02-يناير-2021

شهد الملف الليبي تطورات عديدة خلال العام المنصرم (Getty)

شهد الملف الليبي في عام 2020، تطورات مفاجئة أعادت رسم خرائط السيطرة والنفوذ بين معسكري اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وحكومة الوفاق الوطني والمكونات العسكرية الموالية لها غرب ليبيا. وطوت هذه التطورات صفحة طموحات حفتر وداعميه بالسيطرة على العاصمة طرابلس، بعد انقلاب المشهد العسكري لصالح قوات حكومة الوفاق نتيجة عوامل عدة، ساهمت في إنهاء الحملة العسكرية على المدينة، وإبعاد شبح السقوط عنها. 

شهد الملف الليبي في عام 2020، تطورات مفاجئة أعادت رسم خرائط السيطرة والنفوذ بين معسكري اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وحكومة الوفاق الوطني

ويأتي تصاعد دور تركيا في الملف الليبي، وتدخلها عسكريًا لمساندة حكومة الوفاق في صد هجوم ميليشيات خليفة حفتر على العاصمة، في مقدمة هذه العوامل التي أرست واقعًا عسكريًا وسياسيًا جديدًا، أربك حسابات معسكر اللواء المتقاعد والدول الداعمة له، وأعاد التوازن لمعسكر حكومة الوفاق وحلفائها.

اقرأ/ي أيضًا: "النواب" المصري يصوت على التدخل بليبيا.. والإمارات تروج لـ"حتمية مواجهة" أنقرة

التدخل التركي في ليبيا.. أسبابه وأهدافه

عشية إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر حملته العسكرية للسيطرة على طرابلس، في 4 نيسان/أبريل 2019، وجدت حكومة الوفاق نفسها في مواجهة تحديات تهدد وجودها، وتطورات متسارعة فرضت عليها اتخاذ وضعية الدفاع التي بدت مكلفةً على الصعيد البشري والمادي، خصوصًا في ظل افتقار قواتها إلى التسليح والغطاء الجوي الذي استفادت منه الميليشيات المهاجمة، والتي تحظى بدعم وتسليح سخي من حلفائها الإقليميين: الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية، والدوليين: روسيا وفرنسا.

غياب الدعم الإقليمي والدولي عن حكومة الوفاق، بالإضافة إلى الإمكانيات المحدودة لقواتها، وافتقارها إلى الغطاء الجوي، وضعها تحت ضغط ميداني على أكثر من جبهة، مما دفع رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، إلى البحث عن دعم إقليمي يمكّن حكومته من استعادة توازنها على الأرض، وصد هجمات قوات حفتر على العاصمة. وفي ظل المواقف الضبابية للولايات المتحدة الأمريكية، وغياب موقف أوروبي حازم وموحد بشأن الأزمة الليبية، ودعم موسكو وباريس لقوات حفتر؛ توجه السراج في الأيام الأولى للحملة، إلى تركيا للقاء رئيسها رجب طيب أردوغان الذي أبدى استعداد بلاده لمساعدة قوات الحكومة المعترف بها دوليًا في صد الحملة العسكرية على العاصمة.

تلت زيارة فايز السراج إلى تركيا، إرسال الأخيرة عربات عسكرية مدرعة إلى حكومة الوفاق، بالإضافة إلى إمدادها بالأسلحة والذخائر، وفقًا لما أعلنه أردوغان في 19 حزيران/ يونيو 2019، حينما صرح بأن بلاده توفر أسلحة لحكومة الوفاق بموجب اتفاق تعاون عسكري لم يُحدد طبيعته وتفاصيله. وسيأخذ الدعم التركي طابعًا رسميًا وشرعيًا بعد توقيع أردوغان والسراج، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، مذكرة تفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر المتوسط، بالإضافة إلى التعاون في المجال العسكري والأمني.

وتعتبر المذكرة بمثابة الأرضية الشرعية للتدخل التركي المباشر في ليبيا، والذي جاء بعد أن تقدمت حكومة الوفاق، انطلاقًا من المذكرة نفسها، بطلب رسمي للحصول على دعم عسكري تركي جوي وبحري وبري، يمكّنها من صد الحملة العسكرية التي أطلقها حفتر على المنطقة الغربية، ليأتي الرد التركي سريعًا على لسان رجب طيب أردوغان، الذي أعلن أن بلاده سترسل قوات عسكرية إلى ليبيا بناء على طلب حكومتها الشرعية المعترف بها دوليًا، بعد موافقة البرلمان التركي الذي صدّق على المذكرة التي عرضتها الرئاسة التركية عليه في 2 كانون الثاني/ يناير 2020.

وبحسب ما أعلنته الرئاسة التركية، فإن الهدف من التدخل العسكري المباشر لصالح حكومة الوفاق، هو حماية المصالح التركية في النفط والغاز شرق المتوسط، والمساهمة في إنشاء حالة توازن تمكّن الحكومة الشرعية من تحسين أوضاعها، قبل مؤتمر برلين الذي عُقد في كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، وكان محوره الأزمة الليبية والمعارك الدائرة على أعتاب العاصمة طرابلس بين طرفي الصراع.

مؤتمر برلين.. مراكمة الحلول الخارجية للأزمة

على وقع المعارك الدائرة على أطراف العاصمة الليبية طرابلس، ودخول تركيا كطرفٍ إقليمي جديد في ملف الأزمة الليبية، من بوابة دعم حكومة الوفاق، دعت ألمانيا إلى عقد مؤتمر دولي لجمع أطراف الصراع المحلية والإقليمية، بهدف التوصل إلى حل دائم للأزمة القائمة منذ أكثر من ست سنوات. وأعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نهاية المؤتمر الذي عقد في العاصمة الألمانية برلين في 19 كانون الثاني/ يناير 2020، أن طرفي النزاع والداعمين لهما اتفقوا على ضرورة حظر السلاح، والعمل على تعزيزه كخطوة أولى من خطوات العمل على تثبيت وقفٍ دائم لإطلاق النار.

وضمت مسودة الاتفاق الذي توصل إليه المشاركون في المؤتمر، 6 بنود تشترط إصلاحات في مجالات الاقتصاد والسياسية والأمن، وتشدد على ضرورة وقف إطلاق النار وتطبيق حظر توريد السلاح إلى الأطراف المتصارعة، وتشكيل لجنة عسكرية من طرفي النزاع للإشراف على تطبيق وقف القتال، والبدء بمشاورات محلية برعاية أممية لتوحيد المؤسسة العسكرية، وتفكيك المجموعات المسلحة ودمجها ضمن مؤسسات عسكرية رسمية، بالإضافة إلى تشكيل لجنة مؤلفة من أربعين عضوًا، 14 لكل من مجلس الدولة والنواب، والبقية توزع على قوى وأطياف سياسية أخرى فاعلة في المشهد الليبي، على أن تكون مهمتها البدء بحوارٍ سياسي من أجل تشكيل مجلس رئاسي جديد، وحكومة وحدة وطنية.

وبحسب ما أشارت إليه المعطيات، لم يقدم "مؤتمر برلين" جديدًا يُذكر بشأن الأزمة الليبية، لكونه ووفقًا لمخرجاته، جمد المسار السياسي من خلال حصره بين الأطراف الليبية، في تكرار لنماذج سابقة انتهت بعدم الوصول إلى تفاهمات مرضية بشأن تشكيل حكومة جديدة، وهو ما أكدته الشهور التي تلت المؤتمر الذي أغفلت مخرجاته عددًا من المسائل المؤثرة في ملف الأزمة، منها مطالب حكومة الوفاق انسحاب ميليشيات خليفة حفتر من مدينة سرت (450 كلمة شرق العاصمة)، وعدم التطرق إلى مسألة وجود آلاف المرتزقة الذي يقاتلون في صفوف الأخير، بالإضافة إلى الاتفاق التركي – الليبي الذي رسم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لكلا الطرفين في البحر الأبيض المتوسط.

الاتفاقية التركية – الليبية.. نقل الملف الليبي إلى ميدان معركة غاز شرق المتوسط

أضافت مذكرة التفاهم الموقعة بين الحكومتين التركية والليبية، محورًا جديدًا للصراع الدائر في البلاد، وطرفًا إقليميًا آخر، مثلته أنقرة التي أدركت أن حكومة الوفاق الوطني الليبي ستكون بوابتها القانونية والشرعية إلى منطقة شرق المتوسط، وهي المنطقة التي تحاول مصر واليونان وقبرص اليونانية وإسرائيل، الانفراد بثرواتها عبر إقصاء تركيا من المشهد، من خلال إبرام مجموعة من الاتفاقيات، حصرت نفوذ تركيا البحري في منطقة لا تتجاوز 41 ألف كلم مربع.

وحتى وقتٍ قريب، بدت أنقرة عاجزةً عن مواجهة التحالف المُبرم ضدها بين هذه الدول المنضوية ضمن ما يعرف بـ "منتدى غاز شرق المتوسط"، قبل أن تعلن عن الاتفاقية التي توصل إليها أردوغان والسراج في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت. وبحسب صحيفة "يني شفق" التركية، أسست هذه الاتفاقية للعبة جديدة في شرق المتوسط، تقطع الطريق على أي محاولات لخنق تركيا، وحرمانها من ثروات الغاز والنفط.

يرتبط دعم تركيا لحكومة الوفاق إذًا بملف شرق المتوسط، وهو الملف الأكثر أهمية بالنسبة إليها، عدا عن أنه الأكثر تأثيرًا على أمنها القومي، ومساعيها بالتحول إلى قوة إقليمية في المنطقة. فالاتفاقية تقطع الطريق بشكلٍ قانوني على محاولات إقصاء تركيا من معادلة الطاقة شرق المتوسط، وهي بذلك توفر لها ما تحتاجه من إمدادات الطاقة التي تفتقر إليها، إذ تستورد 80% من احتياجاتها من الطاقة من روسيا (60%)، وإيران (20%)، مما يعني أن بقاءها تحت رحمة هذا الثنائي، سيعيق مساعيها في الوصول إلى ما تصبو إليه.

ولكن، باكتشاف ثروات مياه شرق المتوسط، باتت تركيا قادرة مستقبليًا على تغيير المعادلة، لاسيما وأن الاتفاقية الموقعة مع حكومة الوفاق، ستمنحها القدرة على الاستقلال فيما يتعلق بالطاقة، وهو ما يفسر تدخلها العسكري في ليبيا، ودعمها غير المحدود لحكومة الوفاق، باعتبار أن بقاء الأخيرة طرفًا فاعلًا في المشهد الليبي، يعني بقاء أنقرة فاعلًا رئيسيًا في معادلة الطاقة في منطقة شرق المتوسط، وهي المنطقة التي ستمهد طريقها لتكون قوة إقليمية فاعلة في المستقبل القريب.

معركة "عاصفة السلام".. أولى ثمار التدخل التركي في الملف الليبي

واصلت ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر خلال الفترة الممتدة بين كانون الثاني/ يناير، وآذار/ مارس 2020، تصعيدها العسكري على العاصمة طرابلس، متجاهلةً مخرجات "مؤتمر برلين" التي شددت على وقف إطلاق النار، في محاولة جديدة وأخيرة للسيطرة على المدينة، بهدف حسم الصراع لمصلحتها بالقوة العسكرية.

خلال تلك الفترة، عملت تركيا على رأب خطوط التصدع داخل قوات حكومة الوفاق الوطني، وإنهاء الخلافات القائمة فيما بينها، استعدادًا للمعركة التي أعدت لها، وانطلقت تحت إشرافها ودعمها في 25 آذار/ مارس 2020، تحت مسمى "عاصفة السلام". وتمكنت قوات الوفاق خلال المعركة، وبغطاءٍ جوي وفرته الطائرات المسيرة التركية، من بسط سيطرتها على مدن: صرمان، وصبراتة، والعجيلات، ورقدالين، وزلطن، الواقعة على امتداد الشريط الساحلي غرب العاصمة، بالإضافة إلى قاعدة الوطية العسكرية، ومدينة ترهونة جنوب العاصمة.

واستطاعت قوات حكومة الوفاق الوطني عبر هذه المعركة، إنهاء طموحات حفتر وداعميه بإمكانية حسم الصراع لمصلحته، والسيطرة على العاصمة طرابلس التي باتت هدفًا صعب المنال. وأثبتت "عاصفة السلام" فشل رهان بعض الدول، لا سيما روسيا وفرنسا، على حفتر الذي جرى التعامل معه من قبلها باعتباره الرجل القوي في المشهد الليبي.

وباستعادتها السيطرة على مدن الساحل الغربي، وقاعدة الوطية، بالإضافة إلى مدينة ترهونة، تكون حكومة الوفاق الوطني قد أعادت المشهد في المنطقة الغربية، إلى ما كان عليه قبل بدء حفتر لعمليته العسكرية ضدها مطلع نيسان/ أبريل من العام الفائت، وذلك بدعم تركي غير محدود، أعاد تشكيل خريطة الصراع من جهة، وفرض حكومة الوفاق والمكونات الموالية باعتبارها طرفًا فاعلًا لا يمكن تجاهله أو إقصائه في المشهد الليبي، من جهةٍ أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: توسع دور المرتزقة الروس في ليبيا.. هل يقتصر حظر الأسلحة الأوروبي على تركيا؟

مسارات الحل السياسي

تعيش مسارات الحل السياسي والتفاوض بين طرفي النزاع حالة تعثر مستمرة، على وقع ارتفاع حدة التوترات العسكرية، والتحشيد المتواصل على جبهات سرت والجفرة. وتؤكد المعطيات الميدانية والسياسية أن الحوار السياسي الذي تُعقد عليه الآمال لإنهاء الأزمة، لا يزال يراوح مكانه دون نتائج تذكر، بعد فشله في التوصل إلى توافقات حول مقترحات أممية لحلول سلمية بشأن الأزمة.

تعيش مسارات الحل السياسي والتفاوض بين طرفي النزاع الليبي حالة تعثر مستمرة، على وقع ارتفاع حدة التوترات العسكرية، والتحشيد المتواصل على جبهات سرت والجفرة

ويأتي هذا الفشل في الوقت الذي أعلن فيه نيكولاي ملادينوف، المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، انسحابه من المهمة الموكلة إليه، الأمر الذي انعكس سلبًا على المسارات السياسية المتعثرة أساسًا، وسط توقعات بتصاعد الخلافات بين أطراف الأزمة، محليين وإقليميين ودوليين، خلال العام المقبل في حال واصلت العملية السياسية جمودها.