت الخصم ذاته، في شيطنته في جعله تارة إهاربيًا وتارة أخرى أصوليًا عدميًا، في مقدمة لتبرير سحقه بالقوة العارية.

وحين لم تفلح أدوات قمعه في ثني الناس عن الخروج، عمد إلى التشنيع عليهم عبر مفردة الثورة ذاتها، ليس عبر بيان تهافت مطالبها الجذرية مقارنة بخطواته الاصلاحية التي قد يعد بها الناس، بل عبر إفراغها من طابعها الاحتجاجي عبر جعل نفسه مقياسًا لكل فعل ثوري، مدعيًا بأنها لوكانت فعلًا ثوريًا حقيقيًا أي خيرًا عامًا، لما تأخر عن الانضمام إليها لحظة واحدة، الأمر الذي لا يمكن فهم فحواه الهذياني إلا إذا تم التعامل مع ما يقوله الرجل كمجرد دور تمثيلي في مسرحية هزلية، يلعب فيها الأسد دور البطل الذي لا يمانع من إسقاط نفسه عبر الهتاف ضد نفسه بالشارع، ما دام الأمر برمته لا يخرج عن حدود اللعب والعبث المستساغ. فكيف لرجل أن يطالب بإسقاط نفسه أي نزع الشرعية عن ذاته، خارج المؤسسات التي استمات في جعلها مصدر كل شرعية رئاسية تذكر.

واحدة من السرديات الكبرى التي حاول النظام الدفع بها وتعميمها على أوسع نطاق ممكن بقصد النيل من الثورة، هي سردية التمرد السني الطائفي ذو التوجه الوهابي

واحدة من السرديات الكبرى التي حاول النظام الدفع بها وتعميمها على أوسع نطاق ممكن بقصد النيل من الثورة، هي سردية التمرد السني الطائفي ذو التوجه الوهابي، مستغلًا في ذلك خروج المظاهرات من الجوامع، كما خطاب بعض الدعاة السلفيين التكفيريين من أمثال عدنان العرعور. كل ذلك لحرف الانظار عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مظلومية الناس التي يجد المرء أصدائها الحقيقية في بنية المؤسسات السلطوية التي بنتها الأسدية في جسد الدولة السورية ذاتها.

اقرأ/ي أيضًا: كوميديا الثورة السورية

وبدل أن تستثمر الأسدية في عمل مؤسسة الشرطة، المناط بها ضبط الأمن العام وتحقيق العدالة عمدت إلى تفريغها من محتواها، وأحلت محلها أجهزة المخابرات التي أنيطت بها مهمة الضبط الاجتماعي، أي تحويل السوريين الأحرار إلى مجرد تابعين لسلطة الزعيم الأوحد، المالك الوحيد لكل حق أو حيز عام. كما أحلت في الوقت نفسه سرايا الدفاع وأخواتها من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري كنوع من الجيش العقائدي أو الرئاسي الذي انحصرت مهمته في حماية سلطة الرئيس وآل بيته، بدلًا من الجيش النظامي. فيما تكفلت مؤسسة الرئاسة بالحلول محل جميع الوزرات والسلطات الأخرى عبر التحكم في جميع أعمالها ومهامها، جاعلة من فكرة البرلمان الحر والنظام النزيه والصحافة المستقلة، مجرد مؤسسات سلطوية همها الأول والأخير تزيين وجه السلطة القبيح الذي تحول إلى سلطة إحتلال، لا هم لها سوى إذلال السوريين وإدامة نهبهم.

لقد أدى خلق الأسد لمؤسسات دولته السلطوية (المخابرات، الجيش العقائدي، مؤسسة الرئاسة) إلى جانب مؤسسات الدولة السورية إلى تفتيت وحدة السوريين وتحويلهم من شعب واحد يخضع لحكم مؤسسات دولة واحدة، إلى شعب يخضع لحكم مؤسستين ودولتين، واحدة قوية وسيدة وأخرى ضعيفة وعاجزة. الأمر الذي جعل من كل حراك للتخلص من دولة الاستبداد الأسدي وصفة سحرية للحرب الأهلية، وحالة من حالات الاحتراب الأهلي، التي لن تبق ولا تذر أي من الجماعات الاهلية المتنازعة (الطوائف)، بدلًا من أن يكون مدخلًا لاستعادة السوريين وحدتهم والخلاص من حالة التسلط التي أوجدتها الأسدية بين ظهرانيهم.

لقد كان حراك السوريين السلمي للخلاص من دولة الأسد الاستبدادية أشبه بالمغامرة المحكومة بالفشل، فمن جهة ترك المحتجون السلميون بلا غطاء وطني من بقية الجماعات الأهلية أو الطوائف التي إما وقفت على الحياد، وإما أصرت على التحالف مع السلطة وعصبتها الأهلية، ومن جهة أخرى فشلوا في تحييد مؤسسات الدولة الأسدية ( الجيش العقائدي، المخابرات) بسبب طابعها اللاوطني المرتبط بالذات الرئاسية، الأمر الذي اضطرهم للدفاع عن أنفسهم في وجه آلتها الجهمنية عبر اللجوء إلى حمل السلاح، الذي بدل أن يوحد المتضررين من نظام الأسد شتتهم، وجعلهم يضعون توجهاتهم الايدلوجية ذات البعد الديني محل توجهات الناس الديمقراطية.

لقد جوبهت سردية الثورة منذ نشوئها بنوعين من القراءات؛ واحدة عدمية تنفي حدوثها من الأصل وأخرى تشترط ربطها بالإنجاز، أما العدمية فقد ارتبطت بالسلطة الأسدية التي لم تر فيها سوى حالة من حالات الإرهاب الكلي والمؤامرة الكونية، أما تلك التي أصرت على ربطها بالانجاز فلم تقبل بثوريتها إلا إذا نجحت في إسقاط النظام ومن ثم مباشرة مهام التحول الديمقراطي. كل ذلك دون الالتفات لحقيقة أن الثورة تظل ثورة حتى لو فشلت في تحقيق كلا الاستحقاقين. فالأصل في الثورة ليس نجاحها أو فشلها، بل في خروج الناس للمطالبة بحقوقهم خارج مؤسسات النظام القائمة.

جوبهت سردية الثورة منذ نشوئها بنوعين من القراءات؛ واحدة عدمية تنفي حدوثها من الأصل وأخرى تشترط ربطها بالإنجاز

لقد أثبتت الثورة السورية أن ثمة مسافة ضوئية في تصور الجماعات الثورية المسلحة لها وبين تصور النخب التي تصدت لقيادتها. ففي حين لم تكن الثورة في ذهن الجماعات الدينية المسلحة، أكثر من إسقاط دولة الأسد وعصبيتها الأهلية والحلول محلها كعصبية جديدة، قوامها نوع من الحكومة الدينية ذات العدالة المتوهمة، التي لا تفعل شيئًا سوى نقل علاقات التبعية والخضوع والطاعة من السلطات الأسدية إلى سلطات إمارات الأمر الواقع. بدا تصور الثورة لدى بعض النخب الديمقراطية كعملية بسط كبيرة، عودة إلى أصل ما هو الكائن الفرد، الذي تحول في عهد السلطة الأسدية إلى مجرد فرد تابع مسلوب الإرادة والحرية، فكان لا بد من الارتقاء به إلى حالة الفرد المواطن، المتعين وفق مفهومي المساواة والحرية، فبدون مساواة لا توجد عملية ديمقراطية تضمن حقوق الجميع على نحو عادل، وبدون حرية لا وجود لصاحب الحق، الذي يستطيع تقرير مصيره بنفسه عن طريق مشاركته في مؤسسات الدولة، التي من واجبها إدارة شؤون الناس العامة على نحو عقلاني وصائب.

اقرأ/ي أيضًا: الثورة التي في الكتب.. الثورة التي في الواقع

إن فشل الثورة السورية في إسقاط النظام، كما فشلها في خلق نواة أي حكم ديمقراطي في المناطق التي تم تحريرها من سلطة الدولة الأسدية، يجب أن لا يحجب عنا الحقيقة البسيطة، التي خلقتها لناحية وعي الناس بحقيقة أنفسهم كأفراد أحرار في طور التحول إلى مواطنين، كما وعيهم لحقيقة مستقبلهم كأفراد في أمة سياسية لا يمكن أن توجد وتتشكل إلا في إطار دولة تقوم على مبدأي الحق والقانون. ومن هنا فإن الذكرى العاشرة للثورة السورية ليست وقفة لجلد الذات والتعريض بها، بل محطة للتأمل في أوجه العطب والقصور التي حال بينها وبين الخلاص من دولة الاستبداد، وصولًا إلى دولة المواطنين الأحرار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة مختلفة للثورة السورية في 3 كتب

بشار الأسد.. صورة الأب الكاريكاتورية