17-سبتمبر-2019

لم تنجح أبدًا تجارب الـCIA للسيطرة على العقول، لكنها خلفت عشرات الضحايا (Matt Chase - الترا صوت)

قد تبدو فكرة السيطرة على العقول، أسطورة محضة، وأكثر ارتباطًا بأفلام الخيال العلمي من الواقع، وهي بطبيعة الحال من الأمور التي أخذت زخمًا كبيرًا بين مجموعات نظريات المؤامرة، ومن هنا، ساءت سمعة الفكرة لارتباطها بمن وصموا بالخضوع لنظريات المؤامرة.

حتى بداية الستينات، أدارت الـCIA قاعدة لتجارب السيطرة على العقول، وقع ضحاياه العشرات من ثلاث قارات: أمريكا وآسيا وأوروبا

لكن الواقع مختلف. صحيح أن نظريات المؤامرة تُهوّل الكثير، لكن السيطرة على العقول ليس محض خيال علمي، إنها الآن جزء من أبحاث علمية مختلفة الأهداف، وكانت قبل الآن جزءًا من تاريخ مغمور غير مروي للجيش الأمريكي والـCIA، كما يتضح في السطور التالية المترجمة بتصرف عن صحيفة "Politico" الأمريكية.

اقرأ/ي أيضًا: العلوم السلوكية في خدمة السياسات العامة


في عام 1954، عزل طبيب السجن في ولاية كنتاكي الأمريكية، سبعة سجناء سود، وأطعمهم جرعات ثنائية وثلاثية ورباعية من مادة  LSD لمدة 77 يومًا على التوالي.

لا أحد يعرف مصير الضحايا؛ ربما لقوا حتفهم دون أن يعرفوا أنهم كانوا جزءًا من برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) السري للغاية، لتطوير أساليب للسيطرة على العقول، وهو مشروع أقيم في قاعدة عسكرية غير معروفة ذات سمعة سيئة وماضٍ مشين، تسمى فورت ديتريك.

السيطرة على العقول
إحدى قطاعات قاعدة فورت ديتريك

 أحاط الزحف العمراني اليوم بقاعدة فورت ديتريك التي تقع على بعد 50 ميلًا من واشنطن في بلدة فريدريك بميرلاند.

قبل 76 عامًا عندما اختار الجيش القاعدة مقرًا لخططه السرية لتطوير أسلحته الجرثومية، كانت المنطقة المحيطة بالقاعدة مختلفة تمامًا. في الحقيقة اختيرت هذه القاعدة لنها معزولة.

وما زالت ديتريك حتى اليوم تمثل القاعدة الأساسية للجيش، للأبحاث البيولوجية، وتضم أكثر من 600 مبنى على مساحة 52 كليومتر مربع. وقد كانت لسنوات المقر الأساسي لأبحاث الـCIA في مجال الأسلحة الكيميائية والسيطرة على العقول. 

تضم ديتريك اليوم أكثر معامل العالم تطورًا في مجال أبحاث السموم ومضاداتها، أي المكان الذي تبتكر فيه علاجات الأوبئة، أبتداء من فطريات المحاصيل وصولًا إلى الإيبولا. ونالت اعترافًا عالميًا بريادتها في هذا المجال، لكن لعقود ظلت معظم نشاطات القاعدة سرية.

أتلف مدراء برنامج السيطرة على العقول الخاص بالـCIA المسمى "MK-ULTRA"، معظم السجلات الخاصة بالبرنامج عام 1973.

لكن بعض أسرار ظهرت للعلن من خلال الكشف عن الوثائق السرية والمقابلات الصحفية والتحقيقات البرلمانية. وتكشف هذه المصادر مجتمعة الدور المركزي الذي لعبته ديتريك في برنامج MK-ULTRA للسيطرة على العقول وفي برنامج تصنيع السموم المخصصة لاغتيال الزعماء الأجانب. 

أول مرة.. الحرب الجرثومية والأسلحة البيولوجية

عام 1942، وعقب ورود أنباء بشن اليابان حربًا جرثومية في الصين، قرر الجيش الأمريكي بدء برنامج سري لتطوير أسلحة بيولوجية، ووظف أستاذ الكيمياء البيولوجية في جامعة ويسكونسن، إرا بالدوين لإدارة البرنامج، وطُلب منه إيجاد موقع لمجمع جديد للأبحاث البيولوجية.

اختار بالدوين قاعدة شبه مهجورة تابعة للحرس الوطني أسفل جبل كاتوكتين، تسمى حقل ديتريك. وفي التاسع من آذار/مارس عام 1943 أعلن الجيش أنه أعاد تسمية معسكر ديتريك وخصصه لمعامل الجيش الخاصة بالحرب البيولوجية، واشترى عدة مزارع مجاور لتوفير مزيد من المساحة والخصوصية. 

بوضوح.. السيطرة على العقول

بعد الحرب العالمية الثانية، تلاشت أهمية ديتريك لأن الولايات المتحدة امتلكت الأسلحة النووية ولم يعد تطوير أسلحة بيولوجية أمرًا ملحًا. لكن بعد بداية الحرب الباردة، صدم حدثان منفصلان في مكانين مختلفين من العالم، وكالة الاستخبارات المركزية حديثة التأسيس:

الأول: كانت المحاكمة الصورية لرئيس أساقفة المجر الكاثوليك الرومان جوزيف ميندزينتي بتهمة الخيانة عام 1949.

في المحاكمة بدى الكاردينال مشوشًا، فقد تحدث بنبرة ثابتة، معترفًا بجرائم تشير الأدلة إلى أنه لم يرتكبها.

الثاني: بعد نهاية الحرب الكورية، تبين أن عددًا من السجناء الأميركيين وقّعوا بيانات تهاجم الولايات المتحدة، وفي بعض الحالات يعترفون بارتكاب جرائم حرب.

فسّرت الـCIA الحادثتين بسبب واحد: غسيل الدماغ. واستنتجت المخابرات الأمريكية أن الشيوعيين لابد وأنهم قد طوروا عقارًا أو تقنية ما تمكنهم من السيطرة على عقول البشر.

لم يظهر دليل على هذا أبدًا، لكن السي أي أيه وقعت في أسر أوهامها. وعلى إثر هذين الحدثين حصلت ديتريك على مهمة جديدة. 

في ربيع عام 1949، شكل الجيش فريقًا صغيرًا وسريًا للغاية من علماء الكيمياء في معسكر ديتريك سمي بقسم العمليات الخاصة. كانت مهمته إيجاد استخدامات عسكرية للبكتيريا السامة. كان الاستخدام العسكري للسموم مجالًا جديدًا، وكان على علماء الكيمياء في قسم العمليات الخاصة أن يقرروا كيف سيبدأون بحثهم.

الأسلحة البيولوجية
في البداية استخدمت ديتريك مقرًا لتطوير الأسلحة البيولوجية

وفي نفس الوقت كانت الـCIA قد أسست فريقها الخاص من علماء الكيمياء. وكان ضباط الـCIA في أوروبا وآسيا يلقون القبض باستمرار على أعداء محتملين، وأرادوا تطوير طرق جديدة تخلع عن السجناء هويتهم أثناء التحقيقات وتدفعهم لكشف الأسرار بل حتى برمجتهم لتنفيذ أفعال أخرى رغمًا عن إرادتهم.

آمن ألين دالاس، الذي أدار وحدة العمليات السرية والذي أصبح مديرًا لوكالة الاستخبارات فيما بعد، بالأهمية الفائقة لبرنامج السيطرة على العقول، والذي سمي ابتداء بـ"Blue Bird" (الطائر الأزرق) ثم "Artichoke" (فاكهة الخرشوف) وأخيرًا سمي بـMK-ULTRA. وآمن دالاس أيضًا أن هذا البرنامج يمثل الحد الفاصل بين نجاة الولايات المتحدة ودمارها. 

في عام 1951، وظف دالاس عالم كيمياء لتصميم البحث في برنامج السيطرة على العقول والإشراف عليه. الرجل الذي اختاره للمهمة هو سيدني غوتليب.

لم يكن غوتليب من الطبقة الأرستقراطية المرفهة التي عُين منها معظم ضباط الـCIA في فترتها الأولى، بل كان يهوديًا من أصول مهاجرة يبلغ من العمر 33 عامًا، وكان متلعثمًا ويعاني العرج، وكان مترهبنًا، عاش في كوخ ناءٍ دون مصدر للمياء الصالحة للاستخدام. وكان يستيقظ قبل بزوغ الشمس ليحلب عنزاته. 

أراد غوتليب استخدام إمكانات ديتريك ليصل بمشروعه للسيطرة على العقول إلى آفاق جديدة، وطلب من دالاس أن يصل إلى اتفاق ينظم العلاقة بين الجيش ووكالة الاستخبارات الأمريكية، في هذا المسعى.

ووفقًا لتقرير لاحق، حازت CIA وفقًا لترتيبات مشتركة، على معرفة الجيش ومهاراته ومنشآته لتطوير أسلحة بيولوجية تناسب الأغراض الخاصة بوكالة الاستخبارات. 

وباستغلال هذا الاتفاق، خلق غوتليب جيبًا مخفيًا للـCIA داخل معسكر ديتريك، وعمل علماء الكيمياء التابعين لوكالة الاستخبارات جنبًا إلى جنب مع زملائهم في وحدة العمليات الخاصة التابعة للجيش، حتى أصبحوا فريقًا واحدًا. 

ساورت بعض العلماء الذين كانوا خارج هذه الدائرة، شكوكًا تجاه ما يحدث، فسأل أحدهم بعدها بأعوام: "هل تعرفون ما يعنيه مصطلح عملية خاصة غير رسمية. كانت الـCIA تدير أحدها في معملي، حيث كانوا يختبرون العقارات الكيميائية النفسية ويجرون اختبارات في معملي دون إخباري؟!". 

بحث غوتليب دون هوادة عن طريقة لمحو عقل الإنسان، حتى يكون بالإمكان زراعة عقل آخر مكانه، مختبرًا عددًا مذهلًا من تركيبات العقاقير، إلى جانب أنواع مختلفة من أساليب التعذيب مثل الصعق الكهربائي والحرمان الحسّي

وكان ضحاياه في الولايات المتحدة من المساجين ونزلاء مراكز علاج الإدمان، أما في أوروبا وآسيا فكان ضحاياه من سجناء مراكز الاحتجاز السرية، أحد هذه المراكز هو قبو بيت في بلدة كرونبرغ في ألمانيا، ربما يكون السجن السري الأول للـCIA.

هناك، جلس علماء الـCIA مع زملاؤهم من النازيين السابقين قبالة المدفأة الحجرية، يتباحثون في أساليب السيطرة على العقول، والسجناء في زنازينهم في القبو يجري إعدادهم ليكونوا ضحايا تجارب وحشية، وقاتلة أحيانًا. 

أكثر التجارب الأمريكية وحشيةً

وتعد هذه التجارب ضمن هذا البرنامج للسيطرة على العقول، الأكثر وحشية من بين تجارب الولايات المتحدة على الكائنات البشرية، ففي إحدى هذه التجارب أُعطي لسبعة سجناء في ليكسنغتون بولاية كنتاكي، عدة جرعات من عقار LSD لمدة 77 يومًا متتالية.

وفي تجربة أخرى، حُقن الأسرى الكوريون الشماليون بعقارات مسببة للاكتئاب، ثم حقنوا بمحفزات قوية، وعرضوا لحرارة شديدة وصدمات كهربائية، وهم في أضعف حالاتهم أثناء الانتقال بين الحالتين.

وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية
أحد أشهر ضحايا تجارب السيطرة على العقول، ضابط في الـCIA

دمرت تجارب السيطرة على العقول، عددًا كبيرًا من العقول، وأدت لعدد غير معروف من القتلى، وصنعت الكثير من العقاقير والحبوب والبخاخات التي استخدمت على الضحايا في ديتريك.

أحد أشهر ضحايا تجارب برنامج MK-ULTRA هو فرانك أولسون. كان أولسون ضابطًا في الـCIA، قضى معظم مسيرته المهنية في ديترك، وعرف أعمق أسرارها، لكنه حين بدأ بالتفكير في الاستقالة من الـCIA، رأى زملاؤه في ذلك تهديدًا أمنيًا عليهم.

استدعى غوتليب الفريق، ورتب لحقن أولسون بعقار LSD. بعدها بأسبوع مات أولسون ساقطًا من نافذة فندق في نيويورك. وصفت الـCIA الحادثة بالانتحار، لكن عائلته تعتقد أنه أُلقيَ به من النافذة لمنعه من الإفصاح عما يعرفه عن معسكر ديتريك. 

الفشل

بعد عقود من التجارب المكثفة، توصل غوتليب إلى أن هناك بالفعل طرقًا لتدمير العقل البشري، لكنه لم يجد أبدًا طريقة لزرع عقل جديد في الفراغ الناشئ داخل الدماغ.

وفي بداية الستينات، انتهى برنامج زراعة العقول بالفشل الرهيب، واعترف غوتليب بعدها بأنّ "الخلاصة التي وصلت إليها كل هذه النشاطات هي أن التلاعب بالعقل البشري بهذه الطريقة صعب للغاية".  

مع ذلك، ظل فورت ديتريك (كما سميت القاعدة العسكرية في عام 1956) قاعدة لأبحاث غوتليب الكيميائية، فبعد نهاية برنامج MK-ULTRA، استخدم غوتليب القاعدة لتطوير ترسانة من السموم للـCIA وتخزينها.

واحتفظ في ثلاجاته بمركبات سامة تسبب أمراضًا مثل الجدري والسل والجمرة الخبيثة، بالإضافة إلى عدد من السموم العضوية مثل سم الثعبان وسم المحار المسبب للشلل. وطور سمومًا كان الغرض منها قتل الزعيم الكوبي فيدل كاسترو والزعيم الكونغولي باتريس لومومبا. 

خلال تلك الفترة، زادت شهرة فورت ديتريك إلى حد مزعج، فرغم أن أحدًا لم يعلم أن الـCIA كانت تصنع السموم هناك، لكن مكانة القاعدة باعتبارها المركز الرئيسي في البلاد لأبحاث الأسلحة البيولوجية والمضادة للمحاصيل، أصبحت معروفة للجميع.

وابتداءًا من منتصف عام 1959 حتى منتصف عام 1960، زحف المتظاهرون مرة كل أسبوع إلى بوابات القاعدة، وكتبوا في بياناتهم: "ليس هناك منطق دفاعي يبرر شرور أسلحة الدمار الشامل والأسلحة البيولوجية".

برنامج السيطرة على العقول الأمريكي
ما زالت ديتريك حتى اليوم تمثل القاعدة الأساسية للجيش، للأبحاث البيولوجية

في عام 1970، أمر الرئيس ريتشارد نيكسون كل الوكالات الحكومية بتدمير مخزونها من السموم البيولوجية، فانصاع علماء الجيش للأمر، لكن غوتليب تردد، فقد قضى سنوات في جمع هذه العقاقير ولم يرغب في تدميرها، ثم بعد لقائه مع مدير الـCIA ريتشارد هيلمز، لم يجد أمامه سبيلًا آخر سوى تدميرها. 

لكن شحنة من سم المحار القوي للغاية المسمى ساكسيتوكسن، نجت من التدمير، حيث كانت هناك حاويتان تحتويان على ما يقرب من 11 غرام من السم في مستودع غوتليب في فورت ديتريك، وهي كمية تكفي لقتل 55 ألف شخص. وقبل أن يزيلها فنيّو الجيش، قام ضابطان من وحدة العمليات الخاصة بوضعها في صندوق سيارة ونقلها إلى مكتب البحرية للطب والجراحة في واشنطن، حيث كان لدى وكالة الاستخبارات مستودع للمواد الكيميائية.

لاحقًا اعترف أحد مساعدي غوتليب بأنه أمر بهذه العملية دون علم رئيسه، وحين اكتُشف الساكسيتوكسين عام 1975، كان غوتليب قد تقاعد من منصبه. 

كان غوتليب أقوى رجل أميركي غير معروف في القرن الـ20، إلا لو كان هناك شخص آخر يجري تجارب وحشية في ثلاث قارات ومعه تصريح بالقتل من حكومة الولايات المتحدة.

كانت تجارب السيطرة على العقول الأكثر وحشية من بين تجارب الولايات المتحدة على البشر، وجرى بعضها بالتعاون مع علماء نازيين سابقين

وما زالت قاعدة ديتريك تحوي قصصًا غير مروية عن التجارب الوحشية التي أجريت هناك، على مسافة 50 ميلًا فقط من مقر الحكومة التي أبقتها سرًا لعقود. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

وكلاء أعمال الـ"CIA" القذرة.. لتوانيا ورومانيا أمام القضاء الأوروبي

الفن الحديث كان سلاحًا للمخابرات الأمريكية!

دلالات: