21-ديسمبر-2019

عزمي بشارة وكتابه في الثورة والقابلية للثورة (ألترا صوت)

في عالمنا العربي منذ نهاية سنة 2010 وبداية 2011، لا شيء يعلو فوق جدل ما يسمى الربيع العربي أو الربيع الديمقراطي، فالشعوب العربية خرجت إلى ساحات التغيير، كي تعبر عن أحلامها وتطلعاتها في أوطان، وتوفّر لأبنائها الحدّ الأدنى من الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. لكن هذه الثورات تم إجهاضها في معظم دول الربيع العربي ما عدا تونس، إمّا بثورة مضادة يقودها الجيش (حالة مصر)، أو بتدخل عسكري أجنبي (حالات سوريا وليبيا واليمن).

يوضّح المفكر عزمي بشارة أنّ الثورة ليست مسارًا خطّيًا له بداية ونهاية، بل هي عملية معقدة ومتتالية من الإخفاقات والإنجازات

كل هذا جعل من المواطن العربي متعطّشًا لفهم ديناميات "الربيع العربي". ويأتي كتاب المفكر العربي عزمي بشارة الموسوم بـ"الثورة والقابلية للثورة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ليوضّح لنا أنّ الثورة ليست مسارًا خطّيًا له بداية ونهاية، بل هي عملية معقدة ومتتالية من الإخفاقات والإنجازات، والتاريخ والمعرفة تخبرنا أننا لسنا أول من خاض هذه التجربة الثورية، وليس آخر من يخوضها. يجيب عزمي بشارة في هذه الدراسة على سؤال إشكالٍي مهم هو: هل هناك تنظير لمفهوم الثورة في الثقافة العربية والإسلامية؟ وما هي الأسس المحدّدة لنجاح الثورة في التجربة العربية؟  

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة وكتاب "في نفي المنفى": الحرية مبدأ

في هذا المقال سأحاول تلخيص ما جاء به عزمي بشارة في دراسته، والتفاعل معها بالاعتماد على مراجع أخرى في نفس الحقل، من أهمّها كتاب غوستاف لوبون "روح الثورات والثورة الفرنسية"، وكتاب "تشريح الثورة" للمؤرخ الأمريكي كرين برينتن، وكتاب آصف بيات المعنون "الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟". وعليه، ينقسم المقال إلى محوريين: مضامين الكتاب، ومن ثمّ التفاعل مع مضامين الكتاب.

مضامين الكتاب

يحاول الكاتب إيجاد تعريفًا للثورة، ويُصرّح بصعوبة الوصول لتعريف دقيق لها، لأنّ هذه المفردة شهدت العديد من الاستخدامات، فهي تُطلق على عدد كبير من الظواهر، مثل: التّحرك المسلح وغير المسلح ضد النظام، أو اسقاط النظام حتى إصلاحه، مما يجعل الوصول إلى تعريف جامع ودقيق صعب، فالثورة تتلوّن بالسياق الذي حدثت فيه. ووفقًا للكاتب، لم يتم استخدام كلمة "ثورة" لدى المؤرخين العرب في السابق (مثل: عماد الدين بن كثير، أبو الحسن المسعودي، وابن خلدون.. وغيرهم)، بل تمّ استخدام كلمات أخرى مثل: الفتنة والخروج (السيبة في حالة المغرب)، ويَعتبر الكاتب أن كلمة "خروج" هي الأقرب لمفهوم "الثورة" بالمعنى المعاصر، والخروج في الثقافة الإسلامية يكون لطلب الحق ودفع الظلم، لكنّ التراث العربي الإسلامي يستخدم فقط كلمة "التغلب" وينفي كلمة "الخروج"، وتَستعملُ السلطة السياسية كلمة "تغلب" لإضفاء الشرعية، لهذا فإن الفقهاء والمؤلفين (مؤلفو الآداب السلطانية) يرفضون الخروج على ولي الأمر، بحجّة عدم دفع الجماعة إلى الفوضى "الفتنة"، وبذلك يُكرّسون للسلطة الحاكم المستبد (1).

ينتقلُ بنا الكاتب إلى علاقة الثورة بالإصلاح، حيث يعتبرُ الثوّار أن الإصلاح في ظلِّ السلطة السياسية القائمة غير مُمكن، لذا فإنّ الثوار في الحالة الثورية يرفضون النظام القائم، ويطمحون إلى إقامة نظام سياسي جديد، أي دكّ بُنية وبناء بُنية جديدة (قانون نفي النفي عند ماركس)، أمّا الحالة الثورية فتنشط عندما يزداد عمق التناقضات القائمة في المجتمع بين من يملك وسائل الإنتاج (المضطهِد) ومن لا يملك وسائل الإنتاج (المضطهَد)، ويلعبُ الوعي دورًا أساسيًا في قيام الثورة، لأنّه الموجه لقيام الثورة، وهو الذي بين يديه مستقبل الثورة (2). ولكي تنجحُ الثورة لا بدّ من تضافر بعض الشروط الموضوعية والذاتية منها: محاولة الجماهير بواسطة الضغط الشعبي في الشارع شقّ صف الطبقة الحاكمة، والضغط المستمر في الشارع من أجل دخول النظام الحاكم مع الثوّار في مساومة تؤدي إلى الإصلاح، وأخيرًا إنشاء تنظيم أو حركة سياسية لقيادة الثورة والتفاوض مع النظام الحاكم (3).

وفي النهاية، يختمُ الكاتب أنّ الثورات لا تأتي بالديمقراطيات، بل ما ينتُج عن الثورة من إصلاحات هي التي تؤدي إلى الديمقراطية (4)، وحالة الثورة الفرنسية خير مثال، فبعد انتهاء الثورة مرّتْ فرنسا بعصر الإرهاب، وبعد ذلك حكم ديكتاتوري (حكم نابليون ومن بعده)، لكن ما كرّسَ للديمقراطية هي الثورة الديمقراطية سنة 1871م، وإقامة ما يُسمى "الجمهورية الثالثة". ويمكن القول إنّ الثورة دون إصلاح عميق في بنية النظام السياسي تُنتج لنا أنظمة استبدادية سلطوية أشدّ استبدادًا وشموليةً من النظام السابق، لذلك على الثوار تحصين الثورة بالوعي والفهم العميق لمسارات الثورة (5).

في التفاعل مع مضامين الكتاب

استطاع الكاتب أن يرسُمَ لنا صورةً بانورامية عن الثورة، من خلال تقديم العديد من المعطيات التاريخية الواقعية، بدءًا من الثورة الفرنسية ومرورًا بالثورات القومية والثورة البلشفية، إلى حدود ثورات الربيع العربي. وهو بهذا الكتاب حاولَ أن يؤسس لفهم جديد لثورات الربيع العربي، التي كانت تختلف كل الاختلاف عن الثورات الغربية، خصوصًا بتمييزه بين الثورات الغربية التي كانت في الغالب بقيادة أحزاب (ثورات حزبية)، والثورات العربية التي كانت ثورات شعبية لم يتم تأطيرها من طرف حزب أو جماعة معينة، بل مجموعة من البسطاء -الحركات اللاجتماعية حسب تعبير آصف بيات (6)- خرجوا إلى شارع لتنديد بالوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المُزري.

يسعى عزمي بشارة في كتابه "الثورة والقابلية للثورة"، أن يؤسّس لنظرية علمية غير أيديولوجية لثورات الربيع العربي

أيضًا يطرحُ الكاتب فكرة جوهرية حينما يتحدث عن مفهومين في الثقافة الفقهية الإسلامية وهي فكرة "الخروج والتغلب"، التي لا تزال تتحكم في بنية العقل العربي المسلم، لأنها شكّلت لقرون طويلة فهمه للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالتراث الإسلامي السني، حاول منذ العصور الاولى للإسلام أن يحافظ على سطوة الحاكم المتغلب، بفتاوى عدم الخروج على ولي الأمر وتكريس الهيمنة والاستبداد على كرسي الحكم لفائدة أسرة (الأمويين، العباسيين.. إلخ). ومعاوية يقول في هذا الصدد: "من اشتدت على الناس وطأته وجبت طاعته" (7)، وهذا الطرح البراغماتي للفقهاء، سوف يتواصل مع ابن حنبل وابن تيمية، والأمر سيصبح أكثر استبدادًا مع محمد بن عبد الوهاب.

اقرأ/ي أيضًا: في راهنية مشروع عزمي بشارة عربيًا

يقول غوستاف لوبون في سياق حديثه عن الثورة السياسية: "البديهة (البوذية) والإسلام والإصلاح الديني واليعقوبية والاشتراكية، وإن لاحت على شكل فكري ظاهر، هي بالحقيقة قائمة على عواطف وتدينات متماثلة، وتخضع لمنطق لا علاقة بينه وبين المنطق العقلي أبدًا"(8). ومنطق العقل هو الذي يحرك الثورة ويرسم مسارها، لا المنطق الإيديولوجي -سواء كان دينيًا أم سياسيًا- الذي يحوّلها إلى استبداد وحكم أقلية.

ماركس يؤكّد على أنّ "الفقر لا يصنع ثورة، ولكن الوعي بالفقر هو الذي يصنع الثورة" (9) الوعي أو العقل –بتعبير غوستاف لوبون- هو الذي يصنع ثورة إلى حدٍ ما ناجحة (10)، وحتّى عزمي بشارة يربط القابلية للثورة مع مسألة الوعي، لأن الثورات التي لم يكن لها خزّان فكري يؤطّرها للوصول إلى مطالبها الأساسية التي خرجت من أجلها، تفشل في الوصول إلى مرادها، أو تسقط في مطب الفوضى التي تنتهي في الكثير من الأحيان، بثورة مضادة على شكل حرب أهلية أو رجوع النظام السابق، وهذا ما حدث في معظم ثورات الربيع العربي.

عزمي بشارة: تفشل الثورات التي ليس لها خزّان فكري يؤطّرها للوصول إلى مطالبها الأساسية التي خرجت من أجلها

يحاول عزمي بشارة أن يستلهم من الثورة الفرنسية النموذج الذي يمكن لثورات الربيع العربي أن تستلهم منه عبرة التاريخ. لأنّ "الثورة الفرنسية كانت ثورة وطنية لا ثورة ديمقراطية فحسب"(11)، هذا ما يفسر خروج حشود من الفقراء -البسطاء- إلى الحيز العام، وتحويل ذلك الحراك الاجتماعي إلى ثورة، التي استطاعت الإطاحة بنظام سلطوي يشبه الأنظمة العربية في الفترة المعاصرة. كما أنّ وجود المثقف الثوري أو المثقف العضوي- بتعبير أنطونيو غرامشي- ساهم في جعل مسار الثورة يصل إلى النقطة الصحيحة رغم التعرجات (12).

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة مشخصًا حال الخيار الديمقراطي العربي

الثورات "لا تهدف كلها إلى تحقيق الديمقراطية، لكن الثورات العربية الراهنة رفعت جميعها شعار الديمقراطية والدولة المدنية" (13)، لكنّ تصدر بعض أحزاب الإسلام السياسي -الفكر الشمولي- للمشهد السياسي في بعض الدول التي نجحت فيها الثورة مثل تونس ومصر، عجّل في إجهاض أحلام الشباب الذين خرجوا في الربيع العربي للمطالبة بالديمقراطية، لأنّ هذه الأحزاب لم تحكم على أساس مبدأ المواطنة كمنظم للعلاقة بين الدولة وسكانها، بل على أساس طائفي وهوياتي ضيق، هذا ما أجهض حلم الدولة المدنية في الدول العربية، وأعطى الفرصة لفلول الأنظمة السابقة، بالقيام بالثورة المضادة للاستحواذ من جديد على نظام الحكم.

على سبيل الختم

يسعى عزمي بشارة في كتابه "الثورة والقابلية للثورة"، أن يؤسّس لنظرية علمية غير أيديولوجية لثورات الربيع العربي، وذلك باعتماده على منهج الاستدلال التاريخي والفلسفي والتحليل المقارن، واستعانته بالتراث الإسلامي للتأسيس لمفهوم الثورة، فقد استعاد مفهوم "الخروج" الذي يُعبّر إلى حدٍ ما عن الثورة، وعزمي بشارة في هذه الدراسة استطاع أن يقدم لنا مجموعة من الأدوات لفهم ثورات الربيع العربي الّتي لا تزال تُلهم الشعوب العربية، ولا زال الشباب العربي متشبثًا بالأمل، رغم الهزائم والانكسارات التي واجهت ثورات الربيع العربي.

 

هوامش:

1- عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، ط 1 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 12-25.

2- نفس المرجع، ص 62-63.

3- نفس المرجع، ص 66.

4- نفس المرجع، ص 83.

5- نفس المرجع، ص 89.

6- آصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة: أحمد زايد، ط 1 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014) ص 9-10.

7- عزمي بشارة، نفس المرجع، ص 23.

8- غوستاف لوبون، روح الثورات والثورة الفرنسية، ترجمة: عادل زعيتر، ط 1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص 28.

9- تُنسب هذه المقولة إلى لمفكر الألماني كارل ماركس (1818 - 1883م).

10- غوستاف لوبون، نفس المرجع، ص 28.

11- عزمي بشارة، نفس المرجع، ص9.

12- كرين برينتن، تشريح الثورة، ترجمة: سمير الجبلي، ط 1 (بيروت: دار الفارابي، 2009)، ص 150.

13- عزمي بشارة، نفس المرجع، ص86.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة.. في تفكيك داعش

عزمي بشارة.. في تشريح الإرهاب