19-أبريل-2019

من الفيلم (IMDB)

لطالما كانت ثيمة العيش في الغرب الأمريكي ملهمة للعديد من المخرجين الأمريكيين وغيرهم، ممن استلهموا من قسوة تلك الحياة وشروط العيش في الصحاري الكثير من الأفلام التي تعتبر محطات هامة في تاريخ السينما الأمريكية. ولكن اليوم نحن أمام محاولة فهم جديد لطبيعة تلك المنطقة يضعنا بمواجهتها الأخوين المخرجين إيتان وجول كوين، في فيلمهما الأخير "The ballad of buster scruggs" المعروض على شبكة نتفليكس.

يبدو فيلم "The Ballad of Buster Scruggs" كأنه كتاب حكايات يفتح أمامنا لنستكشف ما تتضمن قصصه القصيرة من تجليات عوالم الغرب وأساطيره

كان من المفترض أن تنتجها الشبكة على شكل حلقات قصيرة، إلاّ أن تلك الحلقات شكلت فيلمًا روائيًا طويلًا يجمع بين أجزائه الستة مجموعة من الأساطير والحكايات عن الغرب البريّ. لا نريد الإطالة فأمامنا الكثير مما يجب أن يقال عن هذه الملحمة التي تستحق المشاهدة مرات عديدة للتأمل ببراعة إخراجها والوقوف عند مفهوم كتابة النصوص القصيرة للسينما، فقد برع الأخوان بالكتابة أيضًا والاقتباس الأدبي من تلك الحقبة، وعلى وجه الخصوص من الكاتب المشهور ذائع الصيت في فترته جاك لندن، والكاتب ستيوارت إدوارد وايت الذي استند على تجاربه الخاصة في الغرب الأمريكي لكتابة قصص الأسفار وحكايات المغامرة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف جلبت الاستخبارات الأمريكية "مزرعة الحيوان" إلى السينما؟

وظّف الأخوان كوين تلك العودة بغية خلق أنطولوجيا تقدم فهمًا جديدًا عن تلك الأساطير، يقوم بها مجموعة مهمة من الممثلين والمغنين المشهورين في الثقافة الأمريكية، إلى جانب الرسوم التعبيرية والعبارات الأدبية والشعرية التي تبدأ وتنتهي بها كل حكاية.

الفيلم يبدو لنا كأنه كتاب حكايات يفتح أمامنا لنستكشف ما تتضمن قصصه القصيرة من تجليات عوالم الغرب وأساطيره. كتاب قصص من الغرب الأمريكي، هذا المكان البريّ الخاص والإشكالي، مساحة من الأرض يسود فيها العنف، بقيت متروكة ليفعل فيها القوي ما يشاء. وُظّف هذا المكان سينمائيًا بل وحُمّل دلالات تاريخية شاهدناها في أساطير الأبطال الهوليوودية، عن الأبطال الذين كتبوا تاريخ تأسيس أمريكا، وانتزعوا حرية بلادهم من أناس بريين. ليأتي فيلم الأخوين كوين ويأخذنا إلى المكان ذاته ويقدم لنا قصصًا عن موت البشر فيه، كوثيقة سينمائية ساخرة ومتأملة لتلك الطبيعة.

تبدأ كل قصة برسم من هذا الكتاب يختزل معنى أو حكمة مراد تقديمها من خلال القصة/الرحلة التي سنعيش تفاصيلها هناك. هذا الهناك يتحدد مكانيًا من خلال تفاصيل حسيّة معروفة يبرع الفيلم في تصويرها، فنرى حضورًا كثيفًا للرحلة وتيمة الانتقال، في كل القصص/اللوحات هناك عربة يقودها خيول، أو إنسان جوّال على ظهر خيله. كما تشكل الصدف التي تزين هذه المغامرات جوهرًا أساسيًا في حكايات الطريق تلك، فكيف إذا كان هذا الطريق ليس طريقًا حياديًا، وإنما هو طريقٌ بريّ يحمل دلالات تاريخية؟ كما يمكن التأمل وملاحظة ذلك في البوستر الرسمي للفيلم، حيث تشكل كتابة ملحمة باستر سكراغز المركز وبؤرة النظر، ويدخل عليها عبر طرق فرعية عربات تجرها خيول وفرسان معلنةً وصول ما إلى المعنى بعد انقضاء الرحلة، في استلهام واضح لروح وتقاليد الحياة في الغرب الأمريكي. 

ملصق الفيلم

إذًا ستة حكايات وستة أفلام قصيرة يقدمها الفيلم المعنون بعنوان أول حكاية لتأتي كلمة The Ballad "الملحمة" فتعطينا انطباعًا بالكثافة الشعرية والبعد التاريخي لما سيجري، فنتلقاه كقصيدة فردانية رثائية وغنائية تغزر فيها الحكم والانطباعات حول المكان. في الجزء الثاني من العنوان نصادف اسم علم لا نعرف عنه شيBuster Scruggs ، سيرسم روابط بين القصص وسيقدم صورة استثنائية عن المكان في الحقبة تلك. أراد المخرجين أن يعتمدوا على تلك الشخصية لتقديم تصورهما المعاصر عن ذلك المكان البعيد.
البحث عن صديق لا يغش في لعبة البوكر

الفارس الجوّال باستر سكراغز يتنقل بين الوديان القاحلة ويغني أغنيته الافتتاحية للفيلم وللحكاية، بحثًا عن المياه الباردة. يغني سكراغز وبهدف الغناء فقط، ومن وراءه المتعة نراه في صورة البطل على ظهر حصان يدقّ على غيتاره في استدعاء لصورة أبطال أفلام الغرب الأمريكي القاسي، ذكرنا الممثل تيم بلاك نيلسون بأسطورة البطل الوحيد، يمتطي حصانه متقدمًا باتجاهنا من الأفق البعيد، صورة لراكب المسافات الشاسعة، صورة بطل الويسترين المنفصل عن الآخرين والمنشغل بحياته. الهدف الأعلى لبطلنا هو الشرب، وغسل غبار الصحراء العالق في حلقه من طول السفر، تليها أهداف صغيرة عبر مراحل الرحلة تكشف عن تحطيم لصورة الأبطال التقليدين.

الفارس الجوّال باستر سكراغز يتنقل بين الوديان القاحلة ويغني أغنيته الافتتاحية للفيلم وللحكاية، بحثًا عن المياه الباردة

يتحدث معنا باستر سكراغز مباشرةً، مخترقًا قواعد اللعب، ويقدّم نفسه كحكواتي وشخصية متمردة على بشاعة محيطه، يهوى الأغاني لأنها تساعده على تحمل المسافات والطبيعة المملة، يريد أن يأخذنا معه في عوالم رحلته بغية الكشف عن طبيعة البشر المخادعين الغشّاشين. يتمتع بالخفة وسرعة البديهية يغزو فضاء اللعب/الحانات والشوارع بالنشاط الحركي وهو مستمتع بما يقوم به، إلاّ أن ذلك لن يكتمل ولن يدوم له وحده. باستر سكراغز مطلوب للشرطة باعتباره مجرمًا، هو لا يقتل بدون سبب ولا يكره أخيه الإنسان –كما يخبرنا- إلاّ أنه يكره العادات السيئة للبشر. يتحقق شرط الخطاب المباشر الذي يقوم به البطل ليدافع عن نفسه أمام المشاهد الذي يأخذ موقع المحاكم. وكأننا أمام فصل بريختيّ (من بريخت) يعرف فيه البطل ما الذي سيحدث ولكن يجب أن نعرف كيف حدث.

اقرأ/ي أيضًا: أفضل 16 فيلمًا على الإطلاق للمخرج الأمريكي ستانلي كوبريك

يوظف المخرجان تفاصيل المكان بغية خدمة الحكاية. أجواء الويسترين بما فيها من رياح محملة بالغباء تلسع الوجوه، وتسمها بالقساوة والانفعالات المبالغة فيها، نراها بشكل فج في حانات مكتظة بالخارجين عن القانون، والمتأهبين للقتل. من هنا يمكن الوقوف عند حكمة الأخوين كوين في استحضار الغرب الأمريكي ووضعه ضمن سياق روائي وتوظيفه سينمائيًا في قوالب تراجيكوميديّة. لقد قدما محاكاة ساخرة لأسطورة بطل الويسترين البعيد، البطل الذي لا يقهر ولا يفرغ سلاحه من الرصاص وينتصر دومًا على أعدائه، إلاّ أن بطلنا باستر سكراغز ليس بطلًا بالمعنى التقليدي للكلمة، كما أبطال أفلام الويسترين المكتظة برجال العصابات والقتلة، فتبدو الأفعال التي يقوم به بطلنا أشبه بتفريغ لأسطورة البطل التقليدية، إذ كل ما يقدم عليه هو الدفاع عن النفس في فضاء يُشرّع امتلاك السلاح واستخدامه، فيصبح الفضاء الذي ينزل فيه سكراغز بغية الشرب هو فضاء الموت المجاني، فضاء اللعب مع البشر المخادعين والذي يقود بدون أدنى شك إلى الموت. كل شيء متوقع إلّا أنه عنيف ومجاني وسريع، هذه الصفات أضفت على ما يجري بعدًا ساخرًا فسقطت الأسطورة المسبقة وبقيت الحكمة. "من يراها يلعبها" وقد لعبها سكراغز على أكمل وجه. مات عندما حان دوره بالموت، وقد جاء من يهزمه ويظهر ضعفه أمام كل استعراض سرعة البديهة التي قدمها في حكايته، مات عندما أساء التقدير وكان موته قدرًا مستحقًا. وفي ذلك هدم فعلي لصورة البطل خارق الذكاء سريع البديهة الذي ينجو من كل أشكال الموت. تمتد تلك الصورة في الحكاية/اللوحة الثانية في مثال أقرب للمهرج منه للبطل.

سارق البنك المغفل يموت مرتين

تحمل هذه الحكاية عنوان "الرصاصة التي اخترقت القدر" والتي تدلّ على حماقة بطلها. بطل لا يتمتع إلاّ بميزة واحدة وهي إطلاق الرصاص، وحتى هذه الميزة ريثما يفقدها أمام من يتغلب عليه بالفطنة والذكاء وحسن التصرف. يقف بطلنا أمام بنك يرتفع لوحده كمكان مقفر في الصحراء أمامه بئر مياه غير صالحة للشرب، في إشارة ساخرة لمفردات المكان بعينه، فنسأل أنفسنا من سيأتي إلى هنا إلاّ قطاع الطرق، يتقدم البطل ذو الملامح المتعبة وحيدًا أمام البنك يدخله بغية سرقته، فيواجه موظف البنك العجوز عبر ردٍّ متقن واحترازي، بحركة سريعة لا تنم عن أن هذه السرقة ستكتمل، لكن البطل المغفل قليل الحيلة ضيق الأفق يكملها، ليلقى مصيره المحتوم وهو الموت، يحاكم على عجل محاكمة سريعة من قبل رجال شرطة الإقليم. يكون عندها فاقدًا للوعي بسبب ضربة مباشرة تلقاها بطريقة مضحكة من العجوز، عندما يستيقظ يرى نفسه معدًا للشنق بطريقة يراها غير عادلة. يفلت من الشنق لأن الصدفة جعلت السكّان الأصليين ينقضون على رجال المحكمة ويقتلونهم، إلاّ أن عدو عدوك ليس صديقك كما خطر للسارق البطل. المغفل لن يفلت من الموت مرتين، فقد اقتيد مرة أخرى للشنق بعد نجاته بمحض الصدفة أيضًا، ويحاكم هذه المرة على جريمة لم يرتكبها. فقد التقى بسارق آخر كان قد ساعده على النجاة ولبّسه قضية أخرى كانت نهايتها الموت.

عبثية الموت تلك ومجانيته تفقد البعد الأسطوري قيمته، وتزيل عنه الصورة النمطية التي عملت السينما الأمريكية لوقت طويل على تكريسها. يقدم الأخوان كوين عبر مكان خاص أدبيًا وسينمائيًا رؤيتهما المعاصرة للبطل الأمريكي، ساعدهما ذلك على الكشف عن نقاط ضعف في ذلك الفضاء الخارج عن القانون والمليء بالعنف.

إلى جانب ذلك، جاءت صورة السكان الأصليين بعيدة عن منطق التعاطف والمقارنة، وكأنهم أشبه بالديكور المتحرك الذي يؤثر بمنطق الصدفة على خطة سير الحكاية. قلة الفطنة وانعدام الحيلة تسببان موت البطل المغفل، لنرى في هذه الحكاية مرة أخرى تحطيم لصورة بطل الويسترين الخارق بطريقة ساخرة جدًا، تظهر عبثية الموت ومجانيته على تلك الأرض.

تذكرة طعام مقابل فنان واحد

في جو مثلج وطبيعة من شدة قسوتها لا تبالي بعبور البشر، تتقدم عربة السيد هاريسون وعصفوره نحو إحدى البلدات الصغيرة لتقديم عروضها المسرحية. تفتح الستارة بعد تجمع الجمهور، في استعادة مدهشة لتقاليد العروض المسرحية، حيث يحمل كل متفرج كرسيّه الخشبي، مختارًا مكانه أمام الخشبة الصغيرة المتحركة التي تصلح لاستخدامات متعددة، ينتظر بشغف ظهور الممثلين، تفتح الستارة لتأذن ببدء العرض، يظهر أمامنا جذع رجل بلا أطراف، موضوع على كرسي خشبي، وحيد على الخشبة الصغيرة، لديه الكثير من القصائد والحكم يلقيها على مسامع المتفرجين المنذهلين والمتأثرين.

"لقيت رحالة في بلاد قديمة، قال لي: ثمة ساقان عملاقتان لا جذع فوقهما، تنتصبان في الصحراء وقربهما وجه مهشّم نصفه غارق في الرمال، تدّل نظرته والتواء شفتيه وتعبير السيطرة الباردة البادية عليه، أنّ النحات أجاد كنه تلك المشاعر، التي لا تزال باقية مطبوعة على هذا الجماد، اليد التي سخرت منها، والقلب الذي رعاها، وعلى القاعدة تظهر هذه الكلمات... اسمي أوزيماندياس، ملك الملوك، انظر إلى منجزاتي أيها الجبّار وابتئس!".

تلك الكلمات من قصيدة تسمى أوزيماندياس للشاعر الإنكليزي بيرسي بيسشي شيلي، والتي يذكر بأنه كتبه إثر تأثره بوصول تمثال هائل لرمسيس الثاني إلى لندن، التمثال الذي سادت سمعته أنحاء أوروبا لشدة جماله وإتقانه.

تحوي لوحة "بطاقة وجبة الطعام"، في فيلم الأخوين كوين، صورة مؤثرة عن الفنان الذي يروي التاريخ ويخبر القصص

تشكل القصيدة إلى جانب بعض الاقتباسات من خطاب للرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن من خطبة شهيرة له في مقبرة للجنود: "حكومة الشعب التي يقودها الشعب من أجل الشعب لن تختفي عن هذه الأرض". هذا الخطاب اليوتوبيّ حول العدالة، يلقيه شخص يفتقد للعدالة في سيرته، رجل معزول ومنتهك يقدم الفن من أجل الطعام، في ذلك محاكاة ساخرة لجزء كبير من التاريخ الأمريكي وعلاقته مع الإنسان بأشد حالته سوادًا وبؤسًا.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "½8".. كيف للمرء أن يتأكد أنه ليس يحلم؟

إلى جانب بعض المقاطع الشكسبيرية من مسرحية تاجر البندقية، كما اقتبس الممثل قصائد لشكسبير من السونيتات: 28، 30 والتي كتبت كقصائد حبّ لرجل، لكنها غير معروفة إذا كانت ذات غرض جنسي أم عن أمر آخر، وبعض المقاطع من الإنجيل.

تشكل الاقتباسات الخطاب اللغوي الوحيد في الحكاية/اللوحة، يرددها هذا الرجل المنتصب كتمثال لا يقدر على فعل أيّ شيء ولا يمكنه الحركة، يقدم عروضه أمام الجمهور لقاء الطعام الذي يقدمه له السيد هاريسون.

يبقى صامتًا طوال الوقت في موقع المتأثر غير المؤثر في الحياة العادية، يمكن اعتبار النصوص التي يلقيها هي كل ما يريد قوله عن العالم، وفيها يتنبأ بالموت بشكل صريح من خلال استعارة قصة هابيل وقابيل.

تحوي هذه القصة السينمائية صورة مؤثرة عن الفنان الذي يروي التاريخ ويخبر القصص والحكم، لا يملك قوة التأثير في ذلك المجتمع البريّ القاسي، ولا يمكنه أن يأخذ دوره فيه لوجود إعاقة حصرت نشاطه باستخدام اللغة عبر روي الحكايات فقط. وفي إشارة أخرى لأن من يقول الحقائق وينطق بالحكم هو من لا يقوى على مواجهة قسوة الحياة، إنما القادر فهو مسيطر ومنشغل بأهوائها.

بالعودة إلى شخصية الفنان، يبدو وكأن دوره مقتصر على التسلية والمتعة، وفيما يقوله في هذه اللوحة تغيب المتعة تمامًا لذلك لم يعد هناك جمهور ينتظر تلك العروض وما من تجمعات كبيرة أمام خشبة العروض الصغيرة تلك، وعليه فلم يعد الشعر والأداء يجلب لقمة العيش لصاحبه، وصار على السيد هاريسون أن يستبدل تذكرة الطعام تلك بعروض مكسبة وأكثر متعة. وعليه ستكون نهاية بطلنا من جنس المكان وتجلياته الموحشة، الموت بطريقة تراجيدية مؤثرة، والاستعاضة عنه بفنان آخر وقوفًا عند طلب الجمهور.

الجدير بالذكر بأن هذه القصة تتمتع بفنية عالية تمكن الأخوان كوين من إظهارها عبر الممثل هاري ميلنغ الذي يعتبر واحد من أهم شخصيات سلسلة هاري بوتر، كما ويحسب للممثل المشهور ليام نيسون بطل فيلم "لائحة شندلر" أداءه لشخصية السيد هاريسون راعي الفنان والمتعة. مما لا شك فيه بأن طبيعة المكان لعبت دورًا جوهريًا في السرد، من خلال الأجواء المثلجة الباردة التي زادت من أزمة بطلنا وأثرت على مصيره، ومن الأمور التي ساهمت بإضفاء طابع الفنية في تلقي هذه الحكاية كان توظيف شكل العرض المسرحي في خدمة الحكاية.

وادي الذهب حيث لا أثر للإنسان هناك

في لقطات بديعة للطبيعة الأم المتروكة دون تدخل الإنسان، يفتتح الأخوان كوين حكايتهما الرابعة على مساحة خضراء مكتفية بما فيها، ريثما يدخل إليها العنصر البشري بغية البحث عن الذهب. في هذا المكان المسمى وادي الذهب، يظهر طمع الإنسان غير المحدود بعلاقته مع الطبيعة، يعتبر نفسه مالكها والمتحكم الوحيد بها، كمنحة أو عطيّة أهديت له. ينطلق رجل عجوز يلعب دوره المغني والممثل المشهور توم ويتس، ينطلق بأغانيه التي تعظم العطايا والنعم في وادي الذهب هذا ويتقدم نحوه أمام تراجع وجود المخلوقات الأخرى.

في لقطات بديعة للطبيعة الأم المتروكة دون تدخل الإنسان، يفتتح الأخوان كوين حكايتهما الرابعة على مساحة خضراء مكتفية بما فيها

في بحثه عن الذهب يُظهر طمعًا يشوه صورته، حيث يطلق يديه ومعوله لحفر الوادي وتقليب تربته، حتى بالتعدي المباشر على ممتلكات مخلوقات الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "صمت الآخرين".. صرخة في وجه الحرب والاستبداد

في حكاية وادي الذهب المخضر ذلك صورة معاكسة لصحاري الغرب الأمريكي، ولكن حضرت فيه إحدى أهم تجليات إنسان الغرب الأمريكي وهي الطمع والبطولة الفردية، إلى جانب تخريب الإنسان للطبيعة بفرض السيطرة المطلقة عليها.

ينقض رجل غريب على الحفّار الباحث عن الذهب ويطلق عليه النار، إلاّ أن الأخير لا يموت بل يقرر الانتقام ممن جاء في النهاية ويريد أن يحصل على الذهب المكتشف. صراع على الثروة يخلّف دماء في مكان حيادي وآمن، سببه تدخل الإنسان والجشع المبالغ فيه. لتنتهي هذه القصة بقبر محفور في وسط الطبيعة، كنتيجة حتمية أفضى إليها صراع فجائي بين البشر هدفه الطمع.

ماذا سيقول السيد آرثر لبيلي ناب؟

الصدفة تحكم الفعل، هذا ما تقود إليه المغامرة في أجواء يغزوها رعاة البقر المغامرون المحتلون. في هذه اللوحة يتنفس الفيلم وتأخذ الأحدث بعدًا روائيًا، يجب التوقف عند هذه اللوحة باعتبارها حكاية سينمائية مستقلة، رغم عدم خروجها عن السياق المفترض للحكايات السابقة، فهي تمنحنا الفرصة لأخذ النفس ومتابعة أحداث حكاية درامية أخرى أكثر تفصيلًا وتضمين مما سبقها.

على إيقاع سير القافلة المتوجهة نحو مدينة أخرى عبر الصحراء، تمضي السيدة لونغاباو مع أخيها التاجر، والذي يطمح لتزوجيها من شريكه حينما يصلان إلى وجهتهما. تصيب الكوليرا الأخ ويموت على الطريق، فتضطر الأخت لمتابعة رحلتها مع القافلة دون هدفٍ مرجو، إلاّ أن سائس عربتها يتمرد إثر موت الأخ ويطالب بمبلغ كبير، إثر وعد قطعه الأخ المتوفى.

الصدفة تحكم الفعل، هذا ما تقود إليه المغامرة في أجواء يغزوها رعاة البقر المغامرون المحتلون

لا يمكن للسيدة لونغاباو أن تتخذ القرارات بمفردها، فهي لم تعتد على اتخاذ القرار، هي تابع، واليوم لم يعد هناك لا تابع ولا مرؤوس ولا قرار يؤخذ. تلجأ في حل أزماتها للسيد بيلي ناب الذي يتولى مع السيد آرثر رعاية شؤون القافلة. يأخذ السيد ناب على عاتقه حلّ مشاكلها، ويقرر الزواج منها بعد وصول القافلة، بهدف الاستقرار وترك مهمة الأسفار والترحال، الأمر الذي لم يعجب السيد آرثر.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم To The Bone.. الجوع وسيلة للاحتجاج العاطفي

يتولى بيلي ناب شأن الساس وكلب السيد لونغاباو، المسمّى بالرئيس بيرس، والذي لا ينفك يثير شكوى المسافرين بسبب نباحه المستمر، إلاّ أنه كان يلقى الاحترام من الجميع. في حضور الكلب صورة هزلية عن مجتمع الترحال هذا الذي يحترم الكلب لمجرد اسمه. والجدير بالذكر أن فرانكلين بيرس الذي أخذ الكلب اسمه، هو أسوأ رئيس مر على تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ويعرّف عنه مواقفه المناصرة للعبودية، وكونه أحد أسباب الحرب الأهلية الأمريكية. تعطينا هذه الإشارة قراءة واضحة للأجواء السياسية والاجتماعية التي تجري خلالها أحداث الفيلم كاملًا وهذه الحكاية بشكل خاص.

بالعودة إلى الكلب، الرئيس بيرس، نجده يشكل عتبة يمر عبرها مصير الشخصيات ففي دلالة اسمه إشارة ثقافية للموت، على الرغم من وجود فكرة الموت بشكلها المجرد في حكاية القافلة وفي سياق أحداث الحكاية، إلاّ أنه حضر بشكلٍ مباشر في حكاية الرئيس بيرس الكلب الذي لم يستطع بيلي ناب قتله لأنه هرب، وبسببه تنفصل أليس لونغاباو عن القافلة إثر عودته، فتلقى مصيرها بعد معركة جرت بين السيد آرثر والسكان الأصليين. يُشيع الرئيس بيرس جثة صاحبه وصاحبتها، ليعود للانضمام إلى القافلة مع السيد آرثر. يمكننا أن نتخيل النهاية.

مشاعر الحب في هذه الحكاية أشبه بحاجة ملّحة تفرضها طبيعة المكان. من خلال العنوان يمكننا أيضًا التنبؤ بالبعد العاطفي لما سيجري بعد موت أليس. إذ لم يعرف السيد آرثر كيف سيخبر السيد ناب بالحقيقة، بعد أن خطط الأخير لحياته بناءً على الصدفة التي جرتها هذه المغامرة.  

السائس لن يتوقف رغم نهاية الفيلم

في آخر لوحات الفيلم، يكمل المخرجان حكاياتهم عبر نماذج إنسانية مختلفة في عربة مسرعة تنقلهم في عبور مؤقت إلى وجهة محددة لأسباب مختلفة.

رجل بريّ، امرأة متدينة، رجل ملحد ينتقلون في عربة مسرعة بين لحظة غروب الشمس وحلول الليل، في إحالة للعبور المسرع بين عالمين. ثلاثة نماذج تصلح لدراسة واختبار يقوم بها رجلان يوجهان الرحلة، هما صائدا أرواح –على حد تعبيرهما- ومهتمان بأنواع البشر وتصنيفهم. يقودان هذه الرحلة الأخيرة في الفيلم نحو فندق مجهول الملامح، يبدو وكأنه محطة عبور إجبارية ستمر عبها الشخصيات، ثلاثة نماذج مختلفة من خلفيات اجتماعية مختلفة، ورجلان غريبا الأطوار وكأنهما ملاكا الموت، وسائس لا يتوقف يصر على إلهاب الخيول بسوطه، بالإضافة إلى وجود جثة ملفوفة نقلت مع المجموعة إلى المكان عينه.

الرحلة تلك في عربة ضيقة لا تتسع لكل الأغاني والأفكار الدائرة فيها، تحمل كل فرد من أفراد على النظر إلى نفسه من خلال محادثته مع الآخرين، حيث يسمع المختلفون بعضهم البعض، وكأنها أشبه بمحطة يحاكم الإنسان فيها نفسه أمام أفكاره ومعتقداته، قبل الوصول خلال قلب الليل إلى مكان يختفي فيه الناس بعد أن قضوا رحلتهم بالتعبير عن الذات بطبيعية.

رجل بريّ، امرأة متدينة، رجل ملحد ينتقلون في عربة مسرعة بين لحظة غروب الشمس وحلول الليل، في إحالة للعبور المسرع بين عالمين

وهنا تجدر الإشارة إلى أن أقل الشخصيات قلقًا، كانت شخصية الرجل الفرنسي الذي يؤمن بالماديات ويتحدث عن أرائه ببديهية أمام تحفظ المرأة المتدينة وغرابة الرجل البريّ. وهو آخر من يدخل إلى الفندق لأن عدم اليقين لم يدفعه للتساؤل أمام ما اعتبرناه محطة العبور نحو الموت، إنما سلم بالحاضر.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "السقوط".. تأريخ بصري لأيام الرايخ الثالث الأخيرة

في هذه اللوحة الأخيرة، يضع الأخوان كوين الأمور في نصابها، بعد رحلة طويلة وممتعة عن عبثية الموت في الغرب.

هذه الأجواء الختامية لفيلم من نوع فريد، يستلهم أجواء الغرب الأمريكي ليقدم مقولته عن الموت المحتوم وفكرة المصير، ونظرة في طبيعة البشر، وكأن الفيلم بقصصه الستة مرحلة للعبور نحو فهم جديد يقدمه الأخوين كوين للإنسان الأمريكي من خلال خلق مقاربة عبر السينما لواحد من أهم مفردات السينما الأمريكية وفترة محددة من تاريخها، فترة البطولات في أفلام الويسترين. مستلهمين إلى جانب كل ذلك تفاصيل مادية تعبر عن سلوك البشر في تلك الحقبة بغية تقديم أنطولوجيا سينمائية عن فكرة الموت.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم The Green Mile: مداواة الشر بالشر

فيلم "آيات النسيان".. بلاد سكّانها صامتون