10-سبتمبر-2019

كيف يتصرف الناس في الحياة الواقعية، وكيف يتخذون القرارات؟ (Depositphotos)

تتناول هذه المقالة المترجمة عن "les échos" استخدام العلوم السلوكية لأهداف تصبّ في المصلحة السياسية العامة، وتشير إلى استخدامها في أغراض تصبّ في مصالح لأطراف معينة.


يتوجّه عدد متزايد من الجهات الادارية والسياسية إلى علوم الاجتماع وعلم النفس في محاولة لتحسين سلوك المواطنين، حيث يتم في فرنسا الاعتماد على نتائج الدراسات والأبحاث في تلك العلوم لتعديل سلوكيات معينة لدى المواطنين. يعتمد هذا التوجه كما سنقرأ لاحقًا على نسج تواصل مباشر مع المواطن في محاولة لإقناعه باتباع سلوك معين بدلًا من إصدار القوانين والأنظمة التي تشكل سلطة وتبني حاجزًا ما بين الدولة والمواطن.

في فرنسا، يدخل الباراسيتامول في 39.5%  من محاولات الانتحار لدى من تتراوح أعمارهم بين 8 و17 سنة

انطلقت فرنسا في تجاربها في هذا المجال من علاقة عقار الباراسيتامول بحالات الانتحار والتجربة المطبقة في المملكة المتحدة. حيث يعد الباراسيتامول أحد العقاقير الأكثر استخدامًا في حالات الانتحار. ففي فرنسا يدخل الباراسيتامول في 39.5%  من محاولات الانتحار لدى من تتراوح أعمارهم بين 8 و17 سنة.

وفي هذا الخصوص، أظهرت دراسة أجريت في المملكة المتحدة عام 2013 أن قرارًا بسيطًا سمح بإنقاذ حياة 765 شخصًا على مدى اثني عشر عامًا في إنجلترا وويلز: حيث حظرت حكومة لندن إعطاء المريض، في الصيدلية، أكثر من 32 قرصًا من الباراسيتامول دفعة واحدة، أكثر من 16 قرصًا في المراكز التجارية، مما يصعب الأمور على المنتحرين ويثني جزءًا منهم. تعلق كورالي شوفالييه مديرة قسم الدراسات المعرفية في كلية العلوم التربوية في باريس قائلة: "مع هذا المثال، نرى أن إجراء بسيطًا - بما أن البشر يفضلون تجنب بذل الكثير من الجهود - يمكنه أن يؤدي إلى قرارات أفضل في مجالات الصحة العامة".

اقرأ/ي أيضًا: كيفية علاج العدوانية عند الأطفال بطرق تربوية

تنتمي كورالي شيفالييه إلى جيل جديد من العلماء الذين يحاولون مساعدة المسؤولين السياسيين على اتخاذ قراراتهم بشكل أكثر فعالية لهذا يلجؤون إلى العلوم المعرفية لأن هذه التخصصات مثل اللغويات والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأعصاب وما إلى ذلك تدرس وظائفنا العقلية الرئيسية: التفكير واللغة والسلوك. تقول لورا ليتفين كبيرة المستشارين في فريق المعارف السلوكية في باريس وهو واحد من أولى الفرق المختصة بهذا المجال منذ عام 2010: "نحاول أن نفهم كيف يتصرف الناس في الحياة الواقعية، وكيف يتخذون القرارات كي نبني ركيزة تسمح للسياسات والخدمات العامة أن تكون أكثر فعالية".

فشل العقوبات والحوافز المالية في تشجيع سلوكيات معينة

انطلق هؤلاء العلماء من حقيقة بسيطة وهي أن السياسات الحكومية القديمة القائمة على القوانين والأنظمة، العقوبات والحوافز المالية لها حدود لم تستطع أن تتجاوزها. فقد أظهرت دراسة أجريت في نيوزيلندا أن تشجيع المواطنين على التبرع بالدم لقاء مقابل مادي يثبط بعض المتطوعين الذين يخشون أن يتهموا بأنهم يبيعون دمهم مقابل مبلغ مادي. أما في السويد، بفضل العلوم السلوكية، تبيّن أن لتملق المتبرعين نتائج ايجابية فهم يتلقون أول رسالة شكر عبر الـ SMS بعد أخذ العينة مباشرة من دمائهم، ويتلقون الثانية عند استخدام تلك العينة هذا ما يشجعهم على تجديد تبرعهم.

حاولت جهات التواصل الحكومي التقليدية اللعب على العقلانية المزعومة للجهات الاقتصادية الفاعلة أو للمستهلكين، في حين أن فعل الاستهلاك في أغلب الأحيان يكون وليدة ظروف لحظوية لا تحتمل التأني والتفكير. وهذا ما يؤكده صامولي ريجولا، المحاضر في الفلسفة النظرية في جامعة هلسنكي، حيث يشير إلى أن الإنسان ليس فاعلًا اقتصاديًا عقلانيًا، فسلوكنا يتأثر بالحالات الاضطرارية وبحالتنا النفسية كما يتأثر بالتقاليد والأعراف الاجتماعية التي نلتزم بها.

على سبيل المثال، يمكن للشركات التي تندد بسلوك ضار اجتماعيًا أن تجعل هذا السلوك نفسه "طبيعيًا" في مواقف أخرى، بل ينتهي بها الأمر إلى تشجيعه. وبخصوص هذا الأمر تقول كريستينا بيشيري مديرة مختبرات الأخلاقيات السلوكية بجامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة الأمريكية): "تقع حملات مكافحة الفساد غالبا في هذا الفخ". على سبيل المثال، أظهرت أبحاثها في مجال الفساد في نيجيريا أنه من الضروري التمييز بين الرشاوى المدفوعة لضباط الشرطة، السلوك غير المقبول اجتماعيًّا والذي يعاقب عليه القانون، وبين الرشاوى التي تدفع للمعلمين والأطباء والتي تعتبر طبيعية كون هيئات التدريس والتمريض تتلقى أجورًا زهيدة في هذا البلد. وتضيف كريستينا بيشيري: "إن هذا مفيدًا من ناحيتين، فمن ناحية أولى، نجد أنه من الضروري توبيخ الشرطة وتسهيل إدانة العناصر الفاسدة، ومن ناحية أخرى فإن ذلك يساعد في زيادة الرواتب في المدارس والمستشفيات".

تقليل وصفات المضادات الحيوية وحجم النفايات بتكاليف زهيدة

منذ عام 2010، حقّق الباحثون والاستشاريون الذين استخدموا العلوم الاجتماعية لتغيير سلوك المواطنين العديد من النجاحات بتكلفة منخفضة. يتمثل أحد أسهل وأقل الإجراءات تكلفة في إرسال رسالة بريد إلكتروني أو خطاب إلى الجهات الفاعلة الاقتصادية ذاكرة ما يفعله الآخرون بنفس المجال بهدف المقارنة. إذ يتلقى الأطباء الذين يصفون كميات كبيرة من المضادات الحيوية رسائل إلكترونية توضح لهم أن زملاءهم يصفون كميات أقل من هذه الأدوية ويقترحون عليهم علاجات بديلة.

وفي مثال آخر، قام الباحثان الفرنسيان ايزابيل دانجارد وسيباستيان مينيري، بين عامي 2015 و2016، بإرسال رسائل إلى 45 منزلًا في مدينة رين منبهة إلى حجم النفايات المنتجة من تلك المنازل مقارنة إياها بحجم نفايات المنازل الأخرى، ومذكرة بالأهداف البيئية للمنطقة وبالنصائح الواجب اتباعها لتقليل كمية النفايات.

يؤكد اوليفييه ديهاز نائب مدير مقاطعة رين المسؤول عن الطاقة والنفايات قائلًا: "تقلصت كمية نفايات المنازل التي تلقت تلك الرسائل بنسبة 8.2 % يجب أن نقترح على جميع سكان مقاطعة رين الاشتراك بهذا النوع من الرسائل".

واقتناعًا بهذه النتائج نشرت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي OCDE بالتعاون مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي تقارير تشجع هذا النهج الجديد بمساعدة 216 فريقًا في جميع أنحاء العالم.

تستخدم DITP (الإدارة المشتركة بين الوزارات لدعم التحولات العامة) وهي إحدى الوكالتين المكلفتين بتحسين عمل الإدارات الفرنسية ثلاثة موظفين في قسم "الأساليب المبتكرة العلوم السلوكية ومستخدمي الاستماع".

منذ عام 2010، حقّق الباحثون والاستشاريون الذين استخدموا العلوم الاجتماعية لتغيير سلوك المواطنين العديد من النجاحات بتكلفة منخفضة

تؤكد مريم الشامات مديرة مشروع العلوم السلوكية: "أن هذا النهج ليس حلًا معجزة: فهو يطبق حاليًا فقط على موضوعات محددة للغاية، ويجب أن يحترم منهجية صارمة للغاية والتي تنص على تقييم السياسات المقترحة".

اقرأ/ي أيضًا: الصحة العالمية تصنّف "إدمان الجنس" القهري ضمن الاضطرابات العقلية

يبقى أن نتساءل في النهاية عن الخيط الرفيع الذي يفصل ما بين استخدام العلوم السلوكية لأهداف تصب في المصلحة السياسية العامة، واستخدامها لأغراض تصب في مصالح لأطراف معينة وما هي الحدود الفاصلة بينهما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صناعة الإنسان المعاصر

المغرب يشهد تزايدًا مقلقًا في حالات الانتحار.. فما السبب؟