25-ديسمبر-2022
من احتجاجات في تونس مطلع العام الجاري (HRW)

من احتجاجات في تونس مطلع العام الجاري (HRW)

بدأ عام 2022 مثل أعوام عديدة قبله عربيًا، بلا جديد يمنح أملًا. بداية جاءت على أنقاض انقلابين في تونس والسودان، وأوضاع تزداد سوءًا في سوريا ولبنان ومصر  ودول أخرى عديدة، مع اعتقالات وانهيار متواصل في الأوضاع الحقوقية.

في تونس، الراية التي حمل باسمها شباب الربيع العربي أحلامهم الطازجة بالحرية والديمقراطية، ثم احتموا بها لاحقًا كآخر نموذج ناجح لثورات فشلت، يزداد الوضع سوءًا

في تونس، الراية التي حمل باسمها شباب الربيع العربي أحلامهم الطازجة بالحرية والديمقراطية، ثم احتموا بها لاحقًا كآخر نموذج ناجح لثورات فشلت، يزداد الوضع سوءًا. الأزمة الاقتصادية تتفاقم، حتى وصلت إلى اختفاء سلع أساسية من الأسواق، وتغيير للدستور لا يقبل أكثر من تفسير واحد؛ يرسخ من حكم الفرد الواحد، ويضع كل السلطات في يد الرئيس، ثم أخيرًا انتخابات شكلية على برلمان بلا سلطات.

 ليبيًا، تدهورت الأوضاع أكثر بعد الانهيار الرسمي لاتفاق جنيف، وتعيين مجلس النواب حكومة موازية لتلك المعترف بها دوليًا، وتعثر ملف الانتخابات، ومحاولات اقتحام عسكرية متجددة لطرابلس. أما يمنيًا، فمعيشة ملايين الناس لا تزال على حافة المجاعة، مع تفشي العديد من الأمراض والأوبئة واستمرار أطراف النزاع في تمزيق البلاد، ثم انهيار الهدنة التي وإن بشكل غير واقعي، تعلقت الآمال بها. وفي العراق، رغم الحراكات المستمرة، سواء تلك التي يقودها الشباب في الشارع أو المعارضة، لا يزال تصور واقع بعيد عن المحاصصة الطائفية، صعبًا إلى حد كبير. أما في السودان، رغم الأمل بنجاح اتفاق ينهي الحكم العسكري في البلاد، لا تزال التنظيمات الشبابية على الأرض تشعر أن لا أحد فعلًا يمثلها في السياسية.

في لبنان، يهيمن الفراغ السياسي، دون أن يملأه إلا الاصطفاف الطائفي السياسي الذي يسيطر على حاضر البلاد منذ عقود. لا تزال البلاد تعاني من أزمة معيشية خانقة، ومن انهيار للقطاع المالي، على أنقاض انفجار هز العاصمة بيروت وروع سكانها. الفراغ السياسي والمحاصصة الطائفية، انعكسا في فشل إدارة ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، الذي انتهى كما يقول مراقبون إلى تنازل عن حقوق اللبنانيين تحت شعارات كبيرة ورنانة.

أما فلسطين وقضيتها التي تنتعش في تطلعات الشعوب العربية لمستقبل أفضل، فإن حالها حال هذه التطلعات، مستمرة في القلوب، مخنوقة في السياسات

في سوريا، تستمر الإبادة المنظمة للسوريين على أيادٍ كثيرة، النظام وروسيا وإيران وحزب الله، فيما تضيف العمليات التركية في الشمال السوري أبعادًا جديدة للمعاناة. وحيث تشهد المناطق التي يسيطر عليها النظام تململًا واحتجاجات تتطور مع الوقت رغم القمع، حيث يفشل النظام في تلبية الحاجات الأولية للناس، فإن النازحين في شمال البلاد يبدأون، مثل نهاية كل عام، رحلة جديدة مع الشتاء البارد، دون إمكانيات بسيطة للتدفئة والحماية.

أما في الأردن، فقد تفاقم التأزم في الوضع الاقتصادي المرافق للاحتقان السياسي العميق، والخنق المتواصل للحريات الإعلامية والصحفية، حتى بات الشارع على وشك الانفجار من جديد، بشعلة آتية من مناطق بعيدة عن العاصمة، وتحديدًا من الجنوب الأكثر تهميشًا في البلاد، حيث كانت الزيادة الأخيرة في أسعار المحروقات لقطاع واسع من السكّان هناك، لاعتماد نسبة كبيرة من أبنائهم على العمل في قطاع النقل. ومع إصرار السلطات على تبني الحلّ الأمني في التعامل مع الأزمة، ظلّت تهيمن بين المواطنين فكرة مفادها أن البلاد متجهة نحو مجهول.

أما الوضع الجزائري، فرغم التحسن الاقتصادي نسبيًا نتيجة زيادة الطلب على مصادر الطاقة في العامين الماضيين؛ إلا أنه لا وجود لبوادر واضحة لانعكاس هذه الحالة في تحسن معيشي لدى الجزائريين، مرده ارتفاع مستوى التضخم وأسعار المواد الأساسية، حيث تحتاج الدولة كما يقول مراقبون إلى عملية إصلاح عميقة، إضافة إلى محاربة الفساد، وليس فقط استغلال الحملة على الفساد سياسيًا. كما استمرت الاعتقالات للناشطين والصحافيين، وزادت ممارسة الرقابة على الصحافة وغلق المنابر الإعلامية، مع قوانين جديدة يُرجح أن يشرعها البرلمان تفرض مزيدًا من الشروط والتضييقات على عمل الإعلاميين وحرية الإضراب والعمل النقابي.

دول عربية أخرى عديدة شهدت أزمات واحتجاجات. قوانين جديدة مقترحة أو تم سنها لضبط ومراقبة الصحافة وحتى النشاط عبر السوشال ميديا، تعلن بوضوح نهاية صورة وردية حملها الشباب العربي يومًا عن هذه الفضاءات كمساحات بديلة. سيطرت السلطة على هوامش أكبر وأوسع، خنقت الفضاء العام والخاص، وأحكمت الضبط على أي فرصة للتغيير، وطاردت حتى التطلعات العفوية له. مزيد من الاعتقالات للصحافيين والناشطين، ومزيد من قمع التجمعات.

اقتصاديًا، فإن عواقب الجائحة الاقتصادية كانت مثل عواقبها الصحية، ثقيلة وعميقة الأثر، بل وكشفت عن مستويات فجة من الإهمال وتخلف السلطة عن أدوارها الأولية. أما على المستوى الاجتماعي، أو ربما على التخوم المشتركة بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تزايد العنف الداخلي بشكل كبير، وتكررت جرائم قتل في عدة دول عربية. مشهد يجيء ربما نتيجة لكل ما سبق، وصورة ترسم بدقة تفاصيل مرحلة ما بعد الربيع العربي، بإحباطاتها الكثيرة، ومخاوفها التي تتحول، يومًا بعد يوم، إلى حقائق.

أما فلسطين وقضيتها التي تنتعش في تطلعات الشعوب العربية لمستقبل أفضل، فإن حالها حال هذه التطلعات، مستمرة في القلوب، مخنوقة في السياسات. استمر التطبيع الذي وصل إلى مراحل استراتيجية، وانتهى إلى تحالف بين القوى المناهضة للربيع العربي وإسرائيل. استغلت إسرائيل الحالة العربية العامة من أجل فرض مزيد من القمع، فقتلت الصحافية شيرين أبو عاقلة، وتهربت من المسؤولية، كما اغتالت عشرات الأطفال بدم بارد، وضمت مناطق جديدة، وأصبح المستوطنون المتطرفون على رأس الحكومة في دولة استعمار استيطاني.

أما العرب خارج الوطن العربي، أولئك الذين انتهت مصائرهم إلى اللجوء في دول كثيرة، أو وهم يحاولون اللجوء، فكانوا دائمًا الخارج الذي يعكس صورة الداخل. لاقى العشرات منهم حتفهم هذا العام، في طريقهم للبحث عن حياة أفضل ولو بقليل، أما معظم من استطاعوا الخروج طوال السنوات الماضية، فما زالوا عرضة للعنصرية والتمييز وللابتزاز مع اقتراب كل انتخابات، يعيشون حياة يحكمها اللا يقين والخوف من المستقبل.

على النقيض من هذه الصورة، حملت نهاية العام أملًا جديدًا بالنسبة لملايين العرب على طول الوطن العربي، بعد استضافة واحدة من أكبر التظاهرات الرياضية في العالم في قطر من أواخر تشرين الثاني/نوفمبر حتى أواخر كانون الأول/ديسمبر. وبمعزل عن التنظيم الناجح لحدث عالمي، الذي سينعكس طويلًا على المنطقة وصورتها في العالم، فإن المدرجات حملت ما أعاد إلى الأذهان الربيع العربي مرة أخرى: جماهير واعية بعروبتها، فخورة بانتمائها الحضاري، وتحمل فلسطين جامعًا وناظمًا لتطلعاتها.

في سياق عربي معقد، حيث القمع والموت والاحتلال والتنكيل في الداخل، والعنصرية ورهاب الإسلام وبقايا الهيمنة الاستعمارية من الخارج، يبقى الأمل واقع من لا يقنعه الواقع

صورة تبقي الأمل ربما بمستقبل أفضل في سنة جديدة أو سنوات. ففي سياق عربي معقد، حيث القمع والموت والاحتلال والتنكيل في الداخل، والعنصرية ورهاب الإسلام وبقايا الهيمنة الاستعمارية من الخارج، يبقى الأمل واقع من لا يقنعه الواقع، ثقة خافتة بالمستقبل، غيرت قبل وقت غير بعيد شكل الوطن العربي، أسقطت أنظمة، وأعادت ترتيب دول.