21-أغسطس-2020

من عمليات تنقيب الغاز في شرق المتوسط (Getty)

لا تبدو المعطيات الميدانية والسياسية في منطقة شرق المتوسّط مُطمئنة، نظرًا لتعدّد الأطراف المُتصارعة حول حدودها البرية، وهي دول تجمعها أساسًا خلافات مُتعدّدة حول قضايا وملفّات مُتشعِّبة، منها الخلافات القائمة بين تركيا واليونان حول حدود الجرف القاري والجوي بينهما فوق بحر إيجة وشرق المتوسّط، ناهيك عن نزاعاتهما حول ملكية جزيرة كارداك والقضية القبرصية أيضًا، بالإضافة إلى الخلافات التركية المصرية بشأن الأزمة الليبية، إذ تدعم القاهرة ميليشيات اللواء المتقاعد خلفية حفتر المتمركزة شرق ليبيا، في الوقت الذي تُقدِّم فيه أنقرة دعمًا لحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا برئاسة فايز السرّاج، والتي اتّخذت من العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية مقرًّا لها.

لا تبدو المعطيات الميدانية والسياسية في منطقة شرق المتوسّط مُطمئنة، نظرًا لتعدّد الأطراف المُتصارعة حول حدودها البرية، وهي دول تجمعها أساسًا خلافات مُتعدّدة حول قضايا وملفّات مُتشعِّبة

منتدى غاز شرق المتوسط: شرارة الصراع الأولى

الخلافات والتجاذبات السياسية القائمة بين دول حوض المتوسّط تجعل من عملية الوصول إلى تفاهمات مُرضية حول ثرواته الطبيعية أمرًا صعبًا، خصوصًا وأنّ الخلافات ذاتها وظِّفت في خدمة هذا الصراع الذي بدأ رسميًا في الـ 14 من كانون الثاني/يناير 2019، عندما أعلنت مصر واليونان وقبرص اليونانية ودولة الاحتلال الإسرائيليّ والأردن وإيطاليا بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية، تأسيس ما يُعرف بـ "منتدى غاز شرق المتوسّط"، الذي أثار مخاوف الدول التي لا يضمّها رغم إطلالتها على المتوسّط، مثل لبنان وسوريا وتركيا التي رأت هذه الخطوة تهديدًا لأمنها القوميّ ومصالحها الاقتصادية، ومُحاولة قائمة على دوافع سياسية لإخراجها من معادلة الطاقة في منطقة شرق المتوسّط من خلال حصرها في سواحلها دون أخذ مصالحها ومصالح القبارصة الشماليين وحقوقهم في ما يختزنه باطن شرق المتوسّط (107 مليارات برميل من النفط الخام، و122 تريليون متر مكعّب من الغاز وفقًا لتقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية المعلنة سنة 2010) بعين الاعتبار.

اقرأ/ي أيضًا: مصر تفاوض مجلس طبرق لتوقيع اتفاقية بحرية في المتوسط.. ما علاقة تركيا؟

اتّفاق أردوغان – السرّاج.. تركيا تُربك حسابات الدول المتكتّلة ضدّها

تعهّدت أنقرة عقب الإعلان عن "منتدى غاز شرق المتوسّط" بإفشال أي مبادرة لا تكون جزءًا منها، وبدأت منذ ذلك الحين تحرّكاتها لمواجهة هذا التكتّل الاقتصاديّ – السياسيّ في آنٍ واحد من خلال توقيع الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطنيّ الليبيّة اتّفاقية بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر المتوسّط، قضت بتحديد المجالات البحرية فيه بشكلٍ مُنصف وعادل بناءً على ما تنصّ عليه القوانين الدولية، بالإضافة إلى ضبط حدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة.

الاتّفاقية التي وقّعها الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان ورئيس المجلس الرئاسيّ لحكومة الوفاق الوطني فايز السرّاج في الـ 27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، تمكّنت من كسر الشريط الذي رسمتهُ اليونان وقبرص ودولة الاحتلال الإسرائيليّ في البحر المتوسّط بهدف مواجهة تركيا وحصر نفوذها البحريّ في منطقة لا تتجاوز 41 ألف كلم مربّع، ووفّرت لها أرضية قانونية لصراعها مع دول الحوض، لا سيما اليونان التي وضعت الاتّفاقية حواجز أمنية واقتصادية وبحرية تعيق قدرتها على التحرّك خارج حدودها البحرية، خصوصًا بالقرب من الجزء اليونانيّ من قبرص التي امتلكت تركيا بفعل تحرّكاتها هذه قدرة مضاعفة على التفاوض بشأن أزمته.

الاتّفاقية المصرية – اليونانية في مواجهة الاتّفاقية التركية – الليبية

أربكت اتّفاقية أردوغان – السرّاج حسابات دول "منتدى غاز شرق المتوسّط"، خصوصًا اليونان ومصر، الأمر الذي استدعى ردًّا من قبلها على الاتّفاقية التي قطعت البحر المتوسّط من الشمال إلى الجنوب، تمثّل مؤخّرًا في توقيع القاهرة وأثينا في 6 آب/أغسطس الجاري اتّفاقية تقضي بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة لكلٍّ منهما في البحر الأبيض المتوسّط، وذلك في محاولة لإفراغ التفاهمات التركية – الليبية بشأن حدودهما البحرية من مضمونها، وإعادة حصر تركيا في مساحة ضيّقة لا تتناسب مع مساحة سواحلها التي تُعدّ الأطول مقارنةً ببقية الدول المتحالفة ضدّها.

جاء رد أنقرة على الاتّفاقية المصرية – اليونانية سريعًا على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو الذي رأى أنّها اتّفاقية باطلة ولاغية لأنّها رسّمت مناطق واقعة في نطاق الجرف القاريّ التركيّ. وأكّد أوغلوا أنّ بلاده لن تسمح بأي أنشطةٍ في هذه المناطق التي شهدت خلال الأيام القليلة الماضية تحشيدًا عسكريًا نتيجة التصعيد المُتبادل بين الدول المتنازعة، خصوصًا بعد اتّفاقية أثينا والقاهرة، والتدريبات العسكرية الفرنسية – اليونانية قبالة جزيرة كريت الجنوبية، الأمر الذي يدلّ، وفقًا للمعطيات الميدانية والسياسية، إلى تدويل أزمة شرق المتوسّط.

من الناحية الاقتصادية، يبدو من غير الصائب التعويل على هذه الاتّفاقيات بهدف تحقيق نجاحات اقتصادية قائمة عليها أو ناتجة عنها لاعتبارات مختلفة، منها التوتّر الحاصل بين الدول المتصارعة والتصعيد المتواصل بينها، ممّا يجعل من منطقة شرق المتوسّط فاقدة للاستقرار الذي يشكّل عاملًا جاذبًا للاستثمار.

المواقف الإقليمية والدولية من الأزمة المُتصاعدة

تبدو الولايات المتّحدة الأمريكية لاعبًا حاضرًا وغائبًا في الوقت نفسه حيال أزمة منطقة شرق المتوسّط، والصراعات القائمة فيها أيضًا بين دول تجمعها بها علاقات صداقة وتحالفات وتفاهمات مُشتركة إزاء ملفّات مُختلفة في المنطقة، ولكنّ هذا لا يجعل من موقفها حياديًّا وإنّما مُنحازًا إلى دول "منتدى غاز شرق المتوسّط"، إذ ترى في تعاونها حول الغاز الطبيعيّ وإقامتها مشاريع مُشتركة بشأنه مُساهمة من شأنها دمج دولة الاحتلال الإسرائيليّ في المنطقة من خلال اتّفاقيات الغاز، بالإضافة إلى اعتبارها خطوة قادرة على الحدّ من الهيمنة الروسية في سوق الغاز من جهة، وإفشال التعاون التركيّ – الروسيّ بهذا الخصوص، لا سيما بعد افتتاح خطّ السيل التركيّ "تركش ستريم" الناقل للغاز الطبيعيّ الروسيّ عبر أنابيب تمرّ من البحر الأسود والأراضي التركية إلى تركيا ودول جنوب وشرق أوروبّا.

أكّدت هذه المعطيات أنّ "منتدى غاز شرق المتوسّط" الذي يسعى أعضاؤه إلى تحويله لمنتدى دوليّ قد جرى تشكيله بمباركة أمريكية، لا سيما بعد مشاركة وزير الطاقة الأمريكيّ في الاجتماع الثاني للمنتدى الذي عُقِد في تمّوز/يوليو 2019 بصفته ضيف شرف مميّز، بالإضافة إلى مدير عام الطاقة في الاتّحاد الأوروبّي وممثّل البنك الدوليّ وممثّل فرنسا المُنحازة علنًا إلى الدول المتكتّلة ضدّ تركيا، وهو ما أشار إلى إعطاء الولايات المتّحدة الضوء الأخضر لكلٍّ من مصر واليونان بشأن اتفاقيتهما بعد ضغوط يونانية مارسته مجموعات تابعة لها في دوائر الخارجية الأمريكية.

وتُدرك دول المنتدى أنّ عملية تدويله لا تزال هدفًا صعبًا في ظلّ تهديدات ومواقف تركيا التي رأت قيادتها أنّ للعملية أهدافًا باطنية مُختلفة عن أهدافها المُعلنة، وأنّها مُبادرة لن يكتب لها النجاح طالما أنّها تستثني أنقرة والقبارصة الأتراك أيضًا، والنتيجة أنّ ما جرى تدويله هو الأزمة القائمة بين الدول المتنازعة بدلًا من المنتدى، ممّا يعني أن الصراع الآن بات بين الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ وروسيا وتركيا، خصوصًا وأنّ دول المنتدى لا تملك القدرة الكافية على مزاحمة تركيا وروسيا في سوق تصدير الغاز إلى القارّة الأوروبية دون دعمٍ أمريكيّ.

المواجهة العسكرية مُستبعدة

الموقف الضبابيّ للولايات المتّحدة الأمريكية حيال الاتّفاقات المُبرمة بين تركيا وليبيا من جهة، ومصر واليونان من جهةٍ أخرى، يُقابلهُ موقف فرنسيّ واضح يرفض الأولى ويؤيّد الثانية لاعتبارات مُختلفة منها الأزمة الليبية المُنخرطة فيها فرنسا من خلال دعمها لخليفة حفتر وميليشياته في مواجهة حكومة الوفاق التي تدعمها تركيا. وأفرز هذا الموقف سلسلة مواقف أخرى تتراوح بين التصعيد والتهدئة عقب الاحتكاكات التركية – اليونانية الأخيرة على خلفية اتّفاق أثينا والقاهرة حول ترسيم الحدود من جهة، وعمليات التنقيب التركية في المناطق المتنازع عليها من جهةٍ أخرى، إذ أجرت فرنسا واليونان تدريبات عسكرية قبالة جزيرة كريت الجنوبية في إطار سعيها لتعزيز وجودها العسكريّ مؤقّتًا في منطقة شرق المتوسّط.

ولكنّها في المقابل تدفعه باتّجاه التهدئة التي دعت إليها أيضًا ألمانيا الراغبة في وقف التصعيد مع تركيا، ممّا يجعل من احتمالية المواجهة العسكرية بين اليونان وقبرص ضدّ تركيا أمرًا مُستبعدًا، لا سيما في ظلّ الدعوات المتكرّرة لإجراء حوار بين دول منطقة شرق المتوسّط تنهي النزاع بينها، ومنها دعوة الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان إلى اجتماع تحضره كافة دول البحر المتوسّط بهدف إيحاد صيغة يقبلها الجميع بخصوص موارده، مُعربًا عن استعداده لحلّ النزاعات القائمة من خلال حوار مُنصف، وعن رفضه لإقصاء تركيا عن موارد المنطقة وحصرها في سواحلها.

اقرأ/ي أيضًا: الغارات المصرية على ليبيا.. بعيدًا عن داعش وفي خدمة حفتر

الأزمة الليبية في ميدان معركة غاز شرق المتوسّط

ليست الأزمة الليبيّة ببعيدة عن تداعيات معارك الغاز في شرق المتوسّط نظرًا لأنّ الدول المُختلفة حول الحدود البحرية في المنطقة مُنخرطة في هذه الأزمة من خلال دعمها للأطراف المتنازعة المنقسمة بين معسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يحظى بدعم مصريّ إماراتيّ سعوديّ روسيّ وفرنسيّ مُباشر، وتأييد يونانيّ إسرائيليّ بغرض النكاية والكيد السياسيّ؛ ومعسكر حكومة الوفاق الوطنيّ المدعوم من تركيا التي تتقارب وجهات النظر بينها وبين الولايات المتّحدة بشأن الملفّ الليبيّ، وهو ما يجعل منه بطبيعة الحال ملفًّا معقّدًا نظرًا لطبيعة التحالفات وتناقضاتها الداخلية في ظلّ الموقف الأمريكيّ الداعم لدول (منتدى غاز شرق المتوسّط) بشأن أزمتها مع تركيا التي تربطها بها تفاهمات وتقارب كبير في وجهات النظر بشأن الأزمة الليبيّة، إذ أعلنت الرئاسة التركية في بيان لها منتصف تمّوز/يوليو الفائت أنّ الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان توافق مع نظيره الأمريكيّ دونالد ترامب خلال محادثة هاتفية على العمل و"التعاون بشكل أوثق كحليفين من أجل إرساء استقرار دائم في ليبيا".

ليست الأزمة الليبيّة ببعيدة عن تداعيات معارك الغاز في شرق المتوسّط نظرًا لأنّ الدول المُختلفة حول الحدود البحرية في المنطقة مُنخرطة في هذه الأزمة 

تدرك القيادة التركية أنّ ليبيا باتت نافذتها الوحيدة على المتوسّط في ظلّ التكتّلات المشكّلة ضدّها، الأمر الذي يفسّر طبيعة دعمها لحكومة الوفاق الوطنيّ التي أبرمت معها اتّفاقية ترسيم الحدود البحرية التي منحت أنقرة أرضية قانونية لصراعها في المتوسّط، إضافةً إلى أنّها باتت ورقة ضغط في يدها ضدّ الدول المُتحالفة ضدّها، لا سيما في ظلّ انهيار مشروع حفتر وطرده من محيط العاصمة طرابلس واستعادة السيطرة على مدن استراتيجية عديدة مما قلب الموازين لصالح حكومة الوفاق التي حقّقت ما حقّقته بغطاء جويّ تركيّ، الأمر الذي جعل من الدول الداعمة لمعسكر حفتر في حالة ضعف قد تصل إلى انحسار كامل لدورها في الملفّ الليبيّ بفعل العلاقة التركية – الأمريكية المتقاربة في هذا الملفّ، والتفاهمات التركية – الروسية حياله أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 تصعيد متواصل في ليبيا.. ما السيناريوهات المحتملة أمام الأزمة؟