26-يناير-2022

قرية سورية عام 1955 (Getty)

أنا من مكان يُعظَّم فيه الأجداد، وأيًا كانت صفاتهم ومهنهم وسيرهم.. فهم ينتهون، مع تقادم الزمن، إلى الوقوف في مصاف الأولياء والقديسين. تُنقّى حيواتهم من كل شائبة، ويُمحى من سجلاتهم كل زلل، فيغدون صورًا ناصعة البياض نعلقها فوق رؤوسنا، في مضافاتنا وفي غرف نومنا.

نعم، لن نصدق هذه الأكاذيب التي اسمها تاريخ، ذلك أننا، نحن أنفسنا، قد اختلقنا قدرًا وفيرًا منها

وفي ليالي شتاءاتنا القاسية الطويلة، نتسلى بأن نحدث أنفسنا (فلا أحد سوانا يصغي إلينا) عن أمجادهم وصولاتهم وجولاتهم، فقد كانوا جميعًا (جميعًا بلا استثناء) فرسانًا شجعانًا ناضلوا ضد الاستعمار وجاهدوا في فلسطين، ولم يعرفوا في الحق، وفي الباطل، لومة لائم.. وكانوا كرماء إلى حد الجنون، وحكماء إلى حد النبوة. امتلكوا بصر زرقاء اليمامة وبصيرة سليمان الحكيم، وعلى مدار ساعات صحوهم كانت العبارات الفذة المستحقة للخلود تنهال من ألسنتهم المباركة!

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نقرأ كتب التاريخ؟!

وماذا عن مشاجرات القبائل التي كانت تُسيل الدماء والكرامات، وتهطل فيها الشتائم على الآذان والهراوات على الرؤوس؟! إذا كان آلهة الأولمب، الذين هم أجدادنا، غير مشاركين فيها، فماذا فعلوا إزاءها؟

ومن الذي، إذًا، كان يُجلد على أيدي الدرك؟ ومن الذي كان يهرع للاختباء في معاصي الجبال كلما لاحت قبعة شرطي في الأفق؟ ومن الذي سن تقليد الهتاف للمسؤولين، كبارهم وصغارهم، وحملهم على الأكتاف؟ ومن الذي شرع باب التملق والمداهنة؟ ومن الذي شق لنا طريقنا "الآمن" إلى جانب الحائط، ودبج الدعاء الخالد "يا رب السترة"؟

.. وأنا من مكان تشيع فيه هذه القولة: "التاريخ كله كذب بكذب". طبعًا، فإذا كنا مساهمين في صناعة هذه البضاعة الفاسدة، فكيف نعود إلى شرائها ولو بأبخس الأثمان؟!

نعم، لن نصدق هذه الأكاذيب التي اسمها تاريخ، ذلك أننا، نحن أنفسنا، قد اختلقنا قدرًا وفيرًا منها.

 

في استقبال الحضارة

 

في عام 1977 وصلت الكهرباء إلى قريتنا، ولكن هذا الحدث التاريخي لم يقلق أهالي القرية بقدر ما أقلقهم استقبال الوفد الرفيع الذي سيأتي ليدشن وصول الحضارة إليهم.

قبل شهر من الموعد، أنذرت إدارة المدرسة الابتدائية آباءنا بأن عليهم أن يستروا عوراتنا، وأهمها في ذلك الوقت هي أقدامنا شبه العارية. "عليكم أن تشتروا لهم أحذية جديدة...أحذية حقيقية بدلًا من قطع الكاوتشوك الممزقة هذه..". ثم بدأنا تدريبًا مكثفًا وشاقًا نجحنا بعده في أن نغدو ببغاوات: حفظنا أناشيد وأهازيج وصفقات خماسية وسداسية وتشويحات بلهاء.

قالوا لنا إن علينا أن نحب وطننا وتاريخنا وآباءنا وأمهاتنا والشعب والاشتراكية، لكن أحدًا لم يقل لنا أنه يتوجب علينا أن نحب ذواتنا

وفي صباح اليوم الموعود كانت المفاجأة الأكثر سعادة، إذ وزعوا علينا بالونات مدهشة لم نكن قد رأينا مثلها من قبل، بالونات إسطوانية بطول قاماتنا وأخرى على شكل صرر وقلوب وكعكات نقشت عليها شفاه وعبارات مبهرجة.

اقرأ/ي أيضًا: القيامة في آب

لم ينتبه أي منا إلى وصول الوفد ولا إلى الأشياء التي فعلها في قريتنا (لابد أن يكون أحدهم قد ألقى كلمة طنانة)، وكذلك بالكاد لمحنا الكاميرا التلفزيونية التي كانت تلاحقه، فقد كانت أخيلتنا الساذجة مشغولة بشيء أكثر أهمية: أحذية جديدة لماعة تركض خلف مركبات نايلون فضائية. غير أننا سرعان ما صحونا على رشقة ماء صقيعية. لقد انتزعوا منا البالونات في المدرسة، "سنخبئها لمناسبات وطنية كثيرة قادمة". ثم في البيت أجهزوا على ما تبقى لنا: أجبرونا على خلع أحذيتنا، "سنخبئها لكم إلى يوم العيد".. هذا العيد الذي لم يأت طيلة السنوات العشرين التالية!

 

خيانة الوصايا

 

في البيت، في المدرسة، في الجامعة، وفي المؤسسة... قالوا لنا إن علينا أن نحب وطننا وتاريخنا وآباءنا وأمهاتنا وجيراننا وأبطالنا العظام.. والأشجار والعلم والشعب والاشتراكية..

لكن أحدًا (لا معلمينا ولا شيوخنا ولا مديرينا ولا مسؤولينا) لم يقل لنا أنه يتوجب علينا أن نحب ذواتنا.. لذلك فشلنا تمامًا في الالتزام بوصاياهم الموقرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن اعتياد الموت

شوارع دمشق: البكاء من سفعة برد